جنوب لبنان: هل حان وقت توثيق الحرب؟

هل حان وقت سرد قصّة جنوب لبنان، فيتحوّل الإنسان إلى محتوى قبل أن يُدفن أحبّاؤه، أو حتى يجد لغته؟

وصلتُ إلى بلدة الخيام متأخرًا. لا أدري على ماذا تحديدًا، لكنّي تأخرت، وكان الضوء قد بدأ يتلاشى خلف الخراب. الكاميرا معي، لكن شريحة الذاكرة لسبب ما تعطّلت، ركنت سيارتي وتركت الكاميرا فيها وسرت.

الخيام تلة، أصبح فيها اليوم تلال من ركام. على التلال أهل يغرسون بين الأنقاض ورودًا من ورق. على كل وردة صورة لشهيد حيث قضى. هنا صورة منفردة لمشتبك قارع وحيدًا. وهناك باقة. في عيون العائدين قهر، وإباء خفي. شعوران متضاربان لا يعرفهما إلّا من عاد. في هيئتهم، دعوى خجولة، ولكن ظاهرة، لتقترب منهم وتسأل: ماذا حصل هنا؟

تخبرني أم الشهيد ما وصل إليها من الحكاية. أتلعثم بكلمات لا تُجدي وأتركها. تبتسم. آخر مرة سرت في هذه المدينة، كنا نسير خلف نعش عصام عبدالله، مصوّر "رويترز" الذي قتله الاحتلال. أسلكُ الطريق نفسها إلى المقبرة. أقف أمام رخامة مقسومة وسط القبور المبعثرة. كأنهم ما اكتفوا يوم شطروا جسده.

أترك المقبرة وأمشي في الأحياء نحو معتقل الخيام في صمت المدينة. صمت البيوت في المدينة المنكوبة، مختلف عن صمتها يوم كان أهلها في داخلها نياما. حديد مكشوف. ستائر ممزقة. وأبنية مخلوعة على كل شيء. أكرر في رأسي سؤالًا واحدًا، كان في الأسابيع السابقة أُمنية: أبقيَ أحد ليخبر ماذا حصل في الخيام؟ قد يبدو فيلمًا سينمائيًا، أو قد نتمنى لو كان كذلك، لكن هذا ليس فيلمًا سينمائيًا على كل حال.

في صباح 18 شباط/فبراير، اليوم الذي كان مقرّرًا فيه انسحاب الجيش الإسرائيلي من بلدة كفركلا، ذهبتُ للانضام إلى الناس لمساندة أهل البلدة في الدخول إليها. هذه المرة حملت الكاميرا وتأكدتُ أن شريحة الذاكرة تعمل. تجنّبت الوجوه وتجنّبت الأسئلة. في النهاية، القصة ستقال كما هي، وإن لم يكن اليوم تحديدًا.

إذا كانت الخيام مدينة منكوبة، فكفركلا قرية مُحيت بالكامل. دمار من لون واحد، مدّ شاسع مكشوف من القرى المجاورة حتى الجدار الفاصل. في أحد شوارع القرية، صورة لشهيد بجانب حقيبة وقطعة سلاح انتشلها أصدقاؤه الثلاثة، استأذنتُهم، ووضعتُ الكاميرا أرضًا في اتجاه الصورة والحقيبة. أخبروني أنهم لم يجدوا جثته بعد، وأنهم لن يخبروا أهله عن الحقيبة والسلاح قبل أن يجدوه، وأنه ظهر في منامهم منذ بضع أيام.

على بعد حيّ، تحنو سيدة إلى درج معلق بين الأرض وسطح بيتهم المهدّم، تلملم الحجارة، وتبحث بينها عن دليل. تشمّها، حجرًا تلو آخر. يبدو أن دماء الشهيد قد جفّت على بعضها. تضعها في جيبها من أجل الأثر.

لا يمكن اختزال التوثيق بفعل إبداعي فوري، فالفن ابن الوقت، ابن الاستيعاب والهضم والحداد

فجأة، يرمي جنود الاحتلال قنبلة صوتية. ننسحب رجوعًا. تلاحق "كوادكوبتر" كل مجموعة على حدة. تحوم فوقها. تحوم فوق رأسي. ثمانية أمتار أو أكثر. لا أُنزل الكاميرا، بل أديرها نحوها غرائزيًا، وأنتظر. أوثّق لحظة قد تكون الأخيرة. قد يبدو فيلمًا سينمائيًا، أو قد نتمنى لو كان كذلك، لكن هذا ليس فيلمًا سينمائيًا على كل حال.

في أعقاب المقتلة، تغير المشهد في جنوب لبنان. لا يمكن حصره بخسائر مادية نتيجة محاولة محو عمراني وحضاري فحسب، ولا بتاريخ مقاوم فيه صندوق ذكريات لقصص لم تروَ بعد. مشهد لا يمكن قياسه بثقل الدماء، ولا بامتداد شاسع لحقول سُرق زيتونها، أو بعدّاد زمن توقّف عند شوق العائدين والباحثين. مشهد لا يتّسع بعبق وردة نبتت من تحت ركام منزل، ولا بين كفيّ رجل يحمل جمجمة. 

على الأرض، وفوقها، بُعدٌ عاطفي ونفسي متصدّع بعمق. بُعدٌ يحمل ذاكرة وصمتًا وأسئلة، سنعجز، ولو بعد حين، عن الإجابة عنها. هنا لحظة لا متناهية، تحمل مهمة مستحيلة. ما الذي يمكنك أن تصوّره في هذا التيه، عندما يصبح كل شيء محض غياب؟

قد نوجه العدسة نحو الخراب، نحو وجوه من بقوا، نحو الفراغ العميق في عيون المنتظرين. قد ندير العدسة بعيدًا، مدركين أن فعل التصوير بحد ذاته قاسيًا، وحتى عنيفًا، وأن الكاميرا عدائية بفطرتها.

قد يستعجل بعض صنّاع الأفلام، ويرى في جنوب المقتلة وغزّة الإبادة قصصًا تستحق أن تروى، فيكتب نصًا تحت الطلب، وينتجه ــــ وإن عن نيّة حسنة ــــ للاستهلاك الثقافي، دون أن يحدّث الضحية، أو يسأل: هل حان وقت سرد القصّة، فيتحوّل الإنسان إلى محتوى قبل أن يُدفن أحبّاؤه، أو حتى يجد لغته؟

الكارثة الإنسانية هنا أفدح من أن تُختزل بقصص للإنتاج السريع، والألم أعمق من أن يُحاصَر في إطار. هذا كله بعيدًا عن سؤال الصناعة وانعدام القدرة الإنتاجية وغياب الجهود الجماعية.

كانت سينما ما بعد الحرب مساحة دائمة للتفكّر، والشفاء، وإعادة التخيّل. فلطالما تصدى صانعو الأفلام لتبعات الحروب المباشرة، وكذلك للمسافة التي يوفرها مرور الزمن.

ثنائية ظهرت بوضوح في مضمون الأفلام والفلسفات التي يتبناها المبدعون، فبعض صانعي الأفلام يختارون توثيق الأحداث في الوقت الفعلي، ملتقطين عفوية وآنية الموقف، في حين يرى آخرون أن الزمن والتأمل ضروريان لصياغة سرديات ذات مغزى عن الحروب والمآسي بعد أن ينقشع الألم. تأتي هذه الحركة انعكاسًا للزمن، وخيارًا متعمدًا للانتظار حتى تهدأ التبعات المباشرة، مما يتيح تصورًا أكثر عمقًا للحياة بعد الحرب. 

يخوننا الفن السريع، يُسيء إلى الألم.. يضلل عمق التجربة ويعرّضها للتحريف في قصة لم تكتمل فصولها

قد تُعرّضُ صناعة الأفلام خلال المآسي الجارية الواقع المعقّد لخطر التبسيط المفرط، فيفتقر إلى العمق والدقة. إذ إن الأفلام الآنية تعطي الأولوية للإثارة على حساب الجوهر، حيث تركز على بطولة الأفراد وخسائرهم الشخصية، ما يؤدي إلى تسييس أقل وإلى إخفاء للسياقات الاجتماعية والسياسية الأوسع.

قصص مدفونة تحت الأنقاض، بطولة الشهداء، فرح العائدين، قهر الثكالى، أطفال اضطروا أن يكبروا على غفلة، استهلاك تجاريّ لمفهوم النصر والهزيمة. يمكن أن يؤدي هذا النهج لتحويل الأحداث المعقدة إلى مجرد مشاهد استعراضية، مما يفصل الجمهور عن الفهم الأعمق والمسؤولية الأخلاقية تجاه المآسي وتجربة المجتمع وعمقها. 

تُشكل سينما ما بعد الحرب مرآة لنفسية المجتمع الجمعية، مقدمةً رؤى عن الاستجابات المباشرة والمتأنية للصراعات. سواء التقطت عفوية اللحظة أو الحكمة المستمدة من المسافة الزمنية، يواصل صانعو الأفلام استكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية من خلال عدسة الحرب وتبعاتها. لذا تبقى الاعتبارات الأخلاقية، والتأمل المدروس، والالتزام بالصدق العاطفي، أمور ضرورية لصناعة قصص تكرّم تعقيد التجربة الإنسانية وتسهم في عملية الشفاء الجماعي.

التوثيق غريزة السينمائي، لا شكّ، وسواء كانت ملحّة أم هادئة، تدفعه دائمًا نحو التسجيل، نحو الاحتفاظ بلحظة حتى وإن لم يعرف بعد لماذا، أو كيف، أو حتى متى سنستخدمها. فيأتي التوثيق للتأكيد على دور الفنانين في رفض أن يُمحى تاريخهم أو يُكتب بغير أيديهم، وفي مقاومة السرديات السائدة التي تسعى إلى تضليل وتهميش المجتمع. لكن هذا الحفظ، وإن كان ضرورة، لا يمكن اختزاله بفعل إبداعي فوري. الفن ابن الوقت، ابن الاستيعاب، والهضم، والحداد.

يخوننا الفن السريع، يُسيء إلى الألم. يضلل عمق التجربة ويعرّضها للتحريف في قصة لم تكتمل فصولها. أن يرافقنا إلحاح خفيّ لا يعني الجاهزية لصنع معنى ونحن ما زلنا في قلب الحداد. السينما في أقصى تجلياتها، لا تعيد فقط ما حدث، بل تفتح مساحة لنقول ما عجزنا عن قوله وقتئذ. هي ليست ترفًا، بل ضرورة، إنما ذاكرة، ولا بدّ للذاكرة أن تتشكل يوم يهدأ الغبار، إن هدأ، فيصبح السرد ممكنًا، ويصبح الناجون قادرين على رواية القصة، بلغتهم، وبشروطهم، وبتوقيتهم.