Image Credit: Bruce Allardice /Flickr
تُرسل إليّ صديقتي صورة مُلتقطة في حلب تظهر فيها عربةٌ لبيع أحد صنوف الكبّة، وتسألني: "شو هي الأكلة؟ كريب (crepes)؟".
لا أنتبه إلى غرابة الاستنتاج، ولا أسأل ما الذي زجّ صنفًا مثل الـ"crepes" في هذا المشهد. بدلًا من ذلك، أستغرق في تأمل عناصر الصورة: عربة، وبائع، وزبائن، ومدينة تضج بالحياة. الجدار خلف البائع جزء من السور التاريخي للمدينة على مقربة من باب أنطاكية، وأمام السور يصطف عدد من مصلحي الأحذية، مع آلات الخياطة الخاصة بهم.
كانت لهؤلاء الإسكافيين شهرتهم الخاصة، إذ يندر أن يصعب على أحدهم إصلاح حذاء، فمهما كان الضرر كبيرًا سيخرج في نهاية المطاف من تحت يده "أخو الجديد" لأنه يُتقن عمله جريًا على عادة معظم أصحاب الحرف والصناعات في حلب. ومن لطائف المصطلحات الحلبية في هذا المجال استخدام تركيب "متل عادة" (مع إسقاط أل التعريف) حين يطلب أحدٌ من الآخر فعل شيء على أكمل وجه، حتى لو كان أحدهما يلتقي الآخر للمرة الأولى سيقول له: "ساويلي ياها متل عادة"، وقد تنهر أمّ طفلها بالقول: "ابرك متل عادة"، حتى ولو كانت عادته أن لا يجلس باستقامة، فالمقصود هنا ليس عادة الشخص المخاطَب، بل المعنى المجازي العام، حيث العادة هي الإتقان.
Evgeni Zotov/Flickr
أتأمل الصورة من جديد، وأتذكر أنني كثيرًا ما تساءلت عن "الحكمة" من تحويل بقعة كهذه إلى تجمع للإسكافيين، وبالطبع دائمًا ما ظلت التساؤلات بلا إجابات. ربما بدأ الأمر اعتباطيًا: وضع أحد الإسكافيين المهرة أدواته وباشر عمله، تبعه آخر، فثالث، وهكذا كرّت السبحة، ولم تشعر جهةٌ ما – وما أكثر الجهات – بأن في الأمر مشكلة. وعلى العموم، كان الإسكافيون في رأيي "أفضل" تفصيل في تفاصيل التعديات الغريبة على سور المدينة التاريخي. على مقربة منهم كان جدي شريكًا في ملكية أحد الخانات، ثم بيع قسم من ذلك الخان لواحد من تجار السيراميك الذين احتلوا في مطلع الألفية جزءًا كبيرًا من واجهة السور بشكل غريب.
في العام 2005 حين استنفرت المدينة استعدادًا للاحتفال بعامها عاصمةً للثقافة الإسلامية (2006)، كان من المقرر أن تُزال التعديات من أمام السور في تلك المنطقة، لكنّ ذلك لم يحصل رغم أنه بدا وشيكًا. في تلك الفترة سرت أقاويل مفادها أن وفدًا من أصحاب شركات السيراميك قد طار إلى العاصمة، و«تفاهم» مع مسؤول حكومي رفيع. (أقول: "سرت أقاويل" لا خشيةً من محاكم الجريمة الإلكترونية، فقد "طار" ذلك المسؤول منذ سنوات، ولا تقليلًا من احتمال صحة الأقاويل بالطبع، فالمعلوم أنّ "دفع المعلوم" هو شكل "طبيعي" لسير الأمور في بلادنا، لكنني أتجنب الجزم بلا وثيقة إخلاصًا لما تعلمته في سنوات التعدي على مهنة الصحافة).
أعود من جديد إلى الصورة: في العمق تبدو منطقة "باب جنين"، والياء في المفردة الأخيرة لا تُلفظ مشبعة كما في اسم المدينة الفلسطينية، بل هي في منزلة وسطى بين ألف لينة، وياء. تُجمع كثير من المصادر على أن المفردة في الأصل تصحيف لكلمة "جِنان"، وأن الباب الذي كان في تلك البقعة كان يُسمى "باب الجنان". هُدم الباب في تسعينيات القرن التاسع عشر بغية توسيع الطريق، أما المنطقة فكانت منذ وعيتُ تجمُّعَ انطلاق لعدد من باصات النقل الداخلي التي تُخدم الأحياء الشعبية في المدينة، فضلًا عن كونها سوقًا كبيرة للخضروات والفواكه، وبعض السلع الغذائية الأخرى مثل الأجبان، والسمك النهري، مع خدمات نظافة شبه معدومة في المكان، برغم أن بلدية محافظة حلب تقع على مرمى حجر بالمعنى الحرفي للعبارة. غالبًا ما كان السمك المذكور "نهريًّا" على سبيل المجاز، فيما هو مُستزرع في برك صناعية، ويتناوله الحلبيون بشغف أقل بكثير من شغفهم باللحوم الحمراء.
أتنبه من شرودي على وجوب تقديم إيضاحات لصديقتي حول الصورة. كانت قد كتبت تسألني: "كبة ملفوفة بخبز؟! وليش الصوص (sauce) زهري؟".
أضحك وأنا أجيب موضحًا أن هذا السائل ليس صلصة، بل هو زيت القلي تسبح فيه قطع الفيلفلة الحمراء، ثم أشرح مكونات هذا السندوتش العجيب: "كبة، وفليفلة حدّة مقلية، وفليلفة حدّة مو مقلية، وصحتين وهنا".
Evgeni Zotov/Flickr
يسمي البعض هذا الصنف من الكبة بـ"الكبة الصقاقية"، مع الاستعاضة عن القاف في الكلمة الأخيرة بهمزة مفخّمة، وإمالة الألف طبعًا (صئيئي). والمفردة عبارة عن نسبة إلى كلمة "صقاق"، وهذه بدورها تصحيف لمفردة "زقاق" العربية الفصيحة، ويستخدمها كثير من الحلبيين حتى اليوم للدلالة على الشارع، أي شارع كان.
وبرغم أن لتسمية هذا الصنف من الكبة بـ"الصقاقية" سبب منطقي لكونها تُباع في الأزقة، فإنّ المعادل النفسي لاستخدام الاسم كثيرًا ما يكون استعلائيًّا، إذ يوصم كل ما هو "صقاقي" بأنه ذو مرتبة دنيا مقارنة بـ"البيتوتي"، كما تُطلق المفردة على سبيل الحطّ من أخلاق وتربية شخص ما، فيقال إنه "صقاقي"، وكثيرًا ما سمعتُ مربّي العصافير في حلب يتجادلون حول ثمن عصفور يحاول الشاري الحصول عليه بأقل سعر ممكن لأنه "صقاقي، لا كنار ولا بلبل".
مفردة "صقاقي" هنا تجاوزت كونها صفة لتصبح اسمًا معتمدًا لصنف من العصافير، ومن المفارقات معرفتي لاحقًا أنه أحد أنواع العصفور الدوري (يعدد المختصون نحو 300 نوع) المفارقة هنا أن تسمية العصفور الدُّوري جاءت حسب فهمي من كونه عصفورًا يعشش في الدُّور (جمع دار)، فيما التسمية الإنكليزية الشائعة له "house sparrow" (الاسم العلمي Passer domesticus)، وبهذا يلغي الدّوري الحاجز بين "البيتوتي" و"الصقاقي"!
الكبة "الصقاقية" تفعل ذلك أيضًا، فبرغم تفاخر حلب بأصنافها المتعددة من الكبة (أحصى منها خير الدين الأسدي 56 صنفًا، وذهب البعض إلى كونها 90 صنفًا، منها أكثر من 20 صنفًا شائعًا حتى اليوم، بالأحرى حتى ما قبل الحرب) برغم كل ذلك، صنعت الكبة "الصقاقية" مكانتها الخاصة حتى لدى كثر من الأثرياء، من تجار وصناعيين وغير ذلك، وكان مألوفًا أن تقرر "شلّة" (وهذه مفردة مصحّفة من ثُلّة) منهم الذهاب لتناول الكبة "الصقاقية" على واحدة محددة من العربات التي تبيعها، ولبعضها زبائن من "عِلية القوم".
على أن تلك الكبة تظل بشكل أساسي وجبة للعمّال المياومين، وصغار الكسبة، ولهذا يكثر باعتها في الأسواق والأحياء الشعبية، ولا أذكر أنني سمعت أحد هؤلاء الزبائن ينعتها بـ"الصقاقية"، بل هي في عرفهم كبّة صاجية، أو كبّة فحسب. تعرفت إليها في سوق الهال، كان والدي قد عمل في السنوات الأخيرة من حياته القصيرة بائع خضروات، وكانت موافقته بين وقت وآخر على اصطحابي في الصباح الباكر حين يشتري بضاعته من سوق الهال بمثابة منحة عظيمة يحظى بها طفل في العاشرة من عمره.
رأيتُ في سوق الهال مهرجانًا من نوع خاص استهوتني تفاصيله المدهشة، كل تلك التفاصيل كانت تشكل نصف أسبابي لحب السوق، وتناول الكبة "الصقاقية" النصف الثاني من الأسباب. لم يحتج الأمر جهدًا كبيرًا لإقناع والدي بقدرتي على تناولها، رغم كونها "ثقيلة" كما أكّد لي قبل السماح بأول لقاء بين ذائقتي وبينها. و"الثقل" هنا يأتي من كونها مشبعة بزيت يُستخدم مرات عديدة، فضلًا عن أنها لم تكن تُحشى لحمًا بالتأكيد، بل شحمًا.
كان لوالدي شرطان أساسيان قبل الوليمة "الصقاقية"، أولهما من نصيب البائع وهو ألا يضع الكثير من الفيلفلة الحارّة في رغيفي، وثانيهما من نصيبي وهو وعد قاطع بألا أخبر أمي، أما ذروة انتصاراتي في هذا المجال فقد بلغتها بعد عامين، حين صرتُ قادرًا على التهام كميات غير محدودة من الفليلفة الحارّة باستمتاع مازوتشي، يشبه استمتاعي إذ أتذكر الآن تلك الأيام!