أحاديث على جدار مقهى ناظم حكمت

تحدّثنا صديقة تركيّة عن ردود أفعال أصدقائها حول ارتباطها بشاب تونسي، الدمثون منهم يقولون لها: "هو" مختلفٌ عنـ"هم"، فالتحبّب له يبدأ بجملة "أنت لا تبدو عربيًا"

نجلس على مقعدِ خشبي ملاصق لجدار مقهى ناظم حكمت، المعادل التركي لمقهى الكمال الدمشقي، في القسم الآسيوي من اسطنبول. يقال إن المقهى كان مركزًا لتجمع الشيوعيين الأتراك. يشعرني المكان بالسلوى. لكن، في الواقع، قد لا يكون هذا الإحساس حقيقيًا بالنظر إلى أن المنطقة برمتها معقل للحزب الجمهوري الشعبي، وهو حزبٌ كما يبدو لا يُرحب كثيرًا بـ "السوريين".

تحدّثنا صديقة تركيّة عن ردود أفعال أصدقائها حول ارتباطها بشاب تونسي. الدمثون منهم يقولون لها: "هو" مختلفٌ عنـ"هم". فالتحبّب له يبدأ بجملة "أنت لا تبدو عربيًا"، أما مجموعة أخرى فتهاجمها وتُلقبها صراحة بـ"حبيبة العرب". صديقي يقول إن الفتاة ترجمت لي المصطلح بالإنكليزية بصورة مُلطّفة، وإن العبارة بالتركية أكثر بذاءة وتنطوي على إهانة أشد.

تخبرنا الفتاة ذلك كله لأننا سنتفهم. فنحن في المحصلة الـ"هم"، وكي نخفف من إحراجها نقول إننا نأسف لأن بعض السوريين كانوا أيضًا عنصريين تجاه العراقيين منذ سنوات، وإن حروب الكراهية بين الشعوب متبادلة. أسألها من باب الفضول عن طبيعة التصورات عن العرب، فتقول بخجل إن إحدى القناعات السائدة لدى بعضهم مفادها أن العرب غير نظيفين. ترافقني طوال أسابيع عبارات الشابة. أجدني دون قصد أعود للتفكير بالنظافة والبعد الفلسفي للاتساخ. بعد كلّ هذه السنوات من دراسة الإعلام، ما تزال الصور النمطية تذهلني بسطوتها.

في مناسبة أخرى، بعيدًا هذه المرة بضع خطوات عن جدار ناظم حكمت، أحرّك السُكر في كأس الشاي، واستمع إلى شابة تركية من أصول عراقية تتحدث عن التغيّرات التي تلمسها في إسطنبول، وهي المقيمة في أنقرة. تقول الفتاة، التي تحمل هوية مركبة كردية - تركية - عراقية، إنها لا تشعر بالأمان في اسطنبول الآن، وقبل أن نسيء فهمها، تسارع للحديث عن القادمين الأفغان وسياسات فتح الحدود. فالأحاديث الصغيرة بين طرفين ربما تستلزم اختيار ضحية ثالثة تُعلق عليها المشكلات، والأفغان الآن في تركيا هم كبش الفداء الجديد.

إنها الحكاية ذاتها على الدوام: الغريب هو السبب وهو المُلام، والخوف هو السلاح الذي لا يبلى

وفيما تتكلم الفتاة التي لا يتجاوز عمرها 27 عامًا، أحصي في ذهني عدد المرات التي ذكَرت فيها مفرداتٍ كالأمن والأمان والحدود والخطر. أخبرها أن خلق الفوضى قرارٌ سياسيٌ في المقام الأول، وأنـ"هم"، أي السياسيين، قادرون في لحظة واحدة على إحداث البلبلة وإشعال النيران، حتى لو كانت الحدود مغلقة والمكان "آمنًا". أُذكّرها بأحداث 11 أيلول/سبتمبر. أُحدّثها عن كلام بعض المفكّرين الذين - قبل الحرب السورية، حين كانت حياتنا خامدة كبركان – أشاروا إلى حضور عشرات نقاط التوتر الجاهزة للاشتعال في الداخل السوري، نتيجة حساسيات طائفية وعرقية. لم أفهم حينذاك ما قصدوه تمامًا، إلى أن بدأت تلك النقاط تشتعل الواحدة منها تلو أخرى، حتى أنني، في مرحلة من مراحل الحرب، كنت قادرة على تأمل خريطة البلاد وتوقّع البقعة الجديدة التي ستتصدر الأخبار. حاولت إقناع الفتاة بأن الأمن مفهومٌ هش تسهُل زعزعته، ويأن الخطر قلّما يأتي من الغريب. فهناك دائمًا من يفتح له الباب ويهيئ له خطة عمل.   

شعرت بزهوٍ حينما أحسست بأنها تقلّب كلماتي في رأسها. ربما انتصرت في هذا الحوار، لكنني عمومًا خاسرة في مواجهة العنصرية التي تلتهم معظم أحاديثنا الطويلة.  فأنا ضجرة من "الأنا" و"الآخر"، ومن كل الكلام الذي لا يجب أن يُقال لكنه يُقال على أي حال.

أتذكر قبل سنوات يوم رأيت في أحد الأفلام عبارة مكتوبة على واجهة مطعم تقول: "يُمنع دخول الكلاب والزنوج". لم أصدق حينذاك أن التاريخ يمكن أن يكون قاسيًا أو فجًّا إلى تلك الدرجة. لكن الحاضر كما يبدو ليس أكثر تسامحًا. وها أنا أقرأ على "فيسبوك" اليوم صورة لشاحنة نقل تركية علّق صاحبها على مؤخرتها عبارةً تقول: "يا حبيبتي، في السابق كنت أراك أينما تلفتّ، لكني الآن لا أرى سوى السوريين". هي دائمًا الحكاية ذاتها؛ الغريب هو السبب وهو المُلام، والخوف هو السلاح الذي لا يبلى. 

قرب جدار المقهى، وبعد الكثير من الكلام، نصمت جميعًا ونستسلم لهواءٍ بارد يلفّنا. إنه الخريف الآن في اسطنبول. أشرب بقايا الشاي في كأسي، أفكر بالشتاء وبالانتخابات التركية والحروب العالمية القادمة. هذه موجة عنصرية جديدة وستنقضي، أطمئن نفسي. أنظر إلى جدار المقهى، أفكر في عبثية أن يُقال هذا الكلام هنا. فناظم حكمت كان، للمفارقة، أمميًا بصورة حالمة، وقد كتب يومًا: "أخذت تقصُر ساعاتُ النهار/ واقترب موسم الأمطار/ ومازال بابي مفتوحًا لك/ فلمَ ولماذا تأخرت؟".
رحلة الحيوانات إلى عالم الـinfluencers والشهرة

صناعة صورة "الحيوان المؤثر" باتت مهنة مربحة لكثيرين. وما يؤكد ذلك وجود رواد أعمال أسّسوا وكالات تضع..

نور أبو فرّاج
خطاب الكراهية ضد السوريين في تركيا: سارقو الأنقاض ومكتنزو الذهب وبيضة القبان!

في الأشهر الماضية، وصلت حملات التحريض التي تستهدف السوريين في تركيا إلى درجات غير مسبوقة، وساهم في..

نور أبو فرّاج
قطاع غزّة حبيس تلفزيون الواقع

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار..

نور أبو فرّاج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة