صباح أمس، اضطررت لأن أُجريَ مكالمة عَمل، لكنّي فوجئت بأنّ شبكة الخليوي مقطوعة، في سوريا كلها، بسبب امتحانات الشهادة الثانوية.
هذا الحرص كلّه، ويقولون لك "بلاد فساد، وبلاد يأس، ولا أمل منها".
"شعبٌ نقّاق" وناكرٌ للجميع. هناك حكومة تشلّ بلداً بحالها، لضمان نزاهة العملية الامتحانية، ولا تجد، على الرغم من ذلك، إلّا السُّباب والشتيمة على السوشال ميديا.
سوشال ميديا متآمرة بكل ما في الكلمة من معنى. اختراعٌ أمبرياليّ يهدف، سرّاً، إلى إحداث شرخٍ بين المواطنِ والحزب (الحزب في سوريا يعني السُلطة ويختصرها بطبيعة الحال) وما تناول الإجراء "التربوي الحزبيّ الحكوميّ الاتصالاتيّ" إلّا دليلٌ على محاولة الغربِ للنيل من الفكر الاستثنائيّ الّذي يُسيّر هذه البلاد على شعارات الصمود والتصدّي، والاتحاد والاشتراكية، والوقوف في وجه، والالتفاف حول...
"ماذا لو اضطرّ أحدهم لطلب الإسعاف خلال فترة الامتحانات؟" سؤالٌ كتبه "سوريّ من الطابور الخامس" على فيسبوك.
هل تظنّ أنّنا في "حارة كل مين إيدو إلو" يا أستاذ؟ نحنُ في بلدِ الكتالوغ إن كنت لا تدري.
هنا، كلّ شيء يحدث وفق ضوابط محدّدة. و"المواطن الصالح" لا يختبر حكومته، بل يضبط مواعيد الجلطة على جرسِ نهاية الامتحان، وكلّ حديثٍ خارج هذا النّص يصبّ في خانة "وهن نفسية الأمّة" و"إضعاف الشعور القوميّ" و"النيل من الثوابت" و"الانتقاص من هيبة الدولة"، وغيرها من الخطايا الّتي خاف منها أجدادنا وخوّفوا فيها آباءنا فخوّفونا بها بدورهم فنتجنا نحنُ، الجيل الجبان، أعظم إنجازات الدولة.
و"شو يعني انقطعت الاتصالات؟". تُضخّمون الأمر وكأنّ النّيل قد فاض، أو بردى قد جرى تنظيفه لا سمح الله!
سبق وأن قطعنا عنكم المازوت، ثمّ أعدناه وضاعفنا ثمنه، ولم تقولوا "آخ"، وسبق وأن قطنا عنكم البنزين، ثمّ وفّرناه، بأربعة أضعاف سعره، ولم تشتكوا، فلماذا ترفعون الصوت حين نقطع الاتصالات؟
من المُحزن أن نرى الوعي يتدنى لدى المواطن السوريّ. من المؤسفِ أن نُشاهده لا يتنبّه للمؤامرة الصهيو-أميركية التي يحيكها أولئك الذين ينتقدون انقطاع الاتصالات في فترة الامتحان.
موضوع الوعي هذا لا بدّ من معالجته، فهو لا يندرج ضمن مهام "فروعة الأمن" التي ما عادت تستطيع أن تعتقل المزيد من المندسّين، فالخونة ينامون على الواقف، وليست هناك متسعات لعملاء جدد.
حسناً، ربّما تأخذ الدولة مقاليَ هذا ضمن سياق النقد البناء، وتُحدث فرعاً جديداً يتخصّص في ضبط منسوب الوعي لدى شعبنا.
وإلى أولئك الّذين يتساءلون عن معنى المبالغة في الحرص على نزاهة العملية الامتحانية في دولةٍ خرجت جامعاتها من التصنيف العالميّ أصلاً، ألا تخجلون من حرب السنوات الماضية؟
صحيحٌ أنّنا كنّا في ذيل التصنيف العالميّ، حتّى قبل الحرب، لكنّنا كنّا ننتصر على مؤامرات أخرى أخّرت توهّجنا العلميّ، لكنّ ذاكرتكم الوطنية سمكيّة ولا تؤرشف المصاعب ولا تُذكّر بالانتصارات.
ولنزيدنّكم علماً، حين تنتهي "الهجمة الشرسة" على وطننا، ستجيء وراءها هجمات شرسة أخرى، فالعالم الأوّل لا يريد لنا أن نتحضّر، وها نحنُ نقول لكم سلفاً "لا تصدّعوا رؤوسنا بملاحظاتكم، واتركونا نتفضّى لمواجهة الحلف الكونيّ الّذي يتربّص بنا".
بالعودة إلى انقطاع الاتصالات...
نصحني والدي أن أستعمل الهاتف الأرضيّ. لمعت عيناي. يا لها من فكرة سديدة!
طلبت الرقم، وجلست باحترام بجوار "الهاتف أبو شريط"، ورحت أتحدّث وتأخذني النوستالجيا.
شريطُ طفولتي مرّ في بالي. تداعت الذكريات فجأة، فالهاتف الأرضيّ ذكّرني بالتلفزيون القديم، والمذياع الّذي نرفعه على ظهر الخزانة ونحرّكه ربع ساعة كي نصير على الأثير.
مكالمة أمس، ذكّرتني بأغنيات أوّل التسعينات، وبالشعور الطويلة والبنطال الباكي الّذي اجتاح البلاد.
ذاك الاتصال أيقظَ فيَّ الحنين إلى زمانٍ مضى حتّى شعرتُ أنّنا كلّما تقدّمنا كلّما تراجعنا.
"كلّما تقدمنا، كلّما تراجعنا"... خفتم عليّ من هذه الجملة؟
لا تخشوا شيئاً، فأنا أخيط كلماتي وأبتسم للشرطيّ على كتفي. ليس في الأمر ما يدعو للقلق، فالقيادة الحكيمة بين ماضينا وحاضرنا واحدة، وإن تبدّلت الوجوه، وحين نقول إنّ الماضيَ أفضلُ من الحاضر، نسبيّاً، فكأنّنا نقول للأشيبِ إنّك كنتَ أجمل في شبابك. هذه مذمّة فيها مديحٌ وتطييب خاطرٍ واتّقاء شرّ.
ولكي أضمن دفع البلاء عن نفسي، فإنّي أؤكّد أنّ الحزب مشعلنا، وأنّ شعاره نبراسنا، وأنّ الجماهيرَ لم ولن يثنيها الحصار، وأنّ قطع الاتصالات عن البلاد، في فترة الامتحانات، إنّ دلّ على شيء، فهو يدلّ على عبقرية حكوميّة وسلطة تفكّر من خارج الصندوق.
هامش: عنوان التدوينة ليس خطأ مطبعياً، فهو صالحٌ لعنونة كل المقالات التي تُكتب في سوريا، حتى وإن كانت تتحدث عن الطبخ...