عن اليمن: هزيمة الوحدة وانتصار المذاهب
"انقرضت" اليوم الدولة المركزية، وانقرضت معها التنظيمات العسكرية التي تقبل بالعودة إلى الوراء، مهما كان "الوراء" هذا رومنسياً ووطنياً وجميلاً.
"انقرضت" اليوم الدولة المركزية، وانقرضت معها التنظيمات العسكرية التي تقبل بالعودة إلى الوراء، مهما كان "الوراء" هذا رومنسياً ووطنياً وجميلاً.
هذا الواقع في اليمن يعني أنه لن يتخلى أحدٌ عن سلاحه، ولن يقبل أحدٌ الغوص في مغامرةٍ وحدويةٍ رومنسيةتمنع هذه الزاوية وحدها من الأزمة الجميع عن الرهان على سلامٍ مستدامٍ، وبالتالي تؤجّل إجبارهم على رمي أجنداتهم على طاولة الحل. فالمصلحة السعودية تقتضي السير باتجاه "تحييدٍ" عملي لليمن، وإخراجه من دائرة القرار الإيراني، وليس النفوذ بالضرورة. هنا يتداخل الإقليمي بالدولي بالمصالح الوطنيّة، فالأميركي لا يريد الصدام مع الإيراني ومنحه بذلك مخرجاً "وطنياً" من مأزق العقوبات عبر حرب "مصيريّة" لإيران وثانويّة للولايات المتحدة وفقاً لواقعها الداخلي وكذلك مصالحها الحالية. فيما تقوم السياسة الإيرانية المضادة للحرب الاقتصادية على التوتير العسكري من دون إحراج القوى الدولية بما يكفي من أسبابٍ لشنّ الحرب عليها من باب مجلس الأمن أو "حلف شمالي الأطلسي". يتطلّب هذا الواقع معالجة جراحية للجبهات التي تنخرط فيها إيران، فبدل منح وكلائها فرصة الضرب في جبهات نازفة لها "سردياتها" المحليّة، أتى الخيار الأميركي في الاستدارة إلى "الوكلاء" عبر تسوياتٍ مرحلية أو ضرباتٍ اقتصادية وأمنيّة، في العراق وسوريا ولبنان وغزة. بهذا أصبحت "هدنة" اليمن بكل نسخها مرتكزاً أساسياً لتعزيز الضغط على إيران عبر تحييد "حلفائها" بالتوازي مع مسار ديبلوماسي خليجي يهادن طهران ويرفع من مستوى الحرج الإيراني في استهداف الملاحة النفطية في الخليج العربي، وهذا ما نجحت فيه مرحلياً الإمارات والكويت. على المنوال ذات إنما في غيابٍ شبه تامٍ للإيرانيين، بات الواقع الجنوبي يتطور من وجهة نظر الرياض الى خواتيم لم تُردها، لكنها الأقدر على التعامل معها وفقاً للتداخل الشديد في المصالح مع الإمارات. هكذا تأتي أولوية إعادة ترتيب المحافظات الجنوبية وفق بنود اتفاق الرياض، إنما بنسخةٍ أكثر قدرةٍ على إنتاج حلّ بيني يعيد الشرعيّة الى عدن في الشكل، ويرسّخ الانفصال في المضمون. وبالتالي، يمكن أن يفضي الزخم المفقود جنوباً (انسحب العديد من الألوية من الجبهات وعادت الى الجنوب للضغط على التحالف) إلى إعادة ترتيبٍ غير محبّذ لدى الرياض. كل ذلك بالتوازي مع فشل السعودية في احتواء "الإخوان المسلمين"، ما يعني اضطراباً كاملاً في صف التحالف على أي طاولةٍ ممكنة. لذا بدت سطوة الواقعيّة في محاولة ترتيب المحافظات الخاضعة للتحالف، في مقابل تهدئة "عمليّة" (مقارنة بوقائع صيف 2019 ) في الشمال، وكأنها تمنح نفساً للتذخير والاستعداد والتفاوض، وكل احتمالات الصراع المفتوح. لذلك، لا تبدو الرياض مستعجلةً للجلوس إلى طاولة التفاوض، فالمطروح اليوم هو خطوط التماس وميناء الحديدة، ولم يعد متاحاً أمام الحوثيين التفاوض على شبرٍ واحدٍ خارج السيطرة العملية لمقاتلي "أنصار الله". ما لم يعد متاحاً أمام الرياض هي الأخرى هو السير بورقةٍ واحدةٍ لأزمةٍ واحدة، إذ حتّم الانهيار التام للدولة المركزية اليمنية السير بأكثر من ورقةٍ وأكثر من مشروع. "انقرضت" اليوم الدولة المركزية إذاً، وانقرضت معها التنظيمات العسكرية التي تقبل بالعودة إلى الوراء، مهما كان "الوراء" هذا رومنسياً ووطنياً وجميلاً، فلزوم الارتباط الحالي بين الوكيل والراعي، يحتّم إنتاج كيانٍ دائم الثورة والتسلح، مع أعداءٍ لا يفنون ولا يموتون، وبتحدياتٍ عصيّة على الحرب والزمن. هذا الواقع في اليمن يعني أنه لن يتخلى أحدٌ عن سلاحه، ولن يقبل أحدٌ الغوص في مغامرةٍ وحدويةٍ رومنسية. أصبح الحوار اليوم حوار الفدراليات العسكريّة "الأبديّة"، في الجنوب كما في الشمال. لذا فإن أرضيّة الحل التي ستسير عليها السعودية ومعها الإمارات، لن تكون مدخلاً للحلول الاستراتيجية، بل "تراقيع" ممكنةٍ لتمرير استحقاقات المرحلة، وتأجيل الحرب دوماً بلا صناعةٍ حقيقيةٍ للسلم الأهليّ والإقليميّ (عملاً بانخراط اليمن في صراع المحاور). هكذا ساهمت الحرب في "تشذيب" الحوثيين الى أقصى درجةٍ ممكنة، والبناء على خريطة سيطرتهم في لحظة التفاوض، وهكذا أيضاً صُنع الأمر الواقع في جنوبي اليمن برعاية التحالف.