أمس انطفأ جورج قرم وذهب نحو رحلته الأخيرة. تَرِكَتُه الفكرية والسياسية سيُكتب عنها الكثير حتمًا. كتبه ركيزة لفهم التاريخ والحاضر، وتجربته السياسية دالة على توجهاته، هو الذي تبوأ مناصب مهمة، كان أبرزها وزارة المالية في لبنان في حكومة الرئيس سليم الحص (1998 - 2000).
يصعب تحديد جورج قرم في ميدان واحد. "موسوعي" قد تكون المفردة الأفضل في وصفه، هو العارف بالاقتصاد والسياسة والقانون والتاريخ العربي، والإسلام.
سيسيل حبر كثير، ربما، في وداع جورج قرم، واستعادة كتبه أو محطاته السياسية، إلا أن السؤال الأبرز الذي سيُثار يدور حول اتساع رؤاه، وعمق معرفته بكل ما تناول، وتعدد ميادين هذه المعرفة، نظرًا الى غزارة إنتاجه. وضع قرم أكثر من 20 كتابًا، وكتب عددًا كبيرًا من المقالات في كبريات الصحف السياسية والمجلات الفكرية، وشارك في عدد كبير من المقابلات، غلبت على إجاباته فيها صفة المدقّق المصحح، المتعمّق في ما أجاب عليه.
ثمة مفاتيح لفهم جورج قرم والتقرّب أكثر من إنتاجه. هذه المقالة محاولة لطرح بعض هذه المفاتيح انطلاقًا من متابعة ما كتب، وما قال، وبعض اللقاءات معه.
الشاب المستند الى تراث عائلي من الفنون (رسمًا) وكتابةً للشعر، كان القدرُ سيقوده إلى ميدان مغاير. ذهب إلى مارسيليا لدراسة الموسيقى، لكنّه لم يمكث فيها إلّا قليلًا، وغادرها إلى باريس للدراسة في معهد العلوم السياسية ــــ فرع الاقتصاد.
وصل جورج قرم إلى باريس وعاش صدمة شكّلت مفترقًا في بناء وعيه. قبل باريس، لا بد إذًا للكتابة عنه من العودة إلى القاهرة، حيث كبر وتعلم في مدرسة اليسوعيين. القاهرة التي عرفها في العصر الملكي، ثم بعد ثورة 1952، وخبر تحولاتها الكبرى.
يروى قرم في مقابلة تلفزيونية أن العدوان الثلاثي (1956) على مصر شكّل الركيزة الأهم في تشكّل وعيه وبداية تكوّن ميله السياسي نحو القومية العربية. لما وصل إلى باريس في العام التالي، لم يستسلم لسحر صيتها. قال إنه رآها رمادية، بعكس بيروت والقاهرة والإسكندرية التي يضيئها نور الشمس دومًا.
يروي قرم كيف قدّم لرئيس حكومته خطة لتلبية احتياجات استحقاق تحرير جنوب لبنان دون حاجة للاستدانة المالية
قال إنه في هناك تموضع فورًا بين الطلاب العرب وغير العرب المنحازين للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. هذا الافتراق النقدي الرافض بشكل جذري لأي تجربة استعمارية، أساسي في فهم بعض إنتاجه.
عام 2009، أصدر عن دار فرنسية كتابه "تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب". العنوان يعكس بالتحديد نظرته إلى القارة العجوز، تعريفًا بما أنتجته واعترافًا به، وتفكيكًا للمبنى الأسطوري عنها كما طغى على المخيلات في الآن عينه.
انطلاقًا من توجّه سياسي بدأ بالتشكّل إثر صدمة العدوان الثلاثي، سيبحث قرم كثيرًا عن علاقة أوروبا أو الغرب بالجغرافيا العربية أو بعض مناطقها. في المقابل، فإن القارئ لكتبه ــــ بطبعتها الفرنسية ــــ ستسحره العبارات التي كان يختارها لوصف شخصيات أو مراحل مهمة من التاريخ العربي.
العنوان الثاني في التقرب من كتب قرم يكمن في الاختصاص الذي درسه. ففي جامعة "السوربون" درس القانون والاقتصاد، وذلك قبل أن تُتمّ الجامعة الفصل بين القانون والاقتصاد السياسي، هذا الفصل الذي وصفه بـ"المصيبة"، إذ بات القانون بلا معنى بالنسبة لرجل الاقتصاد، سواء كان أكاديميًا أو رجل أعمال. وهذا الافتراق، برأيه، يولّد رأسمالية متوحشة، إذ إن "الاقتصاد الصحيح الذي يؤمّن استقرار الشعوب وسعادتها هو في الأساس (مبني على) مفاهيم قانونية واضحة وثابتة وراكزة، من خلالها يتعامل الناس اقتصاديًا".
هذا التوجه حكم ممارسات جورج قرم وخياراته لدى اشتغاله في وظائف مهمة مستشارًا لمنظمات كالبنك الدولي أو وزيرًا للمالية في لبنان. ومن هذه التجربة، كان يستعيد في دردشات غير رسمية حدثًا يحبّه، وهو تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000. يروي قرم كيف قدّم (كوزير مالية) لرئيس حكومته سليم الحص خطة لتلبية احتياجات هذا الاستحقاق الكبير دون حاجة للاستدانة المالية، ثم يضيف أن السياحة في لبنان بعد الحرب الأهلية إنما ازدهرت بعد التحرير الذي أوحى بالثقة في أمن البلاد.
يشدّد قرم على أن دراسة الاستبداد دون النظر إلى الدور الذي تلعبه الاعتداءات الخارجية تؤدي إلى قراءات غير سليمة
إلى جانب الاقتصاد والقانون، شكّل التاريخ ميدان كتابة في ما أنتجه قرم، مدققًا في تاريخ أوروبا، وفي التاريخ العربي القديم والحديث. وكتاباته في هذا المجال تُعدّ مرجعًا لمن يودّ كسر الروايات النمطية أو "الاستشراقية" السائدة عن العرب تاريخًا وحاضرًا، من دون أن يغرقه ذلك في خطابية غير منهجية أو علمية، ولا أن يدفعه إلى إنكار الأخطاء والخطايا والهزائم.
في لقاء طويل تحضيرًا لفيلم وثائقي عن الخلافة في الإسلام، زرته وهو غارق بين عشرات المراجع، يدقق تكرارًا في معلومات يعرفها جيدًا، يستعيد ما كتبه عبد الرازق السنهوري في أطروحته التي ناقشها في جامعة "السوربون" في عشرينيات القرن العشرين، ثم يقلب صفحات كتب لم تتّسع لها ذاكرتي لكثرتها وقِدمها.
في ذلك اللقاء، كما في كل اللقاءات به، كان الحديث مناسبة لهدم أفكار ومعادلات نستسلم لها عند تحليل واقعنا أو تاريخنا. قال إن الحكم على الممارسات السياسية العربية دون الالتفات إلى انقطاع العرب عن تجربة الحكم لمئات السنين (تحت الخلافة العثمانية) أمر غير علمي. قال أيضًا إن دراسة الاستبداد دون النظر إلى الدور الذي تلعبه الاعتداءات الخارجية، أيضًا تؤدي إلى قراءات غير سليمة، وكان يشير إلى الولايات المتحدة نفسها التي لجأت إلى الحد من مساحة من الحريات الخاصة بعد اعتداء 11 أيلول/سبتمبر2001.
في مقالة حول كتاب جورج قرم "الفكر والسياسي في العالم العربي"، كتب عالم الاقتصاد المصري سمير أمين قائلًا إن قرم قدّم لوحة تكاد تكون مثالية عن الفكر في العالم العربي الحديث، وإن العمل الذي يحتاج الباحث لسنوات لاختتامه، يقدّمه قرم وحده بفضل ثقافته الواسعة.
جال قرم في كتابه هذا عارضًا ومدققًا في أعمال أصحاب الفكر في العالم العربي الحديث، المؤثرين في السياسة والاقتصاد والفنون والآداب والشعر والعلوم الإنسانية والتقنية، مبيّنًا تأثيرهم التراكمي.
بالأمس رحل الكاتب، وبغيابه يغيب اسم مهم من منتجي الفكر في هذا العالم العربي الحديث. فإرثه في التاريخ والاقتصاد والاجتماع لبنة مهمة لدارسي هذه المنطقة في تاريخها وحاضرها، وعلاقتها بأوروبا وعلاقة الغرب بها.