لا شيء يلحُّ عليه لكي يكتبه. لا فكرةٌ ولا شعورٌ ولا حتى سؤال. فراغٌ مؤلمٌ في ذهنه ولا مبالاة تجاه العالم. يقرأ بعض المقالات بحماس ضعيف. يضبط نفسه وهو يحرّك مؤشر الكمبيوتر نحو الأسفل ليعرف عدد السطور المتبقية للقراءة. يغلقُ الشاشة وينهض نحو النافذة. سكونٌ شَرِس، والنص بدأ يشبه نصاً آخر كتبه قبل فترة. هي الرتابة إذًا! لا جديد في الفكرة أيضاً؛ الرتابة والملل. يعيشُ في بلدٍ من بلدان العالم الأول. يعيشُ تماماً بالطريقة نفسها التي كان سيعيش بها لو أنه لم يغادر بلده. يأخذُ استراحةً من اللاشيء، ويصنع لنفسه سندويشة زعتر لكي يبدّد الوقت ويتناول الدواء. حتى الآن، لم يجد ما يفعله هنا سوى إحصاء الأيام، والانتظار، والشوق إلى زوجته.
قيل له إن في هذه البلاد خيارات كثيرة لمتابعة الدراسة أو العمل، لا يعرفُ كيف يكتشفها أو يصل إليها. يكره البحث على الإنترنت ويتوه بين الروابط والمواقع. ويفشل، بعد ساعات من النبّش، في الخروج بأي معلومة مفيدة. يغضبُ، ويخنقه شعورٌ مُرهِقٌ باللاجدوى. صبره على هذا النوع من البحث قليل. في الآونة الأخيرة لم يعد صبوراً إلا على قراءة بعض الكتب التي يحبها كروايات رضوى عاشور أو فيليپ روث. سبق وأن ذكر هذَين الاسمَين أيضاً في نصٍّ قديم له، إنه التكرار مرة أخرى! يعودُ إلى قراءة نصوص كتبها منذ فترة، فيكرهها ويجدها ركيكةً ومفتعلة. حتى روايته الأولى التي صدرت قبل أشهر لم يجرؤ حتى الآن على قراءتها مطبوعةً كي لا يكرهها. كثيراً ما يخطر له؛ ماذا يحبّ بعض الناس في كتابته الباهتة والعاديّة والمشبوهة؟ وكثيراً ما يعنّفُ نفسه: "أكره كتابتي، أكره أفكاري، و(أكره ضعفي وصبري عليك)... ههههههه" حسناً، يحبُّ أم كلثوم ويحبُّ هذه الأغنية "اسأل روحك". تذكّره بأمه وبأمسياتهم العائلية في بيت جده عندما كانوا يغنّون وكان أبوه.... يا إلهي! عاد النصّ ليشبه نصّاً آخر كان قد كتبه كقصة قصيرة!
طيّب، سيهربُ إلى تعداد ما يحبّ، بدلاً من مزاج اليأس والشكوى المحقون في صوته وكلماته. سيبدأ بأول ما يخطر له:
يحبُّ الجملَ المنفية. ترنُّ في أذنه ويلتقطها قلبُه أينما وجدتْ: "لي حكمةُ المحكوم بالإعدام، لا أشياء أملكها لتملكني"
[1]. ويحبُّ أكثرَ النصوصَ التي تبدأ بالنفي. يحصي في رأسه مطالعَ نصوصٍ كتبها: "لا شجرةَ في قلبي لأزيّنها هذا العام..."، "لا شيء يفي بالغرض..."، "لم يعد هناك غاباتٌ في قلبي..." حتى هذا النص: "لا شيء يلحّ عليه لكي يكتبه...." أوووف... التكرار! أين سيهرب من التكرار؟ أين؟
قد يكون السبب هو رغبته في تفادي التكرار ومحاولته تجنيب هذا النص ما سبق وأن كتب عنه في نصوص أخرى
ما يكبّله هنا أمران؛ الوحدةُ وضعف اللغة. إحداهما تؤدي إلى الأخرى ولا يعرف ما المشكلة الأولى أو الأساسية في حالته. قد يبدو للبعض متذمراً أو ضعيف الثقة بالنفس؛ لقد وصل إلى هنا بمخزون مقبول من اللغة ولم يحتج، وفقاً للفحوصات التي تجريها جهة حكومية مسؤولة، سوى دورة واحدة لمدة شهرَين أتمّها بسهولة وصار بعدها، بحسب زعم تلك الجهة، مؤهلاً للاندماج في المجتمع وسوق العمل. لكن مشكلته، بحسب تحليله، أعمق من المعرفة المحدودة المُؤطَّرَة وأكبر من حاجته لبعض المفردات. مشكلته في كونه مهووساً بالدقة والكمال في أغلب شؤون حياته وفي علاقته مع اللغة بشكل خاص؛ Perfectionniste كما قالت له مرة طبيبته التي عَزَتْ شكواه من اضطرابٍ في الرؤية إلى طبيعته المُغالية في الإحكام والصرامة. (التكرار، التكرار... لا يريد العودة إلى الحديث عن هذا الموضوع، سبق وأن كتب نصاً عن ذلك). المشكلة إذاً هي في مطالبته لنفسه التحدث بالفرنسية وكتابتها وقراءتها كما يفعلُ مع العربية، بالقدر نفسه من المهارة والسلاسة مع انتقاء معجمي ودقيق للمفردات التي يودّ استخدامها. هو الذي يُصوّبُ لأصدقائه أخطاءهم الإملائية حتى في نكاتٍ يتبادلونها على "الواتساب"! لا يستطيع التسامحَ مع لغته الفرنسية غير المتقنة. لا يستطيع اعتبارها لغةً للحياة اليومية، لغةً للتعارف، لتسيير عملٍ عاديٍّ بسيط، لغةً لقضاء الحاجة وتحرير السجيّة. لا يستطيع الركون إلى لغة لم يخبزها بلسانه ويعجنها بيديه. ليس أمامه سوى الانكفاءُ إذاً! والضيقُ والهربُ بما أنّ الصبر قد نفد. والإرادةُ، كما يبدو، بقيتْ هناك، خارج الحدود والحقيبة.
لا يريد التطرقَ في الكتابة إلى الحبّ أو إلى علاقته بزوجته. (عدنا إلى النفي) والسبب هو خجله من استعراض أفراح قلبه حتى أمام نفسه على الورق، في عالم مُترَعٍ بالمآسي والانكسارات العاطفية وقصص الخذلان والخيانة والفقدان. وقد يكون السبب أيضاً، بصراحة أكبر، هو رغبته في تفادي التكرار ومحاولته تجنيب هذا النص ما سبق وأن كتب عنه في نصوص أخرى.
سيكتفي بالقول إن الحب هو ملاذه الوحيد من هذه الدنيا المجنونة، وإنه لولاه، ولولا أمله في حصول زوجته على التأشيرة للحاق به في أي لحظة، لفَقَدَ حتى الدافع إلى الاستيقاظ كلَّ صباح. وإذا كان حديث الحبّ والزواج يؤدي بالضرورة إلى حديث الإنجاب، مع أنه لا يجد أي رابط بينهما على الرغم من تأكيدات الآباء والأمهات من الأصدقاء، وضغوط الأهل والأقارب، وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة للحياة لكي تثبتَ على مرّ القرون ألّا مفرّ لنا من سُنَّتها وتداعياتها، إذا كان لا بد من إثارة موضوع الإنجاب قريباً، أي بعد وصول زوجته، فإنه سيتجاهله ويهرب منه بأي حُجّة سبق وأن استخدمها هنا لتبرير مآل حياته، ولتكن اليأس، أو التوجّس من التكرار، أو قلة الإيمان بالذات والعالم.
ولأجل تلك الأعذار جميعها، ولكونها مصرّة على الحضور القوي في أيامه وكتابته، سيتوقف الآن عن كتابة هذا النص، وسينهيه باللجوء إلى تقنية سبق وأن استعان بها لإقفال نصوص أخرى، سينهيه بالعودة إلى البداية، بجملةٍ منفيّة، بجملةٍ متذمّرة وضَجِرة وسلبية، سينهيه بالجملة الافتتاحية ليؤكد على كل ما جاء فيه: لا شيء يلحّ عليه لكي يكتبه. لا فكرة ولا شعور ولا حتى سؤال.
[1] مطلع قصيدة لمحمود درويش من ديوان "لا تعتذر عمّا فعلت".