في مكتب "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، في مخيم مار الياس ببيروت، فتح الراحل سميح رزق خزانة صغيرة من حديد. قال لي "هنا ما زلنا نحتفظ بأشياء فدائي بنى عائلته الصغيرة في فلسطين، فيما أقام هو في جنوب لبنان".
كانت أشياء ذاك الفدائي قليلة، وبدت لي قصته في الكثير من تفاصيلها أليفة. رجل عاش في مكتب "الجبهة"، عائلته الصغيرة في فلسطين. كان فدائيًا، وكان يتسلل عبر الحدود من جنوب لبنان، وفي بعض تسللاته كان يلتقي بزوجته، خلسة، في مغارة أو مخبئ آخر، وكانت تنجب أطفالهما وتربيهم في فلسطين.
أما هو الممنوع من سلطات الاحتلال من العودة إلى وطنه، فكان بعد كل لقاء بها أو بعد كل عملية فدائية، يعود إلى لبنان، إلى مكاتب "الجبهة" التي اتّخذها بيتًا له.
كان سميح رزق يحكي، وتسبق ذاكرتي كلماته. فهذه قصة تشبه قصة بطل الياس خوري في "باب الشمس". فاجأني التشابه حد التماثل بين الرجلين. أذكر ابتسامة سميح وهو يرد على تساؤلاتي: ليس ثمة تماثل بين الشخصيتين، إنهما الرجل ذاته عرفه الياس خوري، وعرف تفاصيل سيرته، وعجن قصته بفعل خيال الروائي في قلب "باب الشمس".
كانت تلك المرة الأولى التي ألتقي بها بعوالم الياس خوري الروائية على أرض الواقع.
قبل ذلك، عرفتُه عبر رواياته، وأنا بعد تلميذة في الثانوية، وقرأت بعض مقالاته، وشيئًا من سيرته، ثم التقيت به في صحيفة "النهار" رئيسًا للمحلق الثقافي، الذي شكّل مساحة فارقة تسمح بنشر مقالات إبداعية تطرق عالم الثقافة بحرية وبرؤى نقدية.
في الفترة نفسها، عرفته مديرًا لمسرح بيروت، تلك المساحة الثقافية المفتوحة في التسعينيات على أعمال مسرحيين من العالم العربي. على خشبتها شاهدنا فاضل الجعايبي، وجواد الأسدي، وأعمال روجيه عساف وغيرهم، ثم احتضن المسرح فاعليات الذكرى الخمسين لـ"النكبة"، قبل أن يشارك الياس خوري في إطلاق وبرمجة "مهرجان أيلول" الذي فتح أبواب المدينة لعروض المسرح والغناء والموسيقى وفنون معاصرة.
صرت، أثناء جمعي المعلومات لأبحاثي عن موضوعات فلسطينية، أتتبّع أثر خيال الياس خوري عبر روايات أبناء جيله المقاتلين
في كل ذلك كان الياس خوري في نظري ابن دائرة من المثقفين، مبدعًا وحاضنًا لتجارب إبداعية بالتأكيد، لكنها دائرة منغلقة على مجموعات من أبناء الطبقات الوسطى ومحبي الفنون. كان في نظري انعكاسًا للمثقف المنحاز لفلسطين، المؤرخ بالرواية لخطابها وتاريخها الحديث.
منذ اللقاء بقصة فدائي "باب الشمس"، بدأتُ التسلل إلى عوالم روايات خوري باعتبارها نصوصًا أركيولوجية، يصوغُها قلمُ كاتبها وخياله انطلاقًا من معرفة تتراكم عبر القراءة والثقافة الواسعة بالتأكيد، ولكن القائمة أيضًا على علاقة عضوية بالفدائيين من أبناء السبعينيات، البسطاء أو المتعلمين، الحرفيين أو المثقفين، أو المقاتلين فحسب. علاقة نُسجت غالبًا في عتمة مخيمات اللاجئين البائسة.
هذه كانت حرفة الياس خوري، كما كانت حرفة غسان كنفاني قبله مؤرشفًا حكايات ناس فلسطين عبر مقالاته وكتبه. وعلى أي حال، لقد حكى الياس خوري مرارًا عن تأثره بكتاب كنفاني "رجال في الشمس" حين قرأه للمرة الأولى.
صرت، أثناء جمعي المعلومات لأبحاثي عن موضوعات فلسطينية، أتتبّع أثر خيال الياس خوري عبر روايات أبناء جيله المقاتلين. وهؤلاء كانوا يروون لقاءاتهم به وطلبه الدائم منهم أن يحكوا له ما عايشوه أو صنعوه.
كان ثمة بهذا المعنى وحدة حال بين الياس خوري ورواياته، وحدة جمعتهما منذ ركب التاكسي إلى عمان ليلتحق بالفدائيين وصولًا إلى الأمس القريب، قبل أن يتحكّم المرض به لأكثر من عام.
الياس خوري، صاحب "الجبل الصغير" و"رائحة الصابون" و"يالو" و"مجمع الأسرار"، كتب أيضًا روايات خارجة عن موضوع فلسطين، وجعل بعض شخصياته من خارج فلسطين. لكنه لا شكّ أحد أبرز روائيي القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ربما بسبب تلك العلاقة الممتدة مع المجتمع الفلسطيني المناضل، والمتشابكة مع عالم معرفي أثرَته تجربته كقارئ للتاريخ ومثقف واسع الاطلاع.
ولعلّ واحدة من ميزات رواياته أنها تثبت أن الأقدر على رفد الخيال هو الواقع، عبر قصص قادرة على الحفر عميقًا في وجدان المتلقي وذاكرته.