هذا سؤال الآخرين

في الغرفة وحدي، يبدأ النّصّ على ورقة بيضاء من كلمة مفردة. كالكون يتفتّق من ذرّة. في العربيّة، كلمة واحدة تولّد ألف اشتقاق، كعصا سحريّة تخرج من بطن الكلمة كلمة أخرى، يسمّي النّحاة هذا السّحر اشتقاقًا.

بعد انتهاء العرض المسرحيّ، يصرّ صديقي الفرنسيّ أن أقضي مع سائر الرفاق ما تبقّى من ساعات المساء وسط المدينة. وفي الطريق يطلبُ للمرّة الثانية أن أخبره عن أكثر ما أفتقده في حياتي الجديدة.

حاولتُ التهرّب من الإجابة مجدّدًا مخافة أن أبدو سخيفًا. ثمّ، وبعد إلحاحه، أجبته بسرعة: لغتي!

في العربيّة، وحدي أنا من يخلق العالم. أتخيّر التّراكيب الّتي أشاء، تسيل الألفاظ حولي فأطوّع مجاريها كما أريد. ليس لي في العربيّة مرجع عداي. أحدس ما تريده منّي اللّغة، تدنو منّي ثمّ تبتعد، أبتدع فيها تركيبًا جديدًا، تتمنّع ثمّ ترضى.

أجيد الفرنسيّة أيضًا، لكنّها لساني الآخر، أسير فيها على الحبال. في الفرنسيّة قلّما ألحن في القول، لكنّني مع ذلك لستُ أجرؤ على الابتداع. أرضى في الفرنسيّة عن لساني ما دمتُ أصون حدود النّحو. أما في العربيّة، فليست ترضى عنّي اللّغة ما لم أجهدُ أخلقُ فيها لغةً أخرى، وما لم أحرف اللّفظ باستعارة جديدة، حتّى لو تعثّرت. في الفرنسية أدنو من المعجم مستفتيًا، في العربية يدنو مني محدّثًا.

في الغرفة وحدي، يبدأ النّصّ على ورقة بيضاء من كلمة مفردة. كالكون يتفتّق من ذرّة. في العربيّة، كلمة واحدة تولّد ألف اشتقاق، كعصا سحريّة تخرج من بطن الكلمة كلمة أخرى، يسمّي النّحاة هذا السّحر اشتقاقًا. لك أن تخيط النّصّ بلا تكلّف، فتسير بك دروب الاشتقاق إلى حيث تشاء. الدرب ينعطف بالكاتب وليس الكاتب من يتخيّر وجهته كما يقول هايدغر.

أشعر فجأةً أنّ بين يديّ طلسمًا. كيف للحرف أن يستحيل عند الآخر رمزًا أخرس؟

كلمة واحدة في العربيّة تكفي ليولد كونٌ جديد. في الفرنسيّة يبقى لساني انعكاسًا للعالم. أنا لغتي، هكذا يجيب درويش عن سؤال الآخرين، إن كان لا بدّ من إجابة...

في القاعة، أجلس في المقدّمة، وأحمل كتابًا بالعربيّة. تقترب صديقتي لتسأل عن الكلمات؛ كيف أفرّق بين كلمة وأخرى.. وما مقدار الفراغ الكافي للحكم إن كان اللّفظ مكوّنًا من كلمتين أو من كلمة واحدة فيها حروف منفصلة.. ثمّ كيف ينساب نظري من اليمين إلى اليسار.. تسأل بإلحاح. أشعر فجأةً أنّ بين يديّ طلسمًا. كيف للحرف أن يستحيل عند الآخر رمزًا أخرس؟

يخبرني صديقي الذي قرأ شيئًا يسيرًا عن اللّغات المشرقيّة عن انبهاره بغياب حروف العلّة فيها. يتعجّب كيف ينقلب عندنا حرف العلّة إلى حرفٍ ليّن، أو كيف نكتب كلمةً كاملةً من دون حرف علّة واحد. يستفيض ويُكمل: هذه ميزة لغات المشرق؛ الكلام المكتوب ميت، لا حركة فيه، الحركات لا تولد إلا حين النطق بها. بالقراءة فقط تدبّ في النصّ الحياة!

تعجبني الفكرة، أنا الذي لم أسمع بها من قبل. عرفتُ لاحقًا أنّها مقاربة ليترجيّة... لا يهمّ، ابتسمتُ وشكرته على الملاحظة. قلتُ في نفسي: هو يعرف ذلك لكنّني أنا دونه من يفهم المقصد.

أعودُ إلى البيت في المساء. وفي الطّريق أفكّر وحدي بما لم أقله لصديقي يوم تهرّبتُ من الإجابة. أفكّر في اللّغة حين تفقد فاعليّتها، حين تصبح أنتَ وحدك من يُتقنها.

في نصّ للكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، يسأله أحدهم عن اسم الكتاب الذي سيختاره لو أجبروه على حمل كتاب واحد إلى جزيرة معزولة. لا يتردد كيليطو في الإجابة: "لسان العرب" لجمال الدين بن منظور! هذا الكتاب ليس معجمًا فحسب، بل هو كتاب في الشعر والسرد والميثولوجيا. "لسان العرب" لا يمكن أن يملّ القارئ منه، ولا تنفكّ الحكايات تولد من بين دفّتيه. لكن، هل التفت السائل حقًا إن كان للسان العرب قيمة في جزيرة معزولة؟ كيف سيغدو لسان العرب حين لا يتحدّث به إلّا عربيّ واحد؟

Image Credit: Wissam Shawkat

ميّة سنة ولسه البحر بيضحك

لقد شربنا من ينبوع سيّد درويش طيلة قرن كامل، حتّى حينما نتذوّق أعمال ملحّنين آخرين كعبد الوهاب أو..

مصطفى سبلاني
كما لو أنّ

"كما لو أنّ" قدر الإنسان مع الفقه أن لا يواجه الواقع كما هو، بل أن يلتفّ عليه كلّما أوقعه النّصّ في..

مصطفى سبلاني
إدغار موران.. سيرة محارب عتيق

إدغار موران كائن تاريخيّ متعدّد الانتماءات. هو يساريّ انتسب إلى الحزب الشّيوعيّ، ثمّ عاد الحزب وأخرجه من..

مصطفى سبلاني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة