"أنا مع عودتهن، لكن ضمن شرط منطقي، أن تستوعب سوريا عودة العدد الكبير من اللاجئين، حتى لا يرجعوا ويكون وضعن سيئ جدًا ويعملوا أزمة هائلة بسوريا". عن النازحين السوريّين في لبنان يتحدّث الممثّل السوري باسم ياخور في مقابلة تلفزيونية حديثة. ويتابع: "البنية التحتية في لبنان مش قادرة تستوعبهن. هَيْ المصيبة".
ليسَ لكلام ياخور، والذي احتجّ أيضًا على لامنطقيّة أن "يبظّ ويخلّف" النازح في لبنان 16 ولدًا، تأثير سوى في تجاذبات إعلامية وفنية لا تتعدى المشاهدات والتصريحات وجذب الانتباه.
في كلامه وصف غير مباشر لحال النازحين والهاربين من الحروب. ليسوا الآن في سوريا ولكنّهم ـــ مجازًا ـــ ليسوا في لبنان أيضًا. وكأنّ لا وجود لمن لفظته الحرب أو القمع أو الخوف حين يصبحون بلا "وطن".
والوطن هنا هو مجموعة أوراق إثبات شخصيّة أو "وجود" في دولة ومفهومها. في أفضل حالاتهم في لبنان، أوراق النازحين السوريين في الخيم تتبع الأمم المتحدة أو منظّمات "غير حكومية" (خارجة عن مفهوم الدولة لتنفّذ ــــ في مناطق معيّنة ــــ ما قد يكون أسوأ من ذلك المفهوم).
من وصل برًّا إلى بلغاريا مثلًا وحاول جاهدًا الوصول إلى ألمانيا على اعتبار أنّ ظروف اللجوء أفضل، وترك خلفه بصمةً فعليّة في بلغاريا، ستُسرع ألمانيا بعد تأكّها من ذلك إلى ترحيله إلى مكان البصمة. هل سيرحل؟ وإلى أين؟
ومع بداية حرب إسرائيل الإبادية على غزّة، صدحت أصوات ألمانيّة مطالبة بترحيل اللاجئين وأُزيحت الستارة عن قانون لتلك الغاية، ما يشمل السوريين بشكل أساسي. وأخيرًا، أبدت ألمانيا عزمها على بداية ترحيل اللاجئين وغير القانونيّين فيها على خلفيّة شعورها بالتهديد الإسلاميّ المتطرّف.
لا حياة خارج "الحدود" في البحر... في البحر، صور شخصيّة لن توضع على بطاقات ثبوتية
إلى أين يُرحّل اللاجئ في حال لم يترك بصمة في دولة أخرى؟ إلى سوريا التي يتحدث عنها ياخور؟
بين الحدود البيلاروسيّة والبولنديّة وفي مساحة أُطلق عليها "منطقة الموت"، علق آلاف طالبي اللجوء من السوريّين وغيرهم أيّامًا وأسابيع كثيرة تعرّضوا فيها لخطر الموت والإهانات والتقاذف بين الدولتين. هم ليسوا في سوريا أو بيلاروسيا أو بولندا.
اتّهمت بولندا تسهيل بيلاروسيا عبور اللاجئين إلى حدود أوروبا. "موت" هي المنطقة التي لا دولة فيها. وبين الحدود، في مساحة معلّقة على هامش الدولة ــــ القوميّة الأوروربيّة الحديثة، يُحاصَر طالبو لجوء سوريّون. لا حياة خارج مفهوم هذه الدولة.
* * * * *
في الحلقة الأخيرة من المسلسل السوري "غدًا نلتقي" الذي يعرض يوميّات نازحين سوريين في منطقة قريبة من العاصمة اللبنانيّة، تقوم إحدى الشخصيّات ــــ "المجنون" الذي لا ينبس ببنت شفة طوال ثلاثين حلقة ــــ بالاختباء في خزّان مياه المبنى. يحمل بين يديه صور شخصيّات كثيرة. صور وجوه لا تظهر في المسلسل. وجوه لا نعرفها. ينظر إليها ويضحك بطريقة هيستيريّة ويطلقها في مياه الخزّان.
تلحق الكاميرا رحلة هذه الصور وهي تسبح وتغرق في المياه، ليمتزج هذا المشهد بمشهد المركب الذي يسافر على متنه عدد من شخصيّات المسلسل الأساسيّة من لبنان إلى أوروبا. وفي الخلفيّة تحتضن المشهد أغنية فيروز "احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي".
في البحر، بين الأمواج والرياح، يعلق السوريون حين يخرجون من حدود الدول مرغمين. يعيشون أيامًا طويلة "غير موجودين" أو يموتون!
لا حياة خارج "الحدود" في البحر. في البحر، صور شخصيّة لن توضع على بطاقات ثبوتية.
في غابات بين تركيا وبلغاريا، قيل إنّ عددًا من السوريين "اختفوا". كيف يختفي الناس بين الشجر؟
اختفاء هو التواجد خارج الحدود والوثائق.
* * * * *
سأل صحافيّ دنماركي نازحة سوريّة في إحدى مخيّمات البقاع تفكّر باللجوء إلى أوروبا: ما هو رأيك في ترحيلك إلى رواندا عند وصولك إلى أوروبا؟ وكان ذلك في سياق بداية الحديث عن خطّة بريطانيا لترحيل اللاجئين غير الشرعيّين، إلى رواندا.
سؤال عن ترحيلها من أوروبا إلى أفريقيا هو أوّل ما واجه فكرة أمّ لثلاثة أبناء عن الهجرة إلى أوروبا، على أمل إيجاد حياة أفضل من خيمة في لبنان. أصبحت هذه الفكرة بين ثلاث قارّات تتقاذفها طوعًا بسبب رفض الدول استقبالها، وكلّ لسببه الأمني و/أو السياسي و/أو العنصري.
فكرتها أصبحت ـــ كحياة الكثير من النازحين وطالبي اللجوء ـــ بين الدول والقارات وخارجها.
* * * * *
في أغنية مسلسل سوري "ضبّوا الشناتي"، يقول إياد الريماوي:
"سفّرني عَ أيَّا بلد/ واتركني وانساني/ بالبحر ارميني ولا تسأل…".
مؤسف طلب الترك والنسيان. ولكنّ المؤسف أكثر أنّ هذا الطلب ليسَ ضروريًا حين تبدع الدولة ــــ القومية في إخراجك من حدودها.