هذه المرّة لن يهدينا عبد اللطيف عبد الحميد (1954- 2024) ضحكًا صافيًا سيقيم طويلًا في الذاكرة. توارى بعيدًا وغاب على دروب القدّيسين إلى أن اختلط جسده بالغيوم، مثلما فعل الأب في المشهد الأخير من فيلمه "العاشق". لعلّه كان بصدد بروفة أوليّة للغياب، فقد استهلك مخزونه من الفكاهة الريفية. لم تعد جرعات الضحك في مخزونه كما كانت في أفلامه الأولى. فهناك منطقة خاصة بالأسى تتسرّب من مفارقات الحياة.. لبشر يعيشون في الهامش.
ظلّ صاحب "رسائل شفهية"(1991) مخلصًا لبيئته القروية ينبش كنوزه النفيسة، التي لولاه لما كنّا نظن بأنها تصلح للسينما. على نحوٍ ما، كان عبد اللطيف عبد الحميد يدوّن سيرته ويحرّر نيغاتيف الصور تبعًا لحضورها في ذاكرته. فهو لم يكن مؤلفًا بقدر ما كان يصوغ مفارقات حياته تبعًا للترحال بين الأمكنة، كابن لعسكريٍ لا موطئ قدم ثابتًا لاستقراره، من الساحل مرورًا بالجولان إلى دمشق.
هكذا اختط طريقه مفردًا في صناعة سينما مختلفة عمّا انشغلت به السينما السورية، فكانت بصمته واضحة في أرشيف هذه السينما التي انهمكت في هجاء التاريخ السوري بموقفٍ حاد، فيما اختار الكوميديا سلاحًا في مقاومة البؤس. ما بين "ليالي ابن آوى"(1989)، وفيلمه الأخير "الطريق"(2022)، سنقع على تقاطعات واضحة في بناء الحبكة، والاشتغال على ثيمة بسيطة وشحنها بجرعات كوميدية مشبعة، مراهنًا على مهارة البساطة لا مهارة التعقيد، في سرده البصري الموازي لصناعة المفارقة التي تنطوي على حسّ ريفي أصيل في المقام الأول.
حتى في حال اشتبكت بعض أفلامه بموضوعات مدينية، هذه الثيمة هي الحب بتنويعات مختلفة. لطالما نافح صاحب "ما يطلبه المستمعون"، و"رسائل شفهية"، و"نسيم الروح" عن شخوص أفلامه حتى الرمق الأخير، بنوع من النبالة، متكئًا على مخزون ثري من المفارقات الحياتية عن بشر مهملين ومنسيين، بالكاد نلتفت إلى مكابداتهم. لكن عدسة مكبّرة ستضيئ حيواتهم من الداخل من دون مراوغة.
ليست الذاكرة الشخصية وحدها إذًا، ما يعيد البريق إلى هؤلاء الهامشيين، إنما تلك الجرعات الكوميدية الممزوجة بألم شفيف يرغمنا على التضامن مع قضاياهم. وتاليًا، فإن تلك السخريات الصغيرة تتعلّق بالمواقف الحرجة لا بالشخصية نفسها. وبشكلٍ ما، فإن أفلام مخرجنا، هي متوالية سردية بخط بياني متعرّج لا يخلو من مطبات في المسافة بين شريطٍ وآخر. ذلك أن حسّ النكتة يغلب على ما عداه في البناء الحكائي لمصلحة الضحك المرّ وهزليات الحياة المضطربة التي تطيح الأحلام الصغيرة بأقصى درجات القسوة. وبناءً على ذلك، فإن هذه السينما مشغولة بإيصال المعنى أكثر من عنايتها بالجماليات البرانيّة للكادر، في رهان على الصدق والبساطة والنقاء.
هناك شجن عمومي يتسلل من تفاصيل فيلم "العاشق" على هيئة كشف حساب شامل لحقبة مليئة بالأوهام والأحلام المجهضة والعشق المغدور
سوف تطيح الحرب مزاجه الهزلي بقراءة موازية لشخصياته العالقة تحت ثقل أسئلة طارئة عن معنى الهوية والقسوة، مراهنًا على الحب وحده في ترميم التمزّقات التي أفرزتها الحرب، كما نجد ذلك في " أنا وأنت وأمي وأبي"، و"عزف منفرد". لكنه لم يكن بالألق نفسه الذي طبع أفلامه الأولى، وكأنه خاض في مياه لم يخبرها قبلًا. فالحرب لوّثت نصّه لجهة البراءة السردية بالأسئلة المربكة، وبدا مثل كركي يقف على رجلٍ واحدة عند طرف مستنقع.
ففي فيلمه "العاشق" (2012) لم يكتف بشذرات من سيرته الذاتية (خصوصًا القروية) التي كانت تبزغ جزئيًا في أفلامه السابقة، بل توغّل أكثر في ترميم هذه السيرة باستعادة عدد الصفعات التي تلقاها من الآخرين، مقتحمًا مناطق وجدانية مرهفة، وموسّعًا فتحة العدسة نحو أوجاع أكثر جذرية. وإذا بهذا الشريط ينهض على ثلاثة أقانيم (القرية/ المدينة/ الوطن)، على خلفية الزلزال الذي أصاب المجتمع السوري في السنة الأولى للحرب.
هناك شجن عمومي يتسلل من تفاصيل الحكاية الأساسية على هيئة كشف حساب شامل لحقبة مليئة بالأوهام والأحلام المجهضة والعشق المغدور، عن طريق فحص الشعارات البرّاقة التي ألقت بثقلها على تطلعات جيل، وجد نفسه، في نهاية المطاف، ضحية لهذه الشعارات نفسها. قوة صوت الأب الذي كان يطلق شعار "حزب البعث" أمام بيته، ليردّده التلاميذ في المدرسة المجاورة، كل صباح، لم تنقذ الابن "مراد" من تلقي الصفعات، سواء من الأب نفسه، أم من مدير المدرسة، أم من شقيقه الأكبر، وحتى حبيبته.
لجأ عبد اللطيف عبد الحميد إلى عملية تناوب زمنين في البناء السردي للفيلم عبر توليف المخرج مراد فيلمه الأول الذي تدور وقائعه في الريف عن الفتى الذي ذاق أصناف الأسى على يد الأب الذي كاد يحرمه من الذهاب إلى اللاذقية لتقديم امتحانات الشهادة الإعدادية، بذريعة حاجته إليه للعمل في الأرض، وإحضار الخبز من الفرن. لكنه سيتراجع عن قراره، بعد تعهد شقيقته تعويض غيابه. يتمكّن الفتى من النجاح، رغم مضايقة شقيقه الأكبر له، وتبرمّه منه، إثر مشاركته الغرفة المستأجرة، ثم يعيش أولى مكابداته العاطفية مع ابنة الجيران التي تنتهي بزواجها من شخصٍ آخر.
... وإذا بالمدير نفسه، الذي صار مسؤولًا أمنيًا مرموقًا في العاصمة، يستدعي مراد إلى الفرع، ويهدّده بقطع لسانه في حال تجاوز حدوده مجددًا
على المقلب الثاني، نتتبع حياة "مراد" في دمشق خلال عمله على مونتاج فيلمه الأول، وتطوّر علاقته مع جارته "ريما" التي تعيش جحيمًا من نوعٍ آخر، فرضه أب متسلّط وقاسٍ، على عكس والد مراد الذي يفيض حنانًا وألفة أقلّه في شيخوخته، قبل أن تداهمه نوبة غيبوبة بسبب ارتفاع نسبة السكر في دمه (ربما من أباريق الشاي التي كان يعدّها للرفاق أثناء الاجتماعات الحزبية)، فينقذه صديق مراد في الصبا الذي صار طبيبًا، قبل أن يحضر الابن من دمشق، إثر مكالمة عاجلة من شقيقته.
عند هذه العتبة، يدخل الشريط مشاهد ميلودرامية بدت فائضة، خصوصًا في ما يتعلّق بشخصية ريما التي تتسلل ليلًا، إلى بيت مراد، بعد شجار مع والدها. حين يعود العاشق، يجدها في بيته، فيشعر بحجم الورطة، ويقرر الزواج منها، والهرب إلى قريته، وعقد قرانه عليها هناك، بمساعدة صديقه الطبيب "عمر زكريا" في إشارة مضادة لما حدث من تفكّك طائفي في نسيج المجتمع السوري.
في المقابل، لن نجد نسمة هواء منعشة في دمشق، فكل ما يحدث هنا تضيق به الروح. أماكن مغلقة تثقلها الضغينة والعنف والخوف في هجاء صريح ومعلن ومتواتر للمدينة وقيمها المتعسفة. في اللحظات الأولى من الشريط، يتقدّم أحدهم من المخرج في سيارته، وهو في طريقه إلى غرفة المونتاج، ويمطره بالشتائم ثم يبصق عليه وينسحب، ما يفسّره مراد لحبيبته بأن ما حدث هو نوع من النقد السينمائي، علمًا أنه لم ينجز بعد فيلمه الأول (!).
وحين يظهر في مقابلة تلفزيونية، يذكر القسوة التي كان يبديها مدير المدرسة تجاه التلاميذ. وإذا بالمدير نفسه، الذي صار مسؤولًا أمنيًا مرموقًا في العاصمة، يستدعيه إلى الفرع، ويهدّده بقطع لسانه، في حال تجاوز حدوده مجددًا، فيما يتوعده والد حبيبته، بعد هروبها معه، بأنه سيذبحه حالما يجده.
لن يتنفّس مراد هواء الطمأنينة، إلا بعد مغادرته حدود دمشق نحو قريته، ليستيقظ هناك على براءة الطبيعة، وألفة العائلة الأولى، وصفاء النفوس، قبل أن يموت الأب مثل قديس، وقد تلاشى صوته القوي تمامًا.
فيلم مؤثر، مشغول بمهارة وجرأة، بالإضافة إلى بلاغته البصرية العالية، وكثافته السردية غير المهادنة، لجهة أسئلة الهوية، وثنائية التسلطية السياسية والمجتمعية بقصد تجفيفها من زبد الشعارات الجوفاء التي أوصلتنا إلى حافة الهلاك.
رحل عبد اللطيف عبد الحميد وترك جمهوره يتيمًا أمام صالات السينما التي كانت تزدحم بهم في كل عرض فيلم جديد له.