في النصف الثاني من الثمانينيات، اعتُقل الشاب رائد أنضوني البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا من بلدته بيت ساحور في الضفة الغربية، ليودع رهن التحقيق في سجن المسكوبية بمنطقة القدس، التابع لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي ـــــ "الشاباك".
قضى رائد في السجن مدّة سنة. ومع تقدّم الأعوام، وتبدّل الأماكن والوجوه، نسي الكثيرَ مما أمضاه خلال فترة سجنه.
أن ترسم لوحة
في خريف 1990، يقرأ السينمائي الإسباني فيكتور إيريثي خبرًا في جريدة، مفاده أن أنتونيو لوبيث، أحد أهم التشكيليين في إسبانيا وأوروبا، سيُباشر برسم لوحة لشجرة السفرجل المزروعة في فناء بيته. إثر قراءة الخبر، يشعر السينمائي بضرورة تنصيب كاميرا سينمائية لمواكبة رحلة الفنان في رسم الشجرة، وتخليد لحظة محدّدة من انعكاس ضوء الشمس على جزئها العلوي.
يبدأ التصوير بعد يومين من نشر الخبر، ويستمر لشهور يفشل خلالها الفنان، مرات عدّة، في جعل اللوحة تجسّد هذه اللحظة التي يراها ساحرة، لحظة التقاء الشمس بالشجرة. يُنتج عددًا من الاسكتشات واللوحات غير المكتملة، يخزّنها في النهاية في قبو بيته. لكنّ كاميرا السينمائي تنجح في التقاط هذه اللحظة لانعكاس الشمس على الشجرة، وتخلّدها إلى الأبد، من زاوية رؤية الفنان التشكيلي لها نفسها.
يسمح أنتونيو لوبيث في نهاية الفيلم لزوجته الفنانة التشكيلية، ماريا مورينو، باستكمال لوحتها له، حين يكون نائمًا أو ميتًا، فيما نسمع صوته يروي حلمًا حزينًا، يرى فيه نفسه طفلًا في ميدان واسع، أمام البيت الذي ولد فيه، بصحبة أبيه وأناس لا يميّز ملامحهم. يسمع أصواتًا لا يفرّق بينها، ومن بعيد يرى ظلالًا لأشجار السفرجل. يلحظ تحلّل فاكهتها وتحوّلها إلى رماد، ويراقب غرق أقدامهم في الطين.
كان ذلك في بداية التسعينيات. نحن الآن في خريف 2023، في الأسابيع الأولى من المذبحة. كان البعض يسمونها "مذبحة" آنذاك، والبعض الآخر "الحرب على غزة"، وآخرون ينبّهون مبكرًا إلى أنها "عملية إبادة". كنت ساعتذاك أقدّم ورشة في المدرسة الدولية للسينما في كوبا. في ذاك اليوم، الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني، كنت سأعرض على الطلاب فيلم "شمس السفرجل" (1992)، للسينمائي الإسباني فيكتور إيريثي عن أنتونيو لوبيث وشجرته.
بدأتُ التدريس قبل عشرين عامًا. لا أذكر ورشة سينمائية قدّمتها في أي مكان من العالم من دون أن أختمها بعرض هذا الفيلم، الذي أعتبره من أعظم الأفلام السينمائية. وكنت واثقًا، بحكم التجربة والخبرة مما سيتحقق بعد عرضه؛ حالة ملهمة وشاعرية، ونقاشات أبعد من السينما عن الحياة والموت والطبيعة، وصراع الإنسان مع الزمن، وهوس الفنانين بالكمال.
لكن هذه المرّة، نظر إليّ الطلاب بعد عرض الفيلم الطويل بفتورٍ وملل. غالبيتهم لاتينيّون، نساء تعرّضن لأنواع مختلفة من العنف الذكوري، وسيدة كوبية متحوّلة جنسيًا، فيما البعض الآخر من خارج سياق الغيريّة الجنسية.
بادر صاحب الشخصية القيادية بينهم قائلًا: "ليس للاتينيين، وليس لك كأفريقي، رفاهية رسم طبيعة صامتة". وأضافت أخرى، بلهجة اتهام، متسائلة: "لعلّك تحوّلت مع الوقت إلى رجل أبيض دون أن تدري، يقدّر نزاع رجل أبيض آخر لمجرّد رسم لوحة". وتساءل آخرون كيف أبدأ الورشة بفيلم فلسطيني، وأُنهيها بهذا الفيلم، وكيف أراه عظيمًا!
منذ يوم السابع من أكتوبر، حين أشعر بسخافة أي شيء في الحياة اليومية، أتذكر غزة
السؤال في جوهره سؤال عن الفن، عن حرية الفنان في أن يتناول أي شيء، ما دام سيقدّم ما لم نرَه في السابق. وهو كذلك سؤال عن الصراع من أجل هذا الفن، وعلاقته بالمحيط، بالواقع، وبكل الصراعات الأوسع من الفنان نفسه.
اللافت للانتباه هنا أن من بين ما أثار إعجابي في شخصية الرسام، منذ أن شاهدت الفيلم للمرة الأولى، هو ما خلق النفور عندهم. أن يكون في فناء بيته، في مدينة كبيرة، يحاول أن يرسم مجرّد شجرة، بينما يستمع في الراديو لانهيار العالم القديم؛ حرب الخليج، وانهيار الكتلة الشرقية، وتطورات محاكمة أفراد العصابة الإرهابية التي شكّلتها الشرطة الإسبانية، في عهد الحكم الاشتراكي، لاغتيال عناصر منظمة "إيتا" الانفصالية في إقليم الباسك.
نقطة تعريفية معاصرة حول إقليم الباسك
خاض إقليما الباسك وكاتالونيا الكثير من النزاعات من أجل الانفصال/الاستقلال عن إسبانيا، فأصبحا من أكثر المناطق الإسبانية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني، وإشهارًا لهذا التضامن. خصوصًا خلال الإبادة الحالية.
أن تصنع تمثالًا
عاش النحات والفنان التشكيلي الباسكي، إدواردو شييدا، بين عامي 1924 و2002. تمكّن خلال هذه الأعوام من أن يصبح أحد أهم النحاتين المعاصرين. بالإمكان التعرف على أعماله من دون الحاجة للبحث عن توقيعه، ومن دون اللوحة الإرشادية الصغيرة التي توضع بجوارها في المتاحف. عمل بشكل أساسي على تطويع الخشب والحديد والفولاذ في مجسّمات متنوعة الأحجام، ومنح مدينته سان سباستيان الأعمال الأكبر حجمًا.
جذبتي دائمًا أعمال شييدا خارج المتحف. تلك الموضوعة في الهواء الطلق، في مواجهة العواصف وماء البحر. منتصبة، كبيرة، يخربها الصدأ وعوامل التعرية والرياح والعواصف والماء المالح. يجذبني تحدي هذه المجسمات للطبيعة، ومحاولتها الانتصار مؤقتًا على الزمن. الزمن الذي هزم أنتونيو لوبيث حين تغيّر الطقس ومعه مكان الشمس وعلاقتها بشجرة السفرجل. وجذبني أكثر كيف يقوم الفنان بإنتاج عمله، واعيًا بفنائه الحتمي، وبأنه مصنوع كي يواجه، وكي يتلوّث، وكي يُهزم في النهاية.
اليوم الرقم 132 من الإبادة. على شاشة التلفزيون ريبورتاج تسجيلي طويل عن شييدا وأعماله. الشخصيات الأساسية في الريبورتاج أبناؤه. طلب منهم المخرج التحرك حول بعض هذه الأعمال. لا أعلم كم كان راغبًا بإدارتهم، لكنهم كانوا يلمسون أعمال أبيهم برهبة وتقديس، كأنهم يلمسون طفلًا حديث الولادة، أو أيقونة مقدسة للمسيح المصلوب. لم أشعر سوى بسخافة ما أراه، سخافة هؤلاء، وسخافة المشهد، وسخافة هذه الطريقة في لمس مجسّمات خشبية ومعدنية صُنعت كي تتلوث، وتُجرح، وتتعرّى، وتتشوّه تدريجيًا لتتحوّل إلى حفريات.
منذ يوم السابع من أكتوبر، حين أشعر بسخافة أي شيء في الحياة اليومية، أتذكر غزة. أتذكرها وكأنّي ألجأ إليها من أجل العودة للحياة الحقيقية. وكأنّي أستعين بالمقدس الحقيقي، حياة البشر والأطفال، لاكتساب أرض صلبة لمواجهة السخف اليومي، المتجسد في هذه الحالة في إكساب عمل فني قداسة مزيفة، وكأن العالم توقف هناك عند تماثيل شييدا. وكأن العالم فقط هناك، أبناء نحّات يلمسون ما صنعه أبوهم، وكأنها تجسيد لكل شيء. وكأنهم يفعلون أهم فعل في التاريخ لمجرد لمسهم مجسمات لا تربطهم بها سوى صدفة أن صانعها كان أباهم بيولوجيًا.
تمنحك صفة الضحية شرعية، وإن لم تكن ضحية حقيقة، ليس لك الحق في الكلام.. أو صناعة الأفلام
لكنّ المشكلة هنا، الجرح الأساسي الذي أحدثه فعل تمثيل القداسة والرهبة، تمثّل في انفصالي كمتفرج أو متلقي عن عمل شييدا نفسه، ما جعلني أتعامل معه بفتور. الجرح تمثّل في أن أستعيد لحظتها غزة، وأسترجع هذا السؤال الذي طرحه طلابي، بعد تعديله قليلًا، حول رفاهية الرجل الأبيض في صناعة الفن، وما إذا كنا نملكها حقيقة.
فقرة اعتراضية ثانية
بينما أكتب هذ النص، في اليوم 235 من الإبادة، شاهدت صورة منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مصنوعة على الأغلب بتقنية الذكاء الاصطناعي، لرأس طفل من غزة ــــ رأس ضخم بين الأنقاض ــــ يعادل حجم بيت أو مبنى متوسط الحجم، وحوله وأمامه هياكل لأطفال، أشباح، أطياف، أرواح، خارجة من بين هذه الأنقاض، وتحاول السير.
لم أشعر من جديد سوى بالنفور من سخافة ما أراه، تمامًا كما شعرت حيال التمثيل المدعي لأبناء شييدا، مع وعي بدرجة الرداءة البالغة لما تصوّره صانعه عملًا فنيًا عن أطفال غزة.
أن تبني سجنًا
كبر الشاب رائد أنضوني. قارب سنّ الخمسين. وربما بسبب هذا الاقتراب من رقم "دائري" يفرض الاحتفال به، أنتج عام 2017 فيلمه "اصطياد أشباح" كي يستعيد ذاكرة سجنه. الفيلم الفلسطيني الذي بدأتُ به الورشة.
جمع أنضوني بعضًا من الفلسطينيين الرجال، ممّن مرّوا بتجربة الأسر في سجن المسكوبية بالذات، بحجّة أنهم سيبنون ديكورًا لسجن تدور فيه أحداث فيلم روائي. أعادوا إنتاج سجنهم، وبدّلوا الأدوار. أدّوا أدوار المحققين بدلًا من أدوار السجناء؛ مجرّد استبدال طفيف لدور الجلاد بدور الضحية.
في يوم عرضه على الطلاب ــــ اليوم الخامس والعشرين من الإبادة ــــ تمحورت الأسئلة حول المخرج الذي يظهر في الفيلم: هل مرّ بتجربة السجن؟ إن كان قد مرّ بها، فسيكون فيلمًا عظيمًا. وإن لم يكن، فسيحمل الفيلم أسئلة أخلاقية لا تنتهي.
تمنحك صفة الضحية شرعية. وإن لم تكن ضحية حقيقة، ليس لك الحق في الكلام أو صناعة الأفلام. في حين أن أبناء شييدا لم يصنعوا هذه التماثيل. ليسوا ضحايا أو أبطال أو مبدعين. هم مجرد حاضرين بالصدفة.
بالمناسبة، تقول بعض الإحصائيات إن ربع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية تعرّض لتجربة الأسر.
أن تتعاطى الفن في حضور غزة
لا أفكر، أنا والملايين غيري، في صناعة فن. نفكّر في ما هو أبسط وأكثر ثقلًا؛ كيف نُشفى من الرغبة في الانتقام، أو نفكّر في فائدة الشعور بالرغبة في الانتقام، ليس من الدولة التي ذبحت الفلسطينيين فحسب، بل من كل من كان قادرًا على فعل شيء، لكنّه صمت أو امتنع عن الفعل؟
سؤال الانتقام غريب بدوره. هل يحق لنا الشعور بالرغبة في الانتقام، فيما نحن مجرد متفرجين على الإبادة؟ هل يسلب هذا الشعور الضحايا الحقيقيين حقهم به؟
اختتَمت صديقة غزاوية دردشة ليلية، بينما تقصف الطائرات منطقة تبعُدكيلومترات قليلة من مأواها الثالث بالقول "إنني أنتظر قذيفة، قد تأتي أو لا تأتي، وإن لم تأتِ سنتحدّث غدًا". انتهت دردشتنا، وأنهيت طقوس ما قبل النوم استعدادًا ليوم جديد، سيكون طبيعيًا وعاديًا في المدينة الكبيرة التي كان أنتونيو لوبيث يرسم فيها شجرته.