"بقيت أكتر من ساعة عبتأمل شلون المعمرجي الحلبي كسر التناظر". لم تفارق هذه الجملة ذهني منذ توفي الأديب الكبير وليد إخلاصي قبل أيام. كنت قد سمعتُها منه قبل ما يزيد عن خمسة عشر عامًا في واحدة من جلساته في حلب. أكان ذلك في المقهى؟ أم في المكتب؟ أم في غيرهما؟ لا أتذكر، ولا يبدو هذا مهمًّا، كما لن يُشكل فارقًا ترتيب الأحداث حينها، فسواء كان إخلاصي موجودًا في الجلسة منذ بدايتها، أم أنه انضمّ إليها لاحقًا، فهي "جلسة وليد إخلاصي" الذي يصبح تلقائيًّا مركز الثقل في أي مكانٍ يحضر فيه. يحدث ذلك بمنتهى السلاسة، باستجابة طبيعية للتحول الذي يطرأ على المكان لمجرد حضوره بدماثته، بظرفه، ببديهته الحاضرة، وغِنى حديثه.
وقتذاك، كان الرجل يضرب مثالًا على أهمية التجريب، على ضرورته الحتمية، وعلى الشجاعة التي يستلزمها. وإذا كان هناك توصيف مُختصر يمكنه أن يكون عنوانًا لتاريخ إخلاصي الأدبي الحافل، فهو تجريبٌ لا يكاد يخلو منه عملٌ من أعماله المطبوعة التي زادت عن الأربعين، متنوعةً ما بين المسرحية (مثل: الصراط، ومن يقتل الأرملة، ورسالة التحقيق والتحقق، والعشاء الأخير...) والرواية (مثل: شتاء البحر اليابس، وباب الجمر، ودار المتعة، والسيرة الحلبية، وسمعتُ صوتًا هاتفًا...)، والقصة القصيرة (مثل: الطين، والتقرير، وما حدث لعنترة...)، والنقد (لوحة المسرح الناقصة).
الحياة الأدبية الحافلة لوليد إخلاصي تخللتها بعض المحطات السياسية، فاحتلّ مقعدًا في مجلس الشعب السوري العام 1999، كما كان عضوًا في «لجنة الحوار الوطني» التي شُكّلت بمرسوم رئاسي في العام 2011، قبل أن يصبح الرصاص سيد المشهد السوري المعاصر.
لم يكن التجريب في حياة إخلاصي مفهومًا أدبيًّا فحسب، كان نمط حياة لازمه حتى في دراسته الجامعية التي تنقّل فيها من مشروع طالب في كلية الطب لم يستطع تحمل رائحة الكلوروفورم، إلى طالب في كلية الآداب في دمشق، قبل أن ينتهي به المطاف متخرجًا في كلية الهندسة الزراعية في جامعة الإسكندريّة في مصر.
قبل ذلك، كان التجريب وسيلة لـ"تحسين العيش" تعرّف إليها وليد في طفولته، حين انتبه إلى أن والده الأزهري المتنوّر، ووالدته التي لم تنل تعليمًا قد اهتديا إلى طريقة لرفع جودة رغيف الخبز. كان إخلاصي قد وُلد في العام 1935 في مدينة إسكندرونة السورية، إذ كان والده أحمد عون الله إخلاصي مديرًا للأوقاف فيها.
بعد سنوات، وفي غمار الحرب العالمية الثانية (1941)، ستعود الأسرة إلى حلب التي تنتمي إليها "في ظروف تراجيدية" وفق تعبيره. كان الفقر سيد الموقف، "لم يكن وسامًا لنا، بل كانت معظم الأسر في هذا الوضع". لم يكن هناك خبز في السوق، بل كان "الاستعمار الفرنسي يوزع الدقيق بالكوبونات على الأسر". (هل تخيّل الراحل أن مدينته ستعايش ظروفًا مشابهةً بعد عقود طويلة، و"بلا استعمار"؟).
كان الأب، الشيخ الأزهري، هو البطل الأهم في مسيرة وليد. "لقد علّمني الديمقراطية"، يؤكد إخلاصي في لقاء تلفزيوني
في تلك المرحلة، كانت ربات البيوت تعجنّ في منازلهن، وترسلن العجين إلى المخابز. كانت مهمة وليد (أصغر أبناء الأسرة) حمل العجين إلى المخبز، والعودة به أرغفةً. لاحقًا، اكتشف الطفل أن خبزه كان يثير غيظ أطفالٍ آخرين، لأنهم يلاحظون أن الأرغفةَ التي تنتج عن عجين أسرته ذات جودة عالية تفوق أرغفة بقية الأسر، وسرت تساؤلات عن السر، وتخمينات بأنّ للأب "وسائله الفاسدة" للحصول على طحين عالي الجودة، فطحين العامّة كان شعيرًا ممزوجًا بقليل من القمح، لأن قمح البلاد كان يُرسل إلى جيوش الحلفاء.
بعدها، سيكتشف وليد سرّ عجين أسرته: "إنه التجريب"! كان الأبوان يعجنان دقيقهما مخلوطًا بالبطاطا المسلوقة، وتطلب الأمر تجارب عديدة للوصول إلى الخلطة الأفضل، والمقادير الأمثل، ويبدو أن الطفل الذي كبُر لاحقًا ليصبح علامة في الأدب العربي قد أمضى حياته مُجرّبًا باحثًا عن "الخلطة الأفضل".
كان الأب، الشيخ الأزهري، هو البطل الأهم في مسيرة وليد. "لقد علّمني الديمقراطية"، يؤكد إخلاصي في لقاء تلفزيوني مع طالب عمران قبل سنوات طويلة، ثم يضيف شارحًا: "في سنوات المراهقة تأثرت بتيار [فكري] كان سائدًا حينذاك، وكنت أفصح لوالدي عن اقتناعي بعدم وجود الإله. الشيء المستغرب أنه كان يستمع إليّ ولا ينهرني".
كانت للأب طريقته في مناقشة ابنه، فبعدما أصغى إليه شهورًا، تناول في أحد الأيام كتابًا من مكتبته وأعطاه للفتى المراهق كي يقرأه، وكان كتاب "حي بن يقظان" لابن طفيل، "قرأته، ثم بدأت حياتي تتغير، خصوصًا بعدما قرأت عن تراجيديا ابن طُفيل الذي أُحرقت كتبه، واضطُهد".
لاحقًا، سيكتشف الفتى أن ذلك الشيخ "هو الشخص الذي لقّحني بطعم مقاومة جراثيم التعصب وجراثيم الرأي المنفرد الذي لا يقبل الآخر".
ستدور الأيام ويتعرف الفتى إلى نموذج مختلف من "رجال الدين". حصل ذلك حين كان طالبًا في "ثانوية التجهيز" (المأمون لاحقًا)، وتطور "نقاشٌ" خاضه مع المدرس في أحد "دروس الديانة" إلى تكفير المدرّس للطالب، ومحاولته ضرب وليد الذي قاومه وأمسك يده.
عُرضت القضية على "مجلس تأديب" في غياب أعضاء بارزين فيه لم تدعُهم الإدارة، (مدرس اللغة العربية سليمان العيسى، ومدرس الجغرافيا أدهم مصطفى، ومدرس التاريخ خير الدين فارس). صدر القرار بـ"طرد وليد إخلاصي من جميع مدارس سوريا لتطاوله على المقدسات"، وحين احتج أعضاء المجلس الذين لم يحضروا الجلسة، خُفف القرار إلى "الطرد من الثانوية عامًا كاملًا". وقف والد إخلاصي، الشيخ، في صفه، وناقش الإدارة ومدرّس "الديانة" الذي رضي أن يتنازل عن "حقه" شريطة أن يعتذر الطالب منه أمام جميع طلاب المدرسة.
نال نتاج إخلاصي الأدبي نصيبًا من ردود الفعل المتعصبة، كما حدث حين قوبلت مسرحيته "مقام إبراهيم وصفيّة" بالغضب، وهوجمت من رجال دين
كان مشهد الاعتذار سينمائيًّا بامتياز، اصطف الطلبة "ميمنة" و"ميسرة" في باحة المدرسة الكبيرة. كان على الميمنة طلبة ينتمون إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، وعلى الميسرة آخرون أقل من "الشيوعيين"، و"السوريين القوميين"، و"البعثيين". اعتذر إخلاصي من المدرّس الذي طلب منه التكرار مرات "كي يسمع الجميع"، ثم قال له في النهاية: "وأنا أرفض اعتذارك". عندها – كما يروي إخلاصي – اختلط الحابل بالنابل، واشتبك الفريقان، وتدخّلت الشرطة لاحقًا (هل كان ذلك المشهد مجرد مثالٍ مبسّط عما ستعيشه البلاد غير مرة لاحقًا؟).
على أي حال، سيكتشف من أتاحت له الحياة فرصة للتعرّف على وليد إخلاصي عن قرب أن "اللقاح" الذي زوّده به والده في مراهقته كان فعّالًا حقًّا، إذ كان الرجل يبرع في الإصغاء كما يبرع في الكلام، ويلبي الدعوات لحضور عروض مسرحية لنصوصه حين تقدمها فرقٌ شابّة بحماس يفوق حماسه حين يحضر عروضًا محترفة، هو الذي دأب على القول في كثير من حواراته مع شباب المسرح في مدينته حلب: "حين يرتقي المسرح، يصبح شعبيًّا". أما من لم يعرف إخلاصي في الحياة اليومية، فتمكنه العودة إلى بعض حواراته الإعلامية ليلاحظ فعالية "اللقاح"، وسيكون لقاؤه مع الإعلامية السورية ديانا جبّور في برنامج "طيب الكلام" مثالًا مُهمًّا في هذا الإطار، كما هو نموذج لما يُفترض أن تكون عليه الحوارات الإعلامية.
في اللقاء، توجّه جبّور سؤالًا عن حضور رجال الدين في أعماله، وتحديدًا شخصية ماهر في رواية "زهرة الصندل" وشخصية عبد المؤمن في رواية "الفتوحات"، فـ"ما أعرفه قبل قراءة الرواية هو ما أعرفه بعد الرواية". تشير جبّور تحديدًا إلى عنصر سيفتقده القارئ هو معالجة التحولات الدرامية للشخصيتين المذكورتين، فيجيب وليد بلا تردد: "هي ملاحظة نقدية مهمة"، ويسترسل في الكلام بعدها عن عوالم روايته، لكن المحاورة لا تهزّ رأسها وتصمت كما يحصل كثيرًا، بل تقول بنبرةٍ تشي بوضوح بعدم اقتناعها بالجواب: "يعني.. بس بما إنو هو الموضوع يطول فما كتير.."، ليقاطعها إخلاصي ويقرّ قائلاً: "لا لا، نقديًّا وجهة نظرك صحيحة، وأنا أسلّم بها".
نال نتاج إخلاصي الأدبي نصيبًا من ردود الفعل المتعصبة، كما حدث حين قوبلت مسرحيته "مقام إبراهيم وصفيّة" بالغضب، وهوجمت من رجال دين، وأشخاص عاديين إذ "كيف يُنشأ مقامٌ لعاشقين"؟
للمفارقات، سيُكشف بعد ذلك بعقود، وقبل الآن بسنوات عن حجر منسيّ في مقام الخضر (مار جرجس) الذي كان مهملًا في باب النصر بحلب، وقد نُقش على الحجر بحروف إغريقية اسما عروسين هما أرتميس، وكاليكتي. ذلك الحجر وفقاً لما يذكره كتاب "الإشارات إلى معرفة الزيارات" لعلي بن أبي بكر الهروي "كان أبناء الملل الثلاثة يعتقدونه، ويصبون عليه ماء الطيب والورد".
رحل وليد إخلاصي يوم الأحد 20 شباط/فبراير 2022، ودُفن في حلب بعد مسيرة حافلة، سيثير "خبزها" غيظ كثير من الأولاد فيكيلون الاتهامات لعجينتها، "سيكفّرها" البعض دينيًّا، أو سياسيًّا، ويرى آخرون أنها أحقّ ما تكون بماء الطيب والورد.