في كلّ صباح، أفتح عيني على سيلٍ من الصور. تتراكم الأحداث طوال الليل. خلال تلك الساعات السبع، تكون غزّة قد استيقظت وسقط فيها ما يكفي من الصواريخ والضحايا ليكفل تغطية من القتل والقصص لأيام.
تسدّ الصورُ بابَ منزلي كجدار ٍ ثلجي. أفتحُ الباب بحذر، ثم أجرفُ منها ما استطعت دون أن أسمح لها بإيذائي. في كل صباح معرضٌ للصور يُفتتح باكًرا بعد أن أغسل وجهي. هذا سبيلي لأقي نفسي الشعور بفوات الأشياء. هكذا أشعر أنني في قلب الحكاية، كأنني أمسك بيدٍ حتى لا تفقد الأمل.
أُفلتر ما استطعت. هناك شيءٌ من الترقّب والتأمل، ترقّبُ ما سيحدث اليوم وتأمّلٌ في انتهاء المأساة. ولكن الأمل في "الصورةِ الملكة" أقوى. ربما، اليوم، تخرج إلى النور صورة، صورةُ الصور، الصورةُ الأخيرة لهذا الفيلم الرديء.
ولكنّ اليومَ أيضًا ليس أوانها.
منذ اختراع الصورة، حفظ التاريخ صورًا للحروب والمآسي. تذكّرتُ منها اليوم صورةً حدّثتني عنها أمي، منذ زمن. هي صورة من السودان لنسر وطفلة تتضوّر جوعًا. قيل لي إن النسر كان يتربّص بها منتظرًا أن تسقط لينقضّ عليها. وقيل لي أيضًا إن المصوّر الصحافي (كيفن كارتر) انتحر بسبب الصورة.
انتحر كارتر بعد أربعة أشهر على نيله جائزة "بوليتزر" عن "النسر والفتاة الصغيرة"، وكان عمره 33 عامًا. لم يتحمّل ثقل الحياة التي طاردَتْه فيها "ذكرياتٌ حيّة للقتل والجثث والغضب والألم.. للأطفال المتضورين جوعًا والمصابين، للرجال المجانين المولعين بالضغط على الزناد". هذه كانت رسالته الأخيرة.
أفكّر في نفسي كلما فكّرت في غزّة، أي كل يوم، في كل جراح الناجين التي ستتقرّح لسنوات. كم يعيشُ الناجون من الإبادة؟ وكيف يعيشون؟ هل سيُمنَح بعضُهم اللجوء في بلدان تقدم لهم خدمات نفسية؟ تعيدني أفكاري إلى "الصورة الملكة". ربما تكون تلك الصورة المنتظَرة كفيلةً بإنهاء الحرب، نهايةَ فيلم هوليوودي لا يقبل إلا النهايات السعيدة. أتذكّر صورة "فتاة النابالم" في حرب فييتنام: الفتاة المحترقة التي تركض باكيةً عارية في الصورة. أصبحَت الفتاةُ في ما بعد كاتبةً كندية.
أفكّر في نفسي أن هناك أثمانًا باهظة لقاء أن تلحظك العينُ البيضاء، وليست كلُّ الأثمان الباهظة كافية
هل سيكتب الناجون في غزّة عن رحلة التماثل للشفاء؟
وعندما تنتهي الحرب، هل سيُحصى عدد المكتئبين في غزّة؟ هل ستُرسَل مع قوافل المساعدات اشتراكاتٌ مجانية في تطبيقات التأمّل؟ هل ستتدفّق مدرِّبات اليوغا لمساعدة الأمهات المتأثرات؟ هل ستُوزَّع الأطراف الاصطناعية مجانًا مع دورات بناء القدرات؟
* * * *
غزّة مقبرة جماعية. حقلُ دراسة لعلماء النفس والأطباء. فيلم هوليوودي مبالغ في أحداثه. غزة العليا بقعة أورويلية تفوّقت على مخيّلة الكاتب. غزة السفلى تقاتل من أجل الحياة.
* * * *
تتخلل معرضَ الصور الصباحية رسالةٌ صوتية من جارتنا سلمى. جارةُ أمي في الحي أخذت على عاتقها نقل الأحداث المحلية كل صباح. تقول سلمى إن أشجار الزيتون في قريتنا على الحدود مع فلسطين تحترق في هذه الأثناء بقنابل فسفورية رمتها إسرائيل. تسمِّي لنا الأرضَ التي احترقت. لأبي في تلك البقعة أشجار زيتون ـــ أبي الذي رحل منذ أكثر من عام قبل أن يرى ما حدث. لو كان أبي هنا لاختار الشجر المحترقَ "الصورةَ الملكة".
* * * *
في حفلة الصور هذه أتذكر أيضًا ألان شنو. هذا هو اسمُ أيلان الكردي الذي لم يخرج إلى النور. أفكّر في نفسي أن هناك أثمانًا باهظة لقاء أن تلحظك العينُ البيضاء. وليست كلُّ الأثمان الباهظة كافية. نقدّم، نحن ذوي الميلانين الأقل حظوة، صورَنا قرابين للعالم علّه ينتقي لنا الصورة الأكثر إيلامًا فيمنحنا تأشيرة للصعود على متن السفينة.
* * * *
كثيرةٌ صارت صور غزة. فهل تنتقص كثرة الصور من المأساة شيئًا؟ لكن غزة ليس لها أن تقرر عدد الصور كل يوم.
* * * *
تسأل المذيعة: "وائل، هل تسمعني؟"
نسمع وائل ولكنه لا يجيب. يغيب لبرهة ثم يعود.
"نعم، أسمعك. سأعود إليكم بعد قليل. سأدفن بعضًا من عائلتي ثم أعود".
يعود وائل إلى البثّ المباشر. لا وقت للبكاء. ربما اعتاد أهل غزة على الموت. هكذا يصوَّر لنا. هل كان البشر في القرن الثامن عشر أكثر اعتيادًا على الفقد لتواتره؟ هل كثرة الموت تجعله رتيبًا وسائغًا؟
هل يفوز رجل ثكلان، جاث فوق أسرته، أسمر اللون يتحدث العربية، بالصورة الملكة؟ - حتمًا لا.
صور غزّة لا تكفي. لا الأم المحتضنة ابنَها المكفّن. لا الأخ الحامل أخاه منتظرًا الكفن عند صانع الأكفان. لا الطفل المرتجف في المشفى بعد القصف. لا الأشلاء. الأشلاء لا تحكي قصصًا.
قبل أيام أحرقَت إسرائيل وجه فتاة. قيل إن المصوّر لم يقوَ على إخبارها أنها لن تبصر بعد الآن. كانت تسأله بعينين مطفأتين: أين أنت؟
يجيبها: "أنا هيني جنبك". لكنها لا تراه.
كذا العيون البيضاء. لا ترى، وبعضها لا يدرك أنه لا يرى.
* * * *
لا صورة ملكة في غزّة. تتكدّس الصور كالجثث وتستمر الحرب غدًا.