بينما يغلي الشعراء، بقوافٍ مغرّدةٍ،/ ثريدَ حبٍّ وعنادل،/ يتلوّى الشارع الأبكم/ مفتقرًا لشيءٍ يهتف به أو يقوله./ ... / صامتًا يرسف الشارعُ في العذاب./ ... / الشعراء،/ غارقون في النحيب والشكوى،/ يهرعون من الشارع،/ ساخطين مشعثين/ ... / في إِثْر الشعراء/ آلافٌ اندفعوا:/ طلاب،/ عاهرات،/ مقاولون.
فلاديمير ماياكوفسكي، غيمة في بنطلون
I
في يوم 16 أيلول/سبتمبر 2022، نقل تلفزيون "سوريا" المعارض عن استطلاع للرأي نشرته مؤسسة "نوفوس" السويدية أنّ الغالبية العظمى من اللاجئين الذين يعيشون في السويد قضوا إجازة في البلد الذي فرّوا منه، برغم عدم وجود رغبة لديهم في العودة بشكل دائم.
ومع أنَّ الخبر لا يشير إلى نسبة السوريين بين هؤلاء، لكنّه يذكر أنّه في العام 2019، أثيرت قضية زيارة اللاجئين للبلدان التي فرّوا منها في ألمانيا، وهدد وزير الداخلية حينذاك، هورست سيهوفر، بإلغاء وضع اللجوء للسوريين الذين قاموا بزيارة بلدهم، مشيرًا إلى أنّه "لا يمكنهم تقديم دعاوى جديّة بالاضطهاد إذا عادوا إلى بلادهم".
كما يذكر الخبر أنَّ مدوِّنًا سوريًا جاء إلى ألمانيا كلاجئ اشتكى من عدم قدرته على الذهاب لقضاء إجازة في سوريا، معتبرًا أنَّ ألمانيا كانت "مرهقة" له وأنَّه بحاجة إلى "استراحة".
حين قرأتُ هذا الخبر في حينه، لم أكد أصدّقه إلى أن رأيت مؤخّرًا بأمّ عيني لاجئين سوريين إلى بلدان أوروبية في مقاهي اللاذقية، جاءوا في زيارة من غير علم سلطات بلد اللجوء بالطبع، تلك السلطات التي من المؤكّد أنّهم أبكوها وهم يروون ما عانوه في بلدهم من فصول اضطهاد أوجبت قبول لجوئهم.
أمّا آلية خداع تلك السلطات في شأن المجيء، عداك عن الكذبة الأصلية، فمعروفة: تأتي من بلد اللجوء إلى لبنان بجواز سفرك، لكنك تدخل سوريا ثم تخرج منها إلى لبنان بالهوية الشخصية، وفي مطار الحريري، بعد أن زرتنا وتريد العودة إلى "المنفى"، تعاود استخدام الجواز "ولا مين شاف ولا مين دري". وتبقى ذلك "المنفيّ" المناضل المعارض الذي لا يُشَقّ له غبار، أو على الأقلّ "ذلك الذي يُلْبَس على الوجهين" حسب اللزوم، حتى لو سبق لك أن كنت جلوازًا عند النظام الذي لم يترك أحدًا إلا واضطهده ما عداك.
II
في يوم 12 حزيران/يونيو 2024 نقلت ما تُدعى "الوكالة السورية للأنباء ــــ سنا" المعارضة، تحت عنوان "918 مخيمًا في المناطق المحررة بدون مساعدات غذائية"، إحصائية لفريق "منسّقي استجابة سورية" جاء فيها ما يلي:
أكثر من 918 مخيمًا لا تحصل على مساعدات غذائية، و437 مخيمًا تحصل عليها بشكل متقطع؛
أكثر من 1,133 مخيمًا لا يحصل على مادة الخبز؛
أكثر من 991 مخيمًا يعاني من انعدام المياه بشكل كامل، في حين يعاني 318 مخيمًا آخر من نقص توريد المياه؛ أكثر من 829 مخيمًا يعاني من غياب الصرف الصحي اللازم؛
أكثر من 1,378 مخيمًا لا يحوي أي نقطة طبية أو مشفى ويقتصر العمل على عيادات متنقلة ضمن فترات متقطعة؛
أكثر من 1,128 مخيمًا غير معزولة الأرضية، إضافة إلى 1,289 مخيماً بحاجة إلى تركيب أو تجديد العزل الخاص بالجدران والأسقف، كما يحتاج أكثر من 997 مخيمًا إلى تجديد الخيام بشكل كامل أو جزئي؛
أكثر من 1,016 مخيمًا لا يحوي أي نقطة تعليمية أو مدرسة ضمن المخيم ويضطر الأطفال إلى الانتقال إلى مخيمات مجاورة أو إلى القرى المجاورة للحصول على التعليم.
وبيّن الفريق أن عدد المخيمات الحالية: 1,904، وعدد الأفراد 2,027,656، أما عدد العائلات فهو 368,569، ونسبة الأطفال 54%، ونسبة النساء 26%، ونسبة ذوي الاحتياجات الخاصة 2.91%. وأشار الفريق إلى أنَّ أبرز أسباب ضعف الاستجابة الإنسانية هو نقص التمويل إزاء الاحتياجات الإنسانية المتزايدة ضمن المخيمات.
هذا عن مخيمات ما أطلق عليه "الثوّار" ــــ من "منافيهم" ــــ اسم "المناطق المحررة". ولا شكّ أنّ الوضع أسوأ بكثير في مخيمات اللجوء الأكثف في دول الجوار، لبنان والأردن وتركيا، حيث التضييق والتعامل العنصري والمتاجرة الدولية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين "الثوّار" وحلفاؤهم الأثرياء من مناطقهم "المحررة" كما أسموها، تلك المناطق التي بلغت في لحظة، كما قالوا هم أنفسهم، 70% من البلد؟
لا يعلم إلا الله كيف كانت أمور بعض العائلات، الاقتصادية والخدمية والمعنوية، "عال العال" مع النظام والمعارضة في آن، فتقصّ في الاتجاهات جميعًا
لا تعدم هذه المخيمات جميعًا زوّارًا موسميين، سوريين يعيشون في الخارج (في هذه البلدان أو سواها، خارج المخيمات، بالطبع)، يملكون من المال والامتيازات ما يكفي لأن تُسقط عنهم صفة اللجوء، ولو كانوا خارج بلدهم. ويمارسون بزياراتهم تلك المخيمات استغلالًا معنويًا و/ أو ماديًا ملفوفًا بخرقة الجمعيات الإنسانية والإنجوزية التي هم أصحابها وكاتبو "بروبوزالاتها" وقابضو تمويلاتها، أمّا اللاجئون الحقيقيون سكّان الخيم وبيوت الصفيح فهم "المازوت الذي يشغّل هذه الماكينة" (أنظر مقالة جنى نخال هنا).
III
في يوم 22 حزيران/يونيو 2024، أوردت "الوكالة السورية للأنباء ـــ سنا" ذاتها خبرًا مقتضبًا مفاده "وفاة الطفل السوري أحمد عرفات الموزر، أثناء رحلة اللجوء إلى أوروبا، بعد مطاردته من قبل حرس الحدود البلغاري. الموزر يعاني من مرض الربو، وينحدر من مدينة الطبقة غربي الرقة".
ما أغفلت "سنا" إيراده هو أنّ الطفل الموزر وأهله ليس لديهم "صلات" تتدبّر أمر سفرهم ولجوئهم بالطرق "السوّية". فهم لا يعرفون، مثلًا، ذاك المعتقل السابق، في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، الذي تحوّل إلى مُخبر داخل المعتقل بدفع (خفيف) من قريبه ضابط المخابرات. وحين انتهت خدمة الضابط القريب، "لجأ" المخبر إلى أوروبا بحجة الاضطهاد. وحين اندلعت الاحتجاجات أقام ما يشبه "الشركة" لتدبير اللجوء (ليس بالمجان، طبعًا) لكثيرٍ من السوريين العاديين وكثيرٍ من "رفاق المعتقل"، الذين راحوا يتدافعون بالمناكب ويتناهشون إلى أن استوى منهم هناك كلّ من أراد ألّا تذهب "حَبْسَتُه" القديمة أدراج الرياح.
ما أهملته "وكالة سنا" هو أنّ الموزر وأهله ليسوا من تلك "الشلّة" الضئيلة من الشباب الذين زعموا، في البدايات الأولى للاحتجاجات، أنّهم قادة التظاهرات والإضرابات الاقتصادية ومخططو "الثورة"، وكانوا يدعون إلى المظاهرات ويغيبون عنها ما أمكنهم. وإذا ما اعتُقلوا لأيام، صبّوا كلّ ما لديهم من معلومات ووثائق، وقادوا دوريات الأمن إلى حيث رفاقهم، وظهروا في الإعلام الرسمي مشهّرين بقضيتهم ورفيقاتهم خصوصًا.
لقد تبخّر هؤلاء تمامًا، وأمثالهم كثر، منذ أواسط عام 2012، لا سيما بعون لوجستي من "ابنة ذوات" سابقين كانت تعمل في السفارة الفرنسية في لبنان، الأمر الذي يفسّر لجوء معظمهم إلى فرنسا تحديدَا، إنّما ليس قبل سهرات حنين عارمة في بارات بيروت، في حين كان اللاجئون الحقيقيون الفقراء يتكدّسون في مخيمات لبنان.
ما لم تذكره "سنا" هو أنّ أحمد الموزر وأباه عرفات وأمّه لم يدعهم أحد إلى ما راج عقده في عام 2013 في الخارج من مؤتمرات طائفية ــــ للأقليات غالبًا، لا سيما العلوية المعتبرة طائفة النظام ــــ كان على رأسها تنفيذيًا دعاة "شيوعية" سابقون ، وشارك فيها كل من استطاع إليها سبيلًا ممن قضت مصادفة بيولوجية أن يولدوا لدى أقلية "كريمة" وأرادوها مجرد معبّر للجوء و/ أو "القَبْض" الثوري.
هناك قدر كبير من المفاهيم قد تشوّه في سياق الاستخدام السوري، ولم يوفّر هذا التشويه حتى كلمات مثل "نظام"، "ثورة"، "ثائر"، "شهيد"، "لاجئ"، و"منفيّ"
لم يكن الموزر ولا أبوه من تلك العائلة الممتدة التي أسمّيها "المنشار الخلّاق"، والتي لا يعلم إلا الله كيف كانت أمورها الاقتصادية والخدمية والمعنوية "عال العال" مع النظام والمعارضة في آن معًا، فتقصّ في الاتجاهات جميعًا، فلم تكن تغيب عن مناسبات النظام الفنية والأدبية ولا عن سجونه، كما لم تكن تغيب عن سهرات المعارضة والسفارات المناوئة، وبين أفرادها كلّ من يلزم لوصفها بأنها معارضة أو موالية، علوية أو سنية، ثورية جامحة أو ثورية عاقلة، إلى أن حَسَبَتْهَا في أوائل الاحتجاجات، فانتهى الأمر بها جميعًا، وعن طريق مطار دمشق حينها، في "المنافي" الأوروبية حيث تعيش "عال العال" أيضًا.
ليس الموزر ولا أبوه ضابطًا سابقًا سُرِّح لأنه سرق ديناموات المياه في ثكنته، وحين هبّت رياح اللجوء اغتنمها بوصفه من "الثوّار"، وراح يقود الثورة من ألمانيا، على "الفيسبوك"، لا استراتيجيًا فحسب، بل نظريًا وأخلاقيًا أيضًا.
وليست أمّه تلك الزوجة الساحلية لذاك المعارض الساحلي الذي ألجأه المخبر الساحلي آنف الذكر إلى باريس هو وعائلته، فسافروا إليها "نظاميًا"، عبر الحدود السورية "النظامية"، فراحت تزعق من هناك، وقد نهشتها الغيرة من احتجاجات السويداء: "إلى أهلنا بالساحل لبوا النداء ... أنا من اللاذقية لن يثلج قلبي إلا انتفاضة الساحل"، ناسية أو متناسية أن الساحل يصعب أن يلبي النداء من دون قيادتها وقيادة زوجها الميدانية.
ليس الموزر وأهله من أبناء مناطق كانت هادئة إلى حد بعيد، وهاجروا منها بإرادتهم وتخطيطهم، فسافروا إلى بيروت أو سواها مرّات عدّة لترتيب أمور هجرتهم مع سفارة من السفارات، وكانوا يعودون إلى البلد ريثما يُوافق على سفرهم، ولعلّهم في أثناء انتظارهم باعوا السيارة والبيت ولا أعلم ماذا، على أقل من مهلهم، وأعدّوا في تلك الفترة رواية عن نضالاتهم واضطهادهم سيحكونها ما إن يبلغوا وجهتهم وسيصدقونها هم أنفسهم بعد حين.
من الصفات التي تلفت الانتباه حاجة سردية البعض الماسّة إلى تصوير سوريا على أنّها فرغت من أهلها المعارضين
ليس الموزر ولا أبوه ولا أمّه من "المجلس الوطني" أو "الائتلاف" أو "وفد التفاوض" أو النساء والرجال "الثوّار" الذين يسترزقون في "منافيهم" من استمرار المجزرة السورية. الأرجح أنّ الموزر وأهله من أبناء الشعب السوري الحقيقيين الذين كانت لديهم مئات الدوافع المحقّة للاحتجاج والثورة، وصدّقوا هؤلاء "الشرلطانات" الثورية الهاربة باكرًا والذين هم مجرد مثال على أشباه لهم كثر.
IV
يبقى القتل الوحشي السافر وجوّ الحرب المديدة السببين الأساسيين لنزوح السوريين وهجرتهم خلال ما يقارب العقد ونصف العقد الماضيين، لكنّ ظاهرة رحيل السوريين عن وطنهم و/أو ترحيلهم منه تبقى شديدة الاختلاط والتعقيد، من حيث دوافعها ومناطقها وأشخاصها ووجهاتها وأخلاقياتها، لا سيما حين يتعلّق الأمر بالنخبة المعارضة، سواء القديمة منها أو المستجدّة منذ 2011 فصاعدًا.
في الوقت الذي يتفهّم فيه المرء حقّ مغادرة أيّ أحد أيّ مكان بوصفه حقًّا بشريًا أساسيًا في التنقّل والحركة والسفر، دع عنك حقّ البشر وأبنائهم في الأمن والتعلّم والعلاج وما شابه، لا سيما في ظلّ حرب شاملة وقتل شامل، تبقى مغادرة كثير من النخبة السورية المعارضة أمرًا جديرًا بمزيد من التأمّل، سواء لجهة تناقضها مع الدور الذي تدعو هي ذاتها للاضطلاع به في الصراع الدائر؛ أم لجهة تناقضها مع اعتبار هؤلاء أنّ الحرب أسفرت عن "مناطق محرَّرة" واسعة يُفتَرَض بها أن تكون محطًّا لهم لكنها لم تكن؛ أم لجهة استغلال هذه النخب نخبويتها وصِلاتها ــــ قياسًا بالسوريين العاديين ــــ لاقتناص فرص هؤلاء الأخيرين في الهجرة وبينهم مصابين وأبناء ضحايا وعوائل منكوبة؛ أم لجهة استثمار كثيرين حالات اعتقال وقمع سابقة على 2011 أو فرص دعوات إلى مؤتمراتٍ وأنشطةٍ بالغة الغرابة في بعض الأحيان إذا ما قيست بماضي أغلبهم اليساري المزعوم أو حاضرهم الليبرالي المزعوم؛ أم لجهة التزييف الذي مارسه هؤلاء في شأن الأسباب الفعلية لمغادرتهم في تعمية على التوصيف الحقيقي لحالتهم، إذ غالبًا ما يعتبرون أنفسهم منفيين تحديدًا، وليس لاجئين أو مهاجرين أو مشردين أو مغتربين، إلى آخر قائمة طويلة من التوصيفات التي تفرّق بدقّة بين حالات تقع على طيف مغادرة الوطن الواسع.
والحال، إنّ هؤلاء من النخبة المعارضة المهاجرة وكتبتها باتوا يشكلون ظاهرةً ثقافية لها صفاتها وأخلاقياتها التي تتصادى، وترتبط بلا شكّ، مع الإخفاقات السياسية والعسكرية الذريعة التي وسمت المعارضة السورية على كلّ صعيد حتى باتت مثالاً للبؤس الذي لا يُفَسَّر بالقمع الوحشي وحده.
من الصفات التي تلفت الانتباه في شأن هؤلاء حاجتهم وحاجة سرديتهم الماسّة إلى تصوير سوريا على أنّها فرغت من أهلها المعارضين، فإذا ما اصطدموا بحقائق تكذّب مزاعمهم هذه، وما أكثر هذه الحقائق، كّذبوها بدورهم ورموا أصحابها بالخيانة. كأننا أمام دعيّ يزعم أنّه فارسٌ مغوار ولا يكفّ عن التحريض على القتال لكنه فرّ من ساحة المعركة في أوّل فرصة، وبات عليه أن يحكي حكاية تجمع بين هذه النقائض.
في الوقت الذي يتحمّل النظام المسؤولية الساحقة عمّا حصل، يجب التفريق بين لجوء النخب (لا سيما الثورية الزاعقة منها) ولجوء الشعب
ومن صفاتهم أيضًا صمتهم شبه المطبق عمّا تُسمّى "المناطق المحرّرة" التي اكتفوا بالتهليل لما دعوه تحريرها، كائنًا من كان محرِّرها، وربما أتوا إليها في البداية ورقصوا قليلًا أو التقطوا الصوّر قبل أن يفرّوا ثانيةً تاركين أهلها وأطفالها فريسة أمراء الحرب الأصوليين.
ومن صفاتهم صمتهم عن كثير من حقائق رحيلهم أو تزييفهم هذا الرحيل، فذاك "ثوري" نحرير ظلّ صامتًا صمت القبور، وربما ظلّ في الصفّ الآخر، في عزّ انتفاض السوريين، وما إن تدبّر أمر خروجه حتى نبتت له الشجاعة والألسن والخبرة فراح يشير على الثورة والثوار.
وتلك كاتبة تحكي عن الأهوال التي لقيتها في الاعتقال ثم في الهرب، مع أنَّ أحدًا لم يعتقلها قطّ من أولئك الذين لم يتركوا أحدًا إلا اعتقلوه، ومع أنَّ أحدًا لم يمسّها حين طارت من المطار، ولم تكن قد شاركت في أيّ نشاط يتعدّى الفرجة على تظاهرة من بعيد.
وذاك مناضل "ديمقراطي" قديم بات من أعتى المدافعين عن السلاح والتسلّح بعد أن فرّ بأولاده بعيدًا من الخدمة في أيّ جيش. وذاك رفيق له لَمْلَمَ أيّ وثيقة من وثائق اعتقال قديم وجاء بها إلى السفارات الأجنبية في بيروت ثم عاد إلى سوريا منتظرًا موافقة اللجوء الإنساني.
يُضاف إلى هؤلاء معارضون علمانيون ويساريون انتدبوا أنفسهم لتمثيل طوائفهم في مؤتمرات طائفية مشبوهة وخرجوا للمشاركة فيها ولم يعودوا، وأمثالٌ لهم تزعّموا منظمات "فيسبوكية" ثورية ولم يلبثوا أن تركوا أنصارهم في الداخل وفرّوا ليبتدعوا في أماكن لجوئهم قصص نضال ونفي تليق؛ إلى آخر هذه القصص المشينة التي لا آخر لها.
من الصفات اللافتة أيضًا أنَّ هؤلاء في الخارج هم الأعلى صوتًا قياسًا بمناضلين حقيقيين خرجوا لأنَّ الاعتقالات المتكررة بعد 2011 حوّلت حياتهم وحياة عوائلهم إلى جحيم بالمعنى الحرفيّ، أو بات خطر الموت الأكيد يتهددهم بالفعل. بل إنَّ إقصاء هؤلاء الأخيرين عن الصورة وعن الأنشطة السياسية وسواها التي تجري في الخارج بات ضرورة من ضرورات السردية المزوَّرة التي اتّسعت حتى غطّت المشهد.
والأمر اللافت الآخر هو ما تدفع إليه عمليات التزوير والتزييف السابقة من إساءة للمعاني المتباينة التي تحملها الأشكال المتعددة للابتعاد/ الإبعاد عن الوطن، ومن احتلال مكان المنفيين واللاجئين الحقيقيين الذين لم يكن أمامهم بالفعل سوى السجن أو الموت.
ثمة فارقٌ يبقى، برغم المقتلة السورية الشاملة، بين من خرج لأسباب تخصّه، ولما فيه مصلحته الشخصية وحدها في النهاية، وبين اللاجئ الحقيقي، وأكثر منه المنفيّ، أيّ المُرَحَّل بالإكراه أو الذي حرمه خوف البطش به شخصيًا وعلى وجه التحديد العيشَ في مسقط رأسه بعكس إرادته ورغبته.
ليس المنفى، بعبارة أخرى، امتيازًا بل استحالة، ليس مصلحةً بل ألم. ومن غير الأخلاقي استخدام كلمة كهذه نُقِشَت فيها قرون من الاستحالة والألم والتشرد كيفما اتُّفق.
غاية القول وخلاصته أنّه في الوقت الذي يتحمّل النظام المسؤولية الساحقة عمّا حصل، يجب التفريق بين لجوء النخب (لا سيما الثورية الزاعقة منها) ولجوء الشعب، وذلك بالتدقيق في زمن اللجوء أو فترته، وهوية أصحابه، ومبرراته، وطريقته، ومدى صدق روايته، وسلوك أصحابه في بلد اللجوء تجاه مظالم أهله وقمع سلطاته، وسلوكهم تجاه بلدهم الأصلي، الخ. لا سيما أنّ قدرًا كبيرًا من الكلمات والمفاهيم قد تشوّه في سياق الاستخدام السوري، ومن جميع الأطراف، ولم يوفّر هذا التشويه حتى كلمات مثل "نظام"، "ثورة"، "ثائر"، "شهيد"، "لاجئ"، و"منفيّ".