حين اندلعت الاحتجاجات في سوريا في عام 2011، ربما لم يَدُر في ذهن كثيرين أنَّ الأمور ستؤول إلى صراع دامٍ ومدمّر طويل الأمد. غير أنّه لم تمض أشهر قليلة حتى بدأت موجة نزوح من مدينة حمص نحو الساحل السوري. لم تكن الأعداد كبيرة في ذلك الوقت، لكنّها كانت فاتحة موجاتِ نزوحٍ كثيفة وطويلة المدى من جميع المدن السورية التي نالها القصف والتدمير.
لم يمضِ عام حتى بدأت تنشط جمعيات أهلية لمساعدة "النازحين". تطوعتُ في واحدة من هذه الجمعيات. واستصعبتْ مجموعتنا الصغيرة في تلك الجمعية أن تطلق صفة "النازحين" على من غادروا مدنهم المنكوبة، وتبنّت الراحلة مها جديد مفردة "أهالينا" وراحت تطلقها على أولئك المُهجّرين. شعرنا أنّ لكلمة "نازح" وقع رديء، إذ كيف لشخص ينتقل من مدينة إلى أخرى في البلد الواحد ذاته أن يُسمّى "نازحًا"؟
وجدنا أنفسنا نبتعد عن السياسة في لحظةٍ لنتورط في عمل الإغاثة. وتحولّ كثيرون من أمثالنا، ولكن ليس نحن، إلى "إنجي أوزيين". أي إلى أولئك الذين سبق أن أشارت إليهم أرونداتي روي في مقالة لها بعنوان "حول التمويل والمجتمع المدني"، حيث نبّهت من خطورة تحول الناشطين السياسيين إلى "إنجي أوزيين". وفي ظل غياب الدولة عن إغاثة مواطنيها ودخولها في حرب طاحنة وازدياد التضييق الأمني والاعتقالات التي طالت حتى ناشطي الإغاثة، فضّل بعض الناشطين ترك السياسة كلّيًا والتفرّغ للإغاثة بشروط آمنة.
ازدادت أعداد جمعيات الإغاثة كثيرًا، وازداد تمويلها، لكنها ما كانت لتفي باحتياجات السوريين المهجّرين. وفي عام 2014، صرّح مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيرش: "لقد أصبحت أزمة سوريا أكبر حالة طوارئ إنسانية في عصرنا، ومع ذلك فإن العالم لا يلبي احتياجات اللاجئين والبلدان التي تستضيفهم". وبلغ تعداد من نزحوا من حلب وحمص وإدلب ودير الزور والرقة ومخيم اليرموك في دمشق إلى الساحل السوري ما يقارب مليونًا وستمئة ألف.
اقتصر عمل الجمعيات الإغاثية في البداية على تأمين السلل الغذائية. ومع ازدياد حدة الصراع، التفتت الجمعيات إلى تأمين الأغطية والفرش ومواد التنظيف. وما لبثت إيجارات البيوت أن ارتفعت بشكل كبير، فبدأت بعض الجمعيات تدفع جزءًا من الإيجارات. واهتم بعضها الآخر بالرعاية الطبية. لكن القسم الأعظم من المهجّرين كان قد خسر كلّ ما لديه، فكان من الطبيعي أن تجد أسرًا كثيرة تتشارك المسكن نفسه لا يفصل بينهم سوى سواتر قماشية أو "شراشف". وهذا ما حصل في المدينة الرياضية في اللاذقية وفي مركز "الأونروا"، فيما اضطر بعضهم الآخر إلى استئجار منازل غير آمنة "أسطح" غير مسوّرة، أو مستودعات ومتاجر لا توجد فيها حمامات ومطابخ.
تحولّ كثير من ناشطي الإغاثة إلى "إنجي أوزيين"، وفي ظل الحرب الطاحنة والاعتقالات، فضّل البعض ترك السياسة كلّيًا والتفرّغ للإغاثة بشروط آمنة
تسرّب كثير من الأطفال من المدارس جراء النزوح المتعدد. إذ بلغ عدد المتسربين من المدارس 42 في المئة في عام 2017. ومن هؤلاء من لم يُسجّل في قيود السجلات المدنية. ودخل كثير منهم سوق العمل لمساعدة أسرهم. وتحملت النساء العبء الأكبر في تدبير أمور العائلة في ظل غياب الرجال، فكنتَ تجد أمام مقار الجمعيات الخيرية جموعًا غفيرة من النساء من الأعمار كافة.
لجأت أعداد غير قليلة من المهجّرين إلى القرى لانخفاض إيجارات المساكن فيها قياسًا بالمدن. لكنّ هؤلاء لم يكونوا ينالون ما يناله الذين بقوا في المدينة، بل أُهملوا وتُركوا من دون مساعدة تُذكر، وانخرط كثير منهم في أعمال زراعية، كقطاف الزيتون والحمضيات وفي البيوت البلاستيكية، فيما عمل الذين سكنوا المدن في بيع الخضار والمواد الغذائية على العربات في سوق الخضار، وعملت النساء في تنظيف البيوت، وأسّس الميسورون منهم تجارتهم الخاصة أو مارسوا مهنهم كبيع الأقمشة والبهارات وتفصيل الأثاث والتنجيد.
لا يمكن أن نَغفل عن أنّ المجتمع الأهلي في المدن المُضيفة لم يدعم المُهجَّرين. فقد عمّق تباين الموقف السياسي والتجييش الطائفي الشرخ في المجتمع السوري. صحيحٌ أننا لم نشهد تجاوزات بحق المهجّرين، لكننا، في الوقت نفسه، لا نستطيع القول إنّ سكان المدن المضيفة انبروا لمساعدة المهجّرين ومدّ يد العون إليهم.
كذلك فإنَّ منظمات مثل UNDP (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، الذي عمل في سوريا بالاتفاق مع الحكومة السورية، لم يولِ أدنى اهتمام بالمهجّرين وعوائلهم، بل حصر مساعداته ومشاريعه بسكان المدن المضيفة. كما أن المنظمات والجمعيات الخيرية نفسها لم تحاول أن تطور من عمل المرأة، بل حصرتها بأدوار مجندرة مثل تعليمها صنع المخللات وقص الشعر وتحضير المؤونة، كأن النساء في سوريا تنقصهن تلك الدربة.
وفي الآونة الأخيرة، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية غير المسبوق في سوريا، ونقص الرعاية الطبية وارتفاع إيجارات المساكن، وعدم قدرة السوريين على تأمين ما يسدّ رمقهم، ركزت بعض المنظمات على برامج الدعم النفسي للمهجّرين عن طريق الفن!
لا شك أن مجتمعات اللاجئين أسوة بغيرها شهدت كثيرًا من المشكلات: انتشار الأمية، عمالة الأطفال، الزواج المبكر، العنف، التحرش الجنسي، الاعتداء الجنسي على الأطفال ضمن العائلة ومن قبل أرباب العمل، وتعاطي المواد المخدرة في سنّ صغيرة. وكان يتم التغاضي عن ذلك، في كثير من الأحيان، مراعاة للتقاليد وخوفًا من الفضيحة.
عاد بعض المُهجّرين إلى مدنهم بعد عودتها إلى سيطرة النظام، في حين مكث بعضهم في المدن التي نزح إليها إذ خسر كل ما لديه. ولجأ قسم كبير إلى البلدان المجاورة.
صحيحٌ أننا لم نشهد تجاوزات بحق المهجّرين، لكننا، في الوقت نفسه، لا نستطيع القول إنّ سكان المدن المضيفة انبروا لمساعدة المهجّرين
ليس حال جميع اللاجئين في لبنان وتركيا والأردن وشمال غرب سوريا بأفضل من الذين بقوا في مناطق النظام السوري. أما الذين وصلوا إلى أوروبا، فقد كانت رحلة لجوئهم محفوفة بالمخاطر. منهم من دفع مبالغ طائلة لمهربين لقاء ركوب البلم والوصول إلى شواطئ أوروبا. منهم من مات غرقًا في البحر، ومنهم من عبر الحدود بين البلدان الأوروبية مشيًا على الأقدام وأكل أوراق الأشجار وأصيب بأمراض خطيرة. آخرون ضاعوا في الغابات. ومنهم من تعرض إلى ضرب مبرَّح وأعادوه. آخرون فقدوا أفرادًا من أسرهم.
في عام 2015، فتحت ألمانيا أبوابها لاستقبال اللاجئين، وأرسلت قطارات إلى بولندا وباصات إلى اليونان لإحضارهم. كانت موجة اللجوء السوري قد بلغت ذروتها. انبرى كثير من الأوروبيين ومتطوعين آخرين إلى مساعدتهم، وكانوا يعطون كل لاجئ سلة غذائية صغيرة تشتمل على موزة وقطعة جبن وعلبة مرملاد صغيرة وتفاحة وخبزة.
لم تكن ألمانيا جاهزة لاستقبال هذه الأعداد الضخمة من اللاجئين. ولم يكن لديها الكادر الإداري القادر على القيام بجميع الأعمال المتعلقة باللجوء. كما أن أماكن الاستقبال لم تكن كافية، إذ أعيد تهيئة بعض مراكز الاعتقال النازية تهيئة سريعة وتمّ تحويلها إلى "Heim". وهذا ما جرى في مدينة إيزن هوتن على الحدود البولندية: غرف صغيرة تحوي أسرة حديدية صغيرة فوق بعضها يتشاركها عدد من الأشخاص، وحمامات قديمة وبحاجة إلى صيانة.
أقل ما يُقال إن الظروف التي عاش فيها اللاجئون لم تحقق أيّ شرط إنساني. وكثيرًا ما تعامل معهم بعض الألمان بطريقة عنصرية ولا إنسانية؛ فقد هاجم الكامب المذكور متطرفون يمينيون وحاولوا حرقه مرتين. ومن حالفه الحظ من هؤلاء اللاجئين جرى ترحيله خلال عدة أيام إلى مركز الاستقبال الدائم الذي يبقى فيه حتى تصدر إقامته، وهي فترة قد تمتد إلى عام أو عامين.
مركز الاستقبال هذا أفضل من الكامب، ففيه يحصل اللاجئ على غرفة تخصه في بيت يتشاركه مع عائلة، غير أنه لا خصوصية يتمتع بها، فالحمام والمطبخ مشتركان. وفي هذه المرحلة يستطيع اللاجئ أن يتعلم اللغة علي يد متطوعين، غير أنه يُمنع من العمل والخروج من المنطقة التي يعيش فيها، فهو لا يحمل أي أوراق رسمية باستثناء هوية مؤقتة تسمح له بالتنقل في المنطقة التي قد تكون محصورة بكيلومترات معدودة.
ثمة كامبات دائمة مثل كامب TempelHof تسكن فيها عائلات عديدة يفصل بينها ألواح خشبية، وظروف العيش فيها لا تحقق أي شرط إنساني، وقد تقيم فيها العائلة لأكثر من عام.
حين يحصل اللاجئ على الإقامة، يسمح له وضعه القانوني بالدراسة والعمل ويسجل اسمه في "الجوب سينتر"، فيتقاضى الحد الأدنى الكافي للعيش ويُدفع له إيجار منزل وتكاليف دورات اللغة، ويحصل على تأمين صحي. وثمة رحلة طويلة، بالطبع، ريثما يحصل على هذه الميزات.
مضى ثلاثة عشر عامًا على اندلاع الاحتجاجات في سوريا. الأوضاع تزداد سوءًا في الداخل السوري، ولا نكاد نلمح أي حل سياسي للصراع القائم فيها. كما أنه لا بوادر لإعادة إعمار قريبة. وفي ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة وغلاء المعيشة وانهيار الاقتصاد، ونشوب حروب أخرى في العالم، يبدو أن الأزمة السورية لم تعد تعني المجتمع الدولي، لا سيما إزاء الحرب الأوكرانية وحرب غزّة.