غالب الظنّ أنّ الأحداث، كما نتابعها في مسلسل "الحشاشين"، تجري على كوكب يُستبعد أن يكون الأرض.
في المسلسل، يغادر الحسن ابن الصبّاح بلاد فارس متجهًا صوب مصر، بعد تسبّبه بمقتل مؤذن أصفهان طعنًا بالسكين، إثر محاولةٍ فاشلة لضمّ هذا المؤذن ذي الصوت البديع إلى الفرقة الباطنيّة. الغرض الأوّل لابن الصبّاح في مصر، بحسب المسلسل، هو أن يحظى بلقاء الخليفة المستنصر بالله الفاطميّ، والتثبّت منه شخصيًا من مآل الإمامة من بعده.
أما على كوكبنا، فقد جاء ترحال ابن الصبّاح باتجاه أرض الكنانة بطلب من داعي العراقين الإسماعيلي عبد الملك ابن عطاش. وحَسَن مولودٌ عام 1037 (ميلادي)، في كنف أسرة شيعية اثني عشرية، آتية من الكوفة ومنحدرة من جذور يمنيّة، وقد تحوّل في مطلع شبابه إلى المذهب الإسماعيليّ (في حين نجده يُبايعُ شيخَه وهو كهل في المسلسل). أمّا دافعُ ابن عطاش فأن ينال حَسَن عِلمه في مصر، عن طريق التحاقه بمجلس هبة الله بن أبي عمران الشيرازي، الذي يُعرَف بـ"المؤيد في الدين"، وأن يُجهَّز بذلك لتولّي منصبٍ رفيعٍ في الدعوة.
وكان هبة الله ـــ القادم من إيران ـــ يتبوّأ منصب "داعي الدعاة"، أي رأس الجهاز الأيديولوجيّ ــــ الدعويّ للدولة الفاطميّة، ويولي اهتمامًا كبيرًا بنشر التشيّع الإسماعيليّ شرقًا، على حساب كل من الخلافة العباسيّة والسلطنة السلجوقيّة. بل إنّ هبة الله كان قد نجح في وقت من الأوقات في تقريب الملك البويهي عماد الدين أبي كاليجار من مذهبه، وكان هذا قبل أن تُطوى صفحة مُلك البويهيين الشيعة (بدأوا كشيعة زيديين في منتصف القرن العاشر ومالوا تدريجيًا نحو التشيّع الإماميّ)، ويتمكّن السلاجقة الأتراك السُنّة بقيادة سلطانهم طغرل بك من السيطرة على بغداد عام 1055م، و"تحرير" الخلافة العباسية فيها من السيطرة البويهية الشيعية، إنما من دون إرجاع السلطة الإمبراطوريّة العليا لها.
الطور الثاني للدولة الفاطميّة
مثّل نجاح المؤيّد في التقرّب من البويهيين وتقريب بعضهم من مذهب الإسماعيليّة، قبل انطفاء دولتهم، مسارًا معاكسًا لما سبق أن حصل عام 1015، يوم اجتمع فقهاء السنّة والإثني عشرية بتحريض من الخليفة العبّاسي القادر بالله لاستصدار محضر الطعن في نَسَب الأئمة الفاطميين، حيث وَصَفهم بـ"الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعِنين"، وقال إنّ "ما ادّعوه من الانتساب [لعلي بن أبي طالب] باطلٌ وزور"، واعتبرهم "كفار وفساق وزنادقة ملحدون معطلون وللإسلام جاحدون ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، عطّلوا الحدود وأباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسفكوا الدماء وسبّوا الأنبياء وادعوا الربوبية".
أدرك ابن الصبّاح أن الدولة الفاطميّة دخلت طور انتقال السلطة من الأئمة إلى الوزراء، وأنها لم تعد مهتمة بنشر الدعوة الإسماعيليّة خارجها
وعليه، لم يَرِد خبرُ الدولة الفاطمية في المدونتين السنّية والشيعية الإثني عشرية إلا تحت مسمّى "الدولة العبيدية". وقد استطاع الخليفة العباسي القادر بالله جمع علماء السنّة والإمامية ضد الإسماعيليين الفاطميين في ذاك "المحضر"، في الوقت نفسه الذي كان هذا الخليفة قد صعّد فيه من حدّة التشنّج مع الشيعة ككل، واستعاد بعضًا من زخم منصبه بإزاء أصحاب الدولة البويهية، بالاتكاء على القاعدة العُلمائية والشعبية السنّية.
لقد شعر كل من الإسلام السنّي والإثني عشريّ حينها بالخطر الداهم من الدعاية الفاطمية الحيوية في زمن الحاكم بأمر الله، لا سيّما عندما أعلن أمير الموصل قرواش بن مقلد عام 1010 ولبعض من الوقت مبايعة الخليفة الفاطمي.
واذا كانت وتيرة "تصدير الثورة" خارج حدود الدولة الفاطمية قد خفّت بعد غياب الخليفة الحاكم، فقد لعبت مكانةُ المؤيد في الدين الشيرازي وحظوته في مصر، وكونه تبوأ منصب "داعي الدعاة" فيها، دورًا في إعادة بثّ الحيوية في صفوف الدعوة الإسماعيليّة المناصرة للفاطميين في بلاد فارس، والمتواجهة أكثر فأكثر مع استتباب الأمر للأتراك السلاجقة السنّة. ووصل الأمر عام 1058، بعد ثلاث سنوات من احتفالية "إحياء السنّة" في بغداد، بأن استطاع الفاطميّون، وبمتابعة حثيثة من المؤيّد، أن يوظفوا الانقسامات السلجوقية ــــ السلجوقية لحسابهم، ويَظفروا بدار الخلافة العباسية، بغداد نفسها، فيما نُفي الخليفة العباسي إلى الأنبار، فأُقيمت الخطبة للمستنصر بالله الفاطميّ لردحٍ من الزمن!
خطّة ابن عطاش في إرسال حَسَن إلى مصر كانت لتجهيزه، وقد اتضحت لديه مواهبه وقدراته لتولّي مقام رفيع في الدعوة حال رجوعه إلى إيران. وبما أن المؤيّد قادم من إيران أيضًا، فقد كان من المُنتظر أن يحتضن حَسَن في مجلسه وييسر له السبيل.
لكنّ حَسَن ظلّ يؤجّل الترحال إلى مصر، وكانت الرحلة عند القيام بها متعرّجة وطويلة بسبب انعدام استقرار الأوضاع على امتداد الطريق، خصوصًا في بلاد الشام، ولم يصل ابن الصبّاح إلى مصر إلا بعد وفاة المؤيد الشيرازي، ليصطدم عند وصوله بواقع جديد: فالرجل القوي في مصر، "أمير الجيوش"، ووزير السيف والقلم، بدر الدين الجماليّ، استحوذ أيضًا من بعد وفاة المؤيد على منصب داعي الدعاة، وربما يكون الجماليّ إلى التشيّع الإثني عشري أقرب.
أيًّا يكن من شيء على هذا الصعيد، أدرك ابن الصبّاح بسرعة أن الدولة الفاطميّة دخلت الآن طورها الثاني، طور انتقال السلطة من الأئمة إلى الوزراء، وأن هذه الدولة لم تعد مهتمة بنشر الدعوة الإسماعيليّة خارجها، أو ما عادت تملك الوسائل لذلك.
"الشدّة المستنصرية" ونوبات "الأوفردوز"
في الكرونولوجيا التاريخية للأحداث، كما جرت في ذلك القرن على كوكبنا، الأرض: وصل حسن إلى القاهرة في آب/أغسطس 1078. يُفترض حينها أنّ المحروسة كانت تعيش مرحلة من الاستقرار بعد عدّد من الأزمات السياسية والاقتصاديّة الكبرى.
يختلف هذا تمامًا في المسلسل الرمضاني لهذا العام: فحين يجول ابن الصبّاح وزوجته في شوارع القاهرة، تظهر المشاهدُ المرعبة للمجاعة المعروفة بـ"الشدّة المستنصرية". بؤساء يتضوّرون جوعًا، يأكلون القطط والجيف.
يكفي أيّ تطفّل على "محرّك البحث" لإدراك أن الشدّة المستنصرية وهي أعوام عجاف سبعة (1064-1071) حدثت بسبب انحسار مياه النيل، وسوء الإدارة المتصلة بأزمات الحكم، وانتهت قبل سبع سنوات من قدوم ابن الصبّاح.
كما أنّ أمير الجيوش بدر الدين الجمالي، وهو في الأساس رقيق أرمنيّ كان مملوكًا لوالي دمشق، جمال الدولة ابن عمار (ومن هنا لقبه "الجمالي" الذي أُعطي اسمه لحيّ الجماليّة في القاهرة)، لعب دورًا أساسيًا في تخليص مصر من "الشدّة"، بمثل ما لعبت القوة المسلّحة التي تأتمر بأمره، والتي انتقلت معه من بلاد الشام إلى القاهرة، دورًا أساسيًا في إخراج مصر من دائرة الصراع بين الرقيق العسكري "التركيّ" والرقيق العسكريّ "السودانيّ"، النوبيّ والحبشيّ. وكان هذا لمصلحة فرض شوكة هذه الفرقة العسكرية التي عُرفت بـ"الجيوشية"، أي نسبة إلى أمير الجيوش، وجلُّ هذه الفرقة من الأرمن المتأسلمين مثل الجماليّ.
السبع سنوات من "الشدّة" تتحوّل إلى ثلاثين عامًا في المسلسل، والحبل على الجرار، وهذا أوّل "التحشيش"
الشيء الوحيد السليم في المسلسل من الناحية التاريخية حتى الآن، هو أن "رصد"، والدة الخليفة المستنصر بالله، كانت سوداء البشرة، وكانت فيما مضى الوصيّة على الحكم، بل إنّها أشركت في السلطة الفعلية لفترة مالكها الأول التاجر اليهودي أبو سعد التستري، ثم اعتمدت "رصد" على زيادة عديد المماليك "السودان"، النوبيين والحبشيين في الجيش الفاطميّ، إلى أن حدثت المواجهات الدامية والعرقية بينهم وبين المماليك "الترك".
أما "الشدّة المستنصرية"، فسبق أن استُخدمت مادة للفانتازيا في مسلسل رمضانيّ سابق عُرض قبل عامين: "بيت الشدّة"، وينسج حكايةً حول بيتٍ ملعونٍ إلى أيامنا هذه بسبب قيام سُكّانه قبل ألف عام بأكل لحوم البشر في زمن تلك الشدّة، بناء على الأوصاف الفظيعة والمبالِغة للمؤرخ تقي الدين المقريزيّ (من القرن الخامس عشر) لتلك المرحلة.
لكن "بيت الشدّة" لم يكن في الأساس مسلسلًا تاريخيًا. أما الفانتازيا في مسلسل "الحشاشين" فلها شأن آخر: فهو لا يكتفي بمدّ المجاعة وجعلها تُعاصر قدوم ابن الصبّاح إلى مصر، بل يُبقي هذه المجاعة ممتدة إلى حين وفاة المستنصر بالله عام 1094، الأمر الذي لا يجعل المشاهد قادرًا على فهم السبب وراء ظفر بدر الدين الجمالي بهذه المكنة في عهده، ودوره في التخلّص من الانشطار الحاصل في جهاز الدولة، وفي إصلاح نظام الرّي واستئناف النهضة العمرانيّة.
السبع سنوات من "الشدّة" تتحوّل إذًا إلى ثلاثين عامًا في المسلسل، والحبل على الجرار. هذا أوّل "التحشيش". يمضي بعدها العمل الدرامي في نوبات من "الأوفردوز".
فالغرض من قدوم ابن الصباح لمصر وفقًا للمسلسل هو لقاء الخليفة المستنصر بالله الفاطميّ، والتثبت منه من وليّ العهد من بعده، في حين أن نزار، المولود عام 1045م (لأب يكبره بخمسة عشر عامًا فقط)، كان وليًّا للعهد وقت وصول ابن الصبّاح، وبات في الخمسين من عمره وقت وفاة والده المستنصر ونجاح "الجيوشيين الجماليين"، أي المماليك الأرمن الإثنيين، في إبعاده عن الخلافة، لصالح أخيه الأصغر، أحمد، أي "المستعلي بالله".
الشيء الوحيد السليم في المسلسل من الناحية التاريخية حتى الآن، هو أن "رصد"، والدة الخليفة المستنصر بالله، كانت سوداء البشرة
النهفة أنّ علّة تقرّب "الجيوشيين" من الابن الأصغر للمستنصر ومؤازرتهم له هو زواجه من ابنة "أمير الجيوش" بدر الدين الجمالي. لكنّ كلّ هذا حاصل بعد سنوات طويلة من مغادرة ابن الصبّاح لمصر، فهو حين حلّ فيها كان أحمد هذا طفلًا في الرابعة من عمره، ولم تكن حكاية زواجه من ابنة الجماليّ مطروحة بعد. بالتالي، فإنّ خوف حسن من أن يُحرم نزار من العرش ما كان ليُبنى في مرحلة مكوثه في مصر على آثار مصاهرة سياسيّة قائمة بالفعل.
أما أن يكون اهتمام حسن بالدعم الفاطميّ لشبكات الدعاة الإسماعيليين الرازحين في أرجاء الإمبراطوريّة السلجوقيّة قد اصطدم بواقعيّة بدر الدين الجماليّ "الدولتيّة"، فهذا راجح.
وأن يكون نزار ابن المستنصر لديه، وبشكل باكر، سبب للتوجّس من تركّز السلطة في أيدي الجماليّ، فهذا راجح أيضًا.
وأن يدفع هذان العنصران ابن الصبّاح لمشايعة نزار، فهذا منطقيّ، ويتماشى مع إيثار ابن الصبّاح الإقامة في الإسكندرية بدلًا من القاهرة، ويتراوح مجموع إقامته في مصر بين العام ونصف العام، والثلاثة أعوام، ويبدو في النهاية أنّه أُرغم على تركها.
وبرغم أن معظم المصادر تتناقل حكاية تسفيره بالبحر على متن قارب إفرنجيّ متجه إلى شمال أفريقيا، ووصول القارب برغم ذلك، بعد عاصفة هوجاء، إلى سواحل الشام (المسلسل يحدّد أنها عكّا) فإنّها واحدة من الروايات التي يجوز الارتياب بشأنها، وإن لم يكن مستهجنًا استخدامها في عمل دراميّ. لكنّ المسلسل جعل من نجاة ابن الصبّاح في البحر واحدة من الكرامات التي نسبها إليه، قبل أن يُعيد العملُ هذه الكرامات إما إلى مخاتلة مخاتل، أو إلى تدبير من فعل الشيطان، أو شيء من هذا ومن ذاك!
لقراءة الأجزاء اللاحقة:
مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب