المرأة التي ماتت عني

المئات الذين نعوا لينا ديوب تحدثوا عن ضحكتها، فهي للوهلة الأولى تبدو امرأة تضحك، لكن في الحقيقة كانت امرأة تصدّق. كانت تصدّق الناس، تصدّق القضايا، تصدّق الحياة نفسها.

عفا عني الموت مرة، بعد أن وضع عينه في عيني. سجّل علي الدين، منّني، ثم تعامل معي بعدها كمُرابٍ لئيم في رواية "هادفة". وكأنه قال: لي عندك ميتةٌ سأستردها عند الطلب.

في السنوات التالية، راقبني أجول الحياة. ابتسمَ في كل مرة رآني فيها أتصرف كإنسان حي، ودوّن على دفتره الصغير شيئًا ما. لم أعرف أنه كان في كل ومضة حياة عشتها يضيف فائدة جديدة على الدَّين القديم.

ثم فجأة، وقبل نحو سنة ونصف، تخلّى عن آخر ذرة من الرحمة ومن الصبر، وقرر استرداد دينه مني، بعد أن راكب عليه فوائد باهظة حسبها على مزاجه بتسلّط وجور.

بالنسبة له، صار الدين أكبر من أن تفيه حياتي، فبدأ باسترداد ما له عليّ على شكل حيوات الذين أحبهم.

مات عادل محمود، ويومها تحسّست ما ينوي الموت فعله بي. وحين وقفت على قبره في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أدركت أن الوقت قد حان، والدين القديم المؤجل صار واجب الاستحقاق.

ظننت أن حياة عادل تشبه تلك الدفعة الكبيرة التي يسدّدها المدينون عند إجراء التسويات، ثم يبدأون بعدها بتسديد دفعات مريحة ومنتظمة ومتباعدة. لكني كنت مخطئًا، فالمرابي الذي أقرضني بضع سنوات في الحياة، لا يعرف الشفقة، ويريد حقه.

مات رفاق صباي، ورفاق الكأس، ورفاق المقهى، رفاق الطفولة، رسامو مجلة طفولتي، عمتي زلفى، الكتّاب الذين أحبهم، الفتاة التي أحببتها في مراهقتي، البلاد التي أنتمي إليها. ماتت سهى ابنة أختي الحبيبة عن ثلاثة وأربعين عامًا بجلطة قلبية دون أي إشارة مسبقة، والآن ماتت لينا ديوب.

وأريد أن أحكي عن لينا، التي لو أردت تعريفها بطريقة بسيطة فستكون هذه الحكاية الصغيرة: قبل أسبوعين من وفاتها اتصلت بي وقالت: موعد الجرعة اليوم والدواء مفقود. دبرلي جرعة يا خيي.

خلال الساعات التالية، تبادلنا الاتصال مرات عدة، لمتابعة هذا الشأن، وفي أحد هذه الاتصالات تصرفت لينا ديوب وكأنها لينا ديوب تمامًا، ففيما كنت أخبرها عن اتصال د. ديانا إلى الشركة الموردة في لبنان، وضرورة معرفة رأي الطبيبة المعالجة بالبدائل المتاحة، قاطعتني قائلة: تمام، لكن لبين ما يجاوبوا، احكيلي شو هيي الترويدة؟

كانت تريد معرفة تفاصيل نوع من الغناء التراثي الفلسطيني، وحين قلت لها ما تيسر لي زقزق صوتها فرحًا: آآآه يعني أغنية يا طلعين على الجبل هي ترويدة؟ لكن ليك سكّر هلق، بدي روح اسمعها، وإذا تأمنت الجرعة ابعتلي رسالة.

لستة وثلاثين عامًا لم تتلوث محبتي للينا بقشة غضب أو ملل أو لوم، كانت واحدة من أولئك الذين ينثرون الفرح والحب حيث يعبرون

حين أتيت إلى الجامعة، كانت لينا قد سبقتني بثلاث سنوات، وحصل بيننا ما يثبت أن الصداقة مثل الحب، تقع من النظرة الأولى، وللأمانة فقد وقعت الصداقة بيننا من الرنّة الأولى.

عبر الأذن لا عبر العين تعرّفت على لينا أول مرة. أتاني من الخلف صوت ضحكة، ستعرف مباشرة أنها خارجة من القلب حتى دون أن تعرف أي قلب ذاك الذي خرجت منه.

صرنا أصدقاء. وحين ارتبطت بعابد عيسى، أخبرتنا وهي تضحك أنه شاب كامل المواصفات باستثناء أن أصدقاءه وأهله ينادونه باسم "أبو محمد"، وأنها ستحمل باكرًا اسم امرأة عجوز.

يومها أسميتها الآنسة أم محمد لأخفف من هرم الاسم الذي ستحمله، وظل الاسم مرافقاً لها، وظل اسمها "الآنسة" حتى بعد أن أصبح محمد شابًا يملأ العين ويفتل الرأس، بل حتى تلك اللحظة التي تلقيت فيها اتصالًا يقول: راحت الآنسة أم محمد.

لستة وثلاثين عامًا لم تتلوث محبتي للينا بقشة غضب أو ملل أو لوم. كانت واحدة من أولئك الذين ينثرون الفرح والحب حيث يعبرون، تحب كل من لا تعرفهم، وأغلب من تعرفهم.

المئات الذين نعوا لينا تحدثوا عن ضحكتها، فهي للوهلة الأولى تبدو امرأة تضحك، لكن في الحقيقة كانت امرأة تصدّق.

كانت تصدّق الناس، تصدّق القضايا، تصدق الحياة نفسها، لذلك كانت تضحك.

أثناء فترة علاجها خصّصت لمواعيد الجرعات ثوبًا أسود طويلًا، لأن رفيقاتها في جناح النساء في قسم أمراض الدم أغلبهن من المنطقة الشرقية ويلبسن جلابيب سوداء. وشعرَت أنها تنتمي لهنّ، وتريد ان تكون مثلهن، وتُعبر لهن عن حبها وانتمائها.

قبل شهرين، هربت لينا من المستشفى بعد أن تلقت جرعة مرهقة من العلاج الكيماوي، وجاءت إلى مقهى الروضة. تجوّلت بين الطاولات تسأل عني، أخبرتها صديقة: لقد كانوا هنا منذ قليل، وذهبوا ليشربوا عرق عند أواديس بالقصاع.

اتصلت بي وقالت: "ليك معي رهادة ونحنا بالطريق لعندكم، أنا هربانة من المشفى، ما بدي بلدي، اطلبلي ريان". وحين وصلت، قالت وهي تضع حقيبة أدويتها على الكرسي المجاور: "ما رح اترك الحفلة، وإذا قلعوني بدي 'اتحبش' بمسكة الباب".

كانت في تلك الجملة تتابع حديثًا بدأناه مع بداية تشخيص مرضها قبل عامين. يومها حكيتُ لها عن كريستوفر هيتشنز، الكاتب البريطاني الذي وثّق معركته مع سرطان المري بشجاعة نادرة، مليئة بالتهكم والتقبّل والذكاء.

أرسلتُ لها الكتاب، الذي صار حديثًا دائمًا لنا طوال عامي العلاج، واللذين فعلت لينا خلالهما أكثر مما فعل هيتشنز، وكتبت سلسلة من المقالات الصحفية لا تحكي فيها رحلة علاجها فقط، بل تحكي عن الآخرين، عن النساء القادمات من أقصى سوريا إلى مشفى البيروني ذي الاسم المرعب.

في الكتاب، "الحفلة التي لا تنتهي"، يقول هيتشنز:

"سيحدث هذا لنا كلنا، ستتم الطبطبة على كتفك في لحظة معينة، ويُقال لك: الحفلة لم تنتهِ، لكن الخبر أسوأ من ذلك بقليل. الحفلة مستمرة ولكن أنت عليك المغادرة، وستستمر الحفلة دونك".

كرّرت لينا الجملة مئات المرات، وكانت تتهكم منها وتتحداها في كل مرة. غبّت من حفلة الحياة حتى الرمق الأخير، استنفدتها.

رحلت دون أن تعرف أنها دفعة كبيرة فاحشة من دين الموت عليّ، وأنها لن تموت بي لأنها ــــ بشكل أو بآخر ــــ ماتت عني.