لعلّ توصيف الفيلسوف إتيان باليبار لإعلان رئيس الجمهورية الفرنسيّة حلّ مجلس النواب مساء 9 حزيران/يونيو لا يعبّر عن انطباع الناس فحسب، بل عن بنية اللّحظة السياسيّة نفسها. اعتبر باليبار هذا القرار السياسيّ خطوةً مفاجئةً، بيد أنّها متوقّعة. ويبدو أنّ في مفارقة باليبار، التي يتطابق المفاجئ فيها مع المتوقّع، توصيفًا كاشفًا لمعنى الحدث.
فهمُ ذلك لا يمكن أن يقتصر على تحليل السّبب المباشر لما حصل، أعني الفوز الكاسح لحزب "التجمّع الوطني" ("الجبهة الوطنيّة" سابقًا) في الانتخابات الأوروبيّة، بتحقيقه ضعف ما حققته الغالبيّة الحاكمة من أصوات، إنّما يتعدّاه لمراجعة التراكمات التاريخيّة والتحوّلات البنيويّة الّتي أفضت إلى تزايد شعبيّة أقصى اليمين الفرنسي على مدى العقود الماضية.
حزب "الجبهة الوطنية" الذي تأسّس عام 1972 على يد أصحاب أفكار تطرّفية منبوذة، عَرف أولى نجاحاته في الثّمانينيات تزامنًا مع تصدّع الجبهة اليساريّة، بعد أن انخرط الاشتراكيون في سياسة جذب الاستثمارات في سياق النظام النقدي الأوروبيّ والتّحول النيوليبراليّ العالميّ يومها.
في ظلّ إحباط جمهور اليسار من سياسييه، بدأت "الجبهة الوطنيّة" تتحوّل إلى لاعبٍ سياسيّ مع تقدّمها في الانتخابات الأوروبيّة بشكل ملحوظ، بعد أن كانت مجرد تنظيم منبوذ سياسيًا لانحداره من إيديولوجيات قريبة من حكومة فيشي ومتماهية مع الاحتلال النازي.
منذ هذا التّاريخ، بدأ الحزب بمراكمة العمل السياسي والسعي للوصول إلى الرئاسة الأولى، وبرغم الإخفاقات المتكررة للوبان الأب، والتباينات الداخلية في الحزب، إضافة إلى هامشية تأثيره في السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن فاعلية الحزب وحضوره السياسيّ كانا في ازدياد نسبيَ ولو متقطّع، ما مكّنه من الوصول للدّورة الثّانية في الانتخابات الرئاسيّة عام 2002، ولو عبر معدّل أصوات محدود.
شهد الحزب تحوّلات كبيرة، على المستوى الإيديولوجي، واستفاد من موجة رُهاب الإسلام التي سادت عالميًا منذ أيلول/سبتمبر 2001 ثم فرنسيًا بعد سلسلة الأعمال الإرهابية المتفرقة ابتداءً من العام 2012. وعلى مستوى التنظيميّ، شهد إعادة تشكيل صوريّ لهويّـته السياسيّة مع قيادته الجديدة عام 2011 واسمه الجديد عام 2018 في إطار سياسة عقلنته وتحسين سمعته دون أيّ قطع مع تاريخه وأيديولوجيته[1].
مع هذين التّحولين، ارتكز الخطاب السياسيّ للحزب على استراتيجيّة تحويل الاستياء الشعبيّ في اتجاهين؛ الأول ضد السلطة باختلاف أطيافها، مستغلًا بذلك التداعيات الميدانيّة لتفكك دولة الرعاية، والثاني ضدّ المهاجرين الآتين من الجنوب، والذين يشكلون، حسب تقييم "التّجمع"، عالة اقتصاديّة، إضافة إلى تهديدهم للقيم التاريخية للبلاد. الخطاب الموجه ضد المهاجرين خضع أيضًا لتحوّلات بهدف تسويقه كمشروع أقرب للقوميّ منه إلى العنصريّ، ركّز فيه الحزب على تشييد ولاءٍ للبلاد يقوم على نقيض حالة "انفصاليّة" يستحيل هو المنقذ منها.
صحيح أنّه ليس لـ "التجمع الوطني" مشروع حقيقي، بيد أنّ قادر على توليف خطاب يُرسمل على الشعور بتراجع حضور الدولة، والشعور بالتهديد الأمني الدائم
على أهميّة هذه الملاحظات، لا يمكن الاكتفاء بتحليل الخطاب السياسيّ لمعرفة طبيعة القاعدة الجماهيريّة والانتخابيّة لـ "التجمّع الوطني" الّتي ما تنفكّ تتزايد، متجذّرة في بيئتها الأولى، ومتسرّبةً إلى بيئاتٍ جديدة، بينها مناطق كانت تُحسب على اليسار تاريخيًا.
من الضروريّ العودة إلى تحليل سوسيولوجي وديموغرافي لفهم هكذا تحوّل واستشراف مآلاته. يعجز الاقتصار على تحليل الخطاب عن ذلك، لأنّ الأمر يستلزم دراسات ميدانية وملاحظات طويلة الأمد وتحليلًا لمختلف طبقات القاعدة الجماهيريّة القديمة والمستجدّة، من الكوادر إلى الناخبين والمؤيّدين، أو المتحوّلين حديثًا إلى مناصرة الحزب[2].
التركيز على التحولات المحليّة في هذه الدراسات يجب أن يُلاحظ بالتكامل مع وضع الأمور في سياقها العام باعتبار "التجمع الوطني"، كحال أغلب حركات أقصى اليمين، واحد من الآثار الجانبيّة للعولمة، وتحوّلاته ليست منفصلة عن تحوّلاتها.
بالنّظر إلى مؤيّدي "التّجمع" فإنّ جمهوره ازداد على مر السنوات، ليصبح توليفًا من شرائح مجتمعيّة ذات مصالح متباينة، من صغار البرجوازيين في المناطق الطرفيّة في البداية إلى انضمام نسبة متزايدة من التّجار ثم الحرفيين والعمال على مر العقود الماضية، مع توسّع واضح من الأطراف إلى المدن الكبرى، وإن كان هناك دائمًا استثناءات تستدعي تحليلًا خاصًا.
إلى اليوم، لا يبدو أنّ هذا التباين قد خلق توترًا ملموسًا، لغياب البرنامج الفعلي الذي لم يضع بعد مصالح هؤلاء المتناقضة على المحك عبر ممارسة الحكم، لكن ذلك لا يعني غياب التناقضات الكامنة في جمهوره.
على مستوى الكوادر، جذب الحزب وجوهًا سياسيّة عدّة من أحزاب أخرى. وشكّل هذا الانتقال مكاسب متبادلة للطرفين؛ فبالنسبة للوافدين، يشكّل الحزب قاعدة سهلة للترقّي وتسنّم مناصب رسميّة بسهولة أكبر نسبيًا من الأحزاب التقليديّة، أمّا على مستوى الحزب، فتحوّل الوجوه السياسيّة إليه يُرفده بشخصيات من حملة الشهادات العليا وذوي خبرة، وهو ما يفتقده في كوادره الأصليين.
التفكّك البطيء ولكن المتسارع لمؤسسات دولة الرعاية، وارتفاع التضخم، وتضاعف مشكلات نظامَي التعليم والصحة في القطاع العام، وتوالي الأزمات السياسيّة، جعلت كلها طرح القطيعة مع الوضع الحالي أكثر إلحاحًا عند الجميع.
يمكن ملاحظة ذلك عند مختلف الأحزاب على تنوّع اتجاهاتها؛ وهو ما ترافق مع تراجع نسبيّ لأحزاب اليمين واليسار التقليدي وتقدّم ملحوظ لتيارات أكثر جذريّة على الجانبين. اليسار يبشر بقطيعة يحاول أن يجد فيها بديلًا متكاملًا لنظام الحكم الحالي، وأقصى اليمين يحمل في بنية مشروعه قطيعة دستوريّة، لا بل قيميّة. حتّى حزب الغالبية الرئاسيّة، الذي بدّل اسمه من "الجمهورية إلى الأمام" إلى "حزب النهضة" قبل عامين، يعمل على خطاب يوحي بضرورة الانتقال من مكان إلى آخر لاستيعاب حالة التململ الشعبيّ.
التجربة بيّنت أنّ دعم "التجمّع الوطنيّ" هو ردّ فعل، وبالتّالي فهو قابل لأن يتراجع عندما يواجه خصمًا يحسن اللعب بذكاء في منطقة قوّته
رد الفعل عبر الاتجاه نحو أقصى اليمين، ناتج من الحاجة العمليّة إلى هذه القطيعة. الخلافات الداخلية والأيديولوجية لليسار، إضافة إلى سوء استخدامه السلطة في الثمانينيات ثمّ في التاريخ القريب مع الرئيس السابق (2012-2017)، أدّت إلى خيبات كبيرة. وإخفاقات خط الوسط، من حركة "السترات الصفراء" إلى تداعيات الاعتراض على قانون "إصلاح التقاعد"، عزّزت كلها من موقع أقصى اليمين.
هذا الفشل المزدوج دفع إلى رد فعل أدخل البلاد في خطر اختيار ما هو شعبوي على غرار بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا. هذا الخيار يعبّر عن مفارقة واضحة، فأقصى اليمين لا يمكن له بحال أن يكون مخرجًا، فهو يقوم على أيديولوجيا ترفض أفكار الثورة الفرنسية، وتتماهى مع قيم أبويّة تعارض حرية الإجهاض وحقوق الأقليات الإثنيّة والجنسية، ثمّ إنها تحمل أفكارًا اقتصادية هجينة تسعى فيها إلى توفيق بين اقتصاد قومي وبين تدابير تفكيك دولة الرعاية عبر خفض الضرائب وتهديد الضمان الاجتماعي والاتجاه نحو الخصخصة والقطع مع الاتحاد الأوروبيّ.
صحيح أنّه ليس لـ "التجمع الوطني" مشروع حقيقيّ يمكن أن يشكّل بديلاً لأزمة الحكم. بيد أنّ نجاحه يكمن في قدرته على توليف خطاب يصوّب على مصدرَيْ قلق شعبيّ: أولًا الشعور بتراجع حضور الدولة، لا سيّما في المناطق الطرفيّة حيث تتردّى جودة خدمات القطاع العام، وثانيًا الشعور بالتهديد الأمني الدائم.
التقى حضور الشرط المتمثّل بتفكك دولة الرعاية مع ارتفاع المانع المتمثّل بتطبيع حضور الحزب سياسيًا. فهؤلاء الذين كان من المستهجن مناظرتهم في السابق، باتوا اليوم جزءًا من الحياة السياسية اليومية، حاضرين على وسائل الإعلام كبديل جديّ.
وصار العديد يعبّرون، بنحو متزايد، عن كسرهم للمحظور الاجتماعي وانتخابهم لـ "التجمع الوطني"، ما جعل الأمر مقبولاً أكثر فأكثر على مستوى الجماهير نظرًا للطبيعة الاجتماعية للفعل الانتخابي[3].
صعود أقصى اليمين ناتج عن أزمة حكم بالدرجة الأولى، وأزمة سلوك سياسي لبقيّة الأحزاب بالدرجة الثانيّة. على امتداد السنوات الماضية، الشعار السياسيّ الأول لمختلف الأطراف كان عرقلة وصول لوبان إلى الحكم في إطار استراتيجية حيلولة (barrage). وهذه الاستراتيجية نافعة على المدى القصير، وهي أدّت وتؤدي إلى فوز خصوم "التجمّع الوطنيّ" ومنها نتائج انتخابات الرئاسة عام 2022، لكنها لا تصبّ إلا في مصلحة التجمع على المدى الطويل، بتصويره، ولو بنحو غير مباشر، كالطرف الوحيد الذي يحمل مشروعًا أصليًا، وبتقديم الجميع على أنهم أصحاب مشاريع قائمة على مجرد نقض مشروعه.
المسألة ليست حديثة أو طارئة، إذ إنّ الأحزاب التقليدية، يمينًا ويسارًا، استخدمت على امتداد عقود "التجمع الوطني" استخدامًا سياسيًا لجرّ المصالح والتعبئة، بدل التفكير في أسباب صعوده والعمل على تقويض حضوره.
سؤال الغد يقتضي رؤية اللحظة ضمن سياقها التاريخيّ الذي يضع اليسار أمام مسؤوليّاته، النظريّة والعمليّة، وهي مسؤوليات ليست بسيطة بأي حال من الأحوال
أن يكون الأمر متوقعًا وأن يشكّل صدمةً في آن، كما قال باليبار، يمسي الآن مسألة منطقيّة. هو متوقّع بلحاظ هذا التراكم التاريخي، وهو صادم لأنّه قد كان في غفلة عن عمدٍ أو عن غير عمد طيلة سنوات، على اعتبار أنّه مؤجّل دائمًا أو غير ممكن، هو آتٍ ومستبعد في آنٍ. نتائج الانتخابات في الدورة الأولى قبل أسبوع ثم الدورة الثانية أعادت السؤال إلى الواجهة: الآن ماذا عن يوم غد؟
برغم أنّ تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" استطاع أن يتصدّر النتائج ويمنع "التجمّع الوطنيّ" من تحقيق أهدافه بعد تعاونه مع الوسط وخصومه السياسيين، إلّا أنّه لا أكثرية مطلقة في المجلس. والتقدم الذي حققه اليسار مقارنةً بالدّورة الماضية، يبقى متواضعًا نسبة لتاريخه. هذا يعني أنّ السياسة في المرحلة القادمة ستعمل على آلية الجمهورية الرابعة، لكن في إطار دستور الجمهورية الخامسة، ما يعمّق أزمة وصعوبة الحكم، ويدفع إلى إيجاد تحالفات ليست من السهولة بمكان، في ظلّ ندرة الشخصيات الوازنة والخبيرة سياسيًا.
لكن، بصرف النظر عن التفصيل السياسي المرحليّ، فإنّ سؤال الغد يقتضي رؤية اللحظة ضمن سياقها التاريخيّ الذي يضع اليسار أمام مسؤوليّاته، النظريّة والعمليّة. وهي مسؤوليات ليست بالبسيطة بأي حال من الأحوال.
تجاوزت أحزاب اليسار خلافاتها ونجحت في التحالف حول برنامج جيد؛ لكنّه يبقى جيدًا لخوض الانتخابات، من دون أن يشكّل وحده مشروعًا سياسيًا ليسار جديد. المشكلة الأساسية تكمن في غياب مشروع متكامل يتناول استبدال نموذج الاستهلاك الحالي وإعادة التوزيع لدعم مؤسسات الرعاية. وهذا يستلزم جهدًا على المستوى النظريّ إضافة إلى نشاط يمرّ بالنقابات والجمعيات على المستوى العمليّ لإعادة الوصل مع العمال.
التجربة بيّنت أنّ دعم "التجمّع الوطنيّ" هو ردّ فعل، وبالتّالي فهو قابل لأن يتراجع عندما يواجه خصمًا يحسن اللعب بذكاء في منطقة قوّته دون أن يتحول إلى نسخة رديئة منه. لذا، فإنّ أي برنامج جديد لليسار، لا يمكن له أن يغفل قضايا الأمن والمسألة الوطنية ليتركها لأقصى اليمين، بل عليه العمل على تجسيدها بطريقة تناسب قيمه ومبادئه ورؤيته لأوروبا جديدة.
هذه هي مسؤولية اليسار اليوم؛ أن يعرف كيف يكون براغماتيًا وواقعيًا ومستشرفًا (prospectiviste) من دون أن يخون مبادئه. وهي مسؤولية خصومه أيضًا، من يمين تقليديّ أو وسط، عبر الاعتراف أيضًا بأنّ أقصى اليسار كان تاريخيًا، على خلاف الحال في إيطاليا وألمانيا، جزءًا حقيقيًا من الجبهة الجمهوريّة والحياة الديمقراطية الفرنسية، ولا يمكن أبدًا مقارنته بأقصى اليمين على قاعدة رفض "النزعات الراديكالية" من أي جهة أتت، لأنّ هكذا بروباغندا لا تصبّ إلّا في مصلحة "التجمّع الوطنيّ".
ليس تاريخ اليسار أو اليمين وحده على المحكّ، بل قيم الجمهوريّة نفسها ومن خلفها تماسك أوروبا ومصيرها أيضًا. أن يُكرّم المقاوم الفرنسي من أصل أرمني ميساك مانوشيان قبل أشهر بإعلان دخوله إلى مقبرة العظماء في البانتيون، في ظلّ تصاعد خطاب عنصري يحمّل المهاجرين مسؤولية تدهور أوضاع البلاد، مفارقة تاريخيّة تعبّر عن الارتباك لا في خصوص قضية الهجرة فحسب، بل في خصوص قيم باتت مهدّدة.
اللحظة السياسيّة إذًا تتجاوز مجرد التحدي الانتخابي، لتنخرط في سياق أوسع، في إطار ما يسميه إيمانويل تود خطر "انهيار الديمقراطيات الليبرالية". لا يخفى أنّ الديمقراطية لم تكن يومًا مسارًا مستقيمًا وتقدميًا، ودروس القرن العشرين أظهرت كيف وصل الفاشيون إلى السلطة بأدوات ديمقراطيّة الشكل.
الإيمان بتعثر الديمقراطية ضرورة، لا سيّما في ظلّ سيطرة الرأسمال على الإعلام والمؤسسات، لأنه وحده هذا الإيمان سيمكّن من الالتفات إلى واقع انحسارها وجنوحها نحو شعبوية تهدد الجميع.
[1]. لتحليل هذا التّحول الشكلي، انظر:
Crépon, S., & Dézé, A. (Eds.). (2015). Les faux-semblants du Front national: Sociologie d'un parti politique. Les Presses de Sciences Po.
[2]. تأخر نسبيًا تحوّل "الجبهة الوطني" إلى موضوع أكاديمي للدراسة إلى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات مع دراسة رائدة لـ Guy Birenbaum قبل أن يزداد إقبال الأكاديميين والصحافيين الميدانيين شيئًا فشيئًا على دراسة سلوك الحزب ومناصريه. لمراجعة آخر الدراسات، انظر الكتاب الجماعي الصادر العام الماضي:
Dahani, S., Delaine, E., Faury, F., & Letourneur, G. (2023). Sociologie politique du Rassemblement national: Enquêtes de terrain. Presses Universitaires du Septentrion.
[3]. في خصوص هذه النقطة، انظر الكتاب الصادر مؤخرًا :
Faury, F. (2024). Des électeurs ordinaires: Enquête sur la normalisation de l'extrême droite. SEUIL