في عراق الجمود.. هل تعود "الخلافة" قبل الدولة؟

المواجهة بين إيران وأميركا تقدّم لـ"داعش" ما يكفي من "مناطق رخوة" بعدما كانت التسمية تلك حكرًا على الحدود العراقية مع سوريا وتركيا وأرياف المدن الصحراوية. كما أن فشل الترتيبات الأمنية بين الحكومة الاتحادية وأربيل يضاعف من إمكانيّة استثمار التنظيم للثغرات الأمنية.

مع غزو العراق عام 2003 وانهيار نظام الرئيس العراقي صدام حسين وسجن رموزه أو إعدامهم أو قتلهم في المعارك، وُلد تنظيم "الدولة" من تحت رماد "البعث" و"القاعدة" والتكفير وحالتي الاعتراض واليأس، وأعلن "الخلافة الإسلاميّة" عام 2014، قبل أن تردّ بغداد (وفي ظهرها أكثر من ثمانين دولة) بإعلان القضاء عليه في تموز/يوليو من العام 2017. في هذا السياق يحافظ "داعش" على "رومنسيته" القاتلة في المخيّلة الشعبيّة العراقيّة، ومعها كيانات الدولة وأحزابها وميليشياتها، برغم تراجعه على الأرض، والنقص الذي يعاني منه في العديد والمال والسلاح والقدرة على استثمار النفط وقطع الآثار، قياسًا عما كان عليه حاله قبل سنوات.

برغم ذلك، يمكن القول اليوم، بعد خمسة أعوام على إسقاط "أمّة البغدادي"، إن انتزاع تنظيم "الدولة" من قلب المعادلة العراقيّة يكاد يكون مستحيلًا. إذ إن التقييمات الحاليّة والتقديرات المستقبليّة لا تقدّم عوامل اطمئنان على هذا الصعيد.

وبرغم أن الاختلاف في العراق يتركّز الآن في البرلمان أكثر منه في الميدان، فإن البحث ما زال قائمًا حول سُبل إمساك الحواضن الحضريّة (لجهة الاستطلاع والأمن) بشكل شبه كامل، بغرض منع العودة إلى ما قبل العام 2013. فالانخراط مجددًا في العمل الأمني وحرب العصابات، يعطي فرصة لقيادات التنظيم لـ"ترميم السمعة" وإطلاق مرحلة استقطاب جديدة، خصوصًا أن "المشروع" العراقي المحلي لجهة إعادة إنتاج قيادة عراقية للتنظيم يتفوّق على الخيارات كافة، والتي من بينها الرحيل "للجهاد" في أماكن أخرى كأفغانستان أو ليبيا. 

غير أن الواقع الميداني للتنظيم قد لا يكون بالسوء الذي تقدّمه التقارير التي تقوم خلاصاتها على مخرجات المعركة ضده في المدن. إذ إن تنظيم "الدولة" في العراق يكتفي الآن بتركيز تواجده في الصحراء، علمًا بأن عملياته المتنقلة بين الشمال والوسط هدفها دعائي، ولا تعكس تواجدًا ميدانيًا حقيقيًا.

ويسعى "داعش" إلى تعزيز حضوره في البقاع الصحراويّة تمهيدًا لإنعاش عمله العسكري المعادي للدولة المركزية ومن معها. هذا ما يرنو إليه قادة التنظيم بالحد الأدنى، بمعزل عن احتمالات النجاح ومداه. من هنا تأتي "إصدارات" التنظيم عبر مجموعة فيديوهات ترويجية جديدة تنشرها مواقع صعبة التتبع أمنيًّا كونها خارج الشبكة الدوليّة، لتقدّم هويّة متجدّدة تشبه إلى حد بعيد تلك التي عكست نشاطه خلال الأعوام الممتدة بين 2006 و2011، ما يعني أن التنظيم يسعى على الأغلب إلى إعادة إنتاج تكتيكات الجماعات العراقيّة المسلّحة لجهة الانتشار خارج حدود المدن والقرى، في ذروة المواجهة مع قوات الاحتلال الأميركي والمؤسسات العسكرية والأمنية العراقية الرسمية.

توازيًا مع غياب الدولة، فإن الحضور العسكري للميليشيات واستمراره قد يشكّل عاملًا ذا مردود عكسي هو الآخر

عودة "داعش" إذًا قد تحصل من بوابة إنعاش "المعسكرات الصحراوية" ونقاط المراقبة (لم ينجح التنظيم بذلك حتى الآن)، من صحراء الرمادي حتى الحدود السعوديّة، وهذه مساحة واسعة من المناطق الخارجة عن سلطة الحكومة منذ سنوات. علمًا بأن خريطة الانتشار الجديدة للتنظيم تضم أساسًا جيوبًا وبقاعًا صحراوية عدّة، على رأسها شرق الحدود السورية وشمال راوة، وصولًا إلى عمق الصحراء حتى الحدود السعودية - الأردنية. وهذه مناطق ذات تضاريس جغرافية يصعب على القطاعات العسكرية النظامية العراقية ضبطها.

ويمكن القول إن السلطات المركزية في العراق تسيطر منذ سنوات خمس على المدن الرئيسية ومراكزها في وسط البلاد، كالفلوجة وهيت والرطبة وعانة والرمادي، فيما الصحراء تحت سيطرتها النظرية فقط. فالتنظيم قادر حتى الآن على تنفيذ عمليات شبه أسبوعية (بعدما كانت يوميّة حتى عام 2019) في تلك المناطق المفتوحة على 600 كيلومتر من الحدود مع سوريا، معتمدًا أساليب حرب العصابات. أي أن "داعش" يعتمد على الفوضى المحيطة بالخط الفاصل بين العراق وسوريا، علمًا بأن الجماعات المسلحة الأخرى غير مهتمة حاليًا بمعظمها بتركيز نيرانها على التنظيم بعد دحره من المدن.

لكن يبقى أمام "داعش" استحقاق يتّصل بمدى القدرة على إعادة هيكلة صفوف قيادييه سريعًا، بعد الخسائر "النوعيّة" التي مني بها. فالضربات الجوية والعمليات الخاصة لـ"التحالف الدولي" ومعه القوات العراقية والسورية وميليشيات البلدين، قتلت عناصر تأسيسية فيه كحجي بكر وأبو عمر الشيشاني وأبو بكر البغدادي، فضلًا عن عشرات الذين يحتلون مراكز قيادية مفصليّة فيه. وبرغم أن "داعش" لم يتمكن بعد كل ذلك من إعادة إحياء "دولة الخلافة" كما وعد في إصداراته إثر الهزيمة، فإن ذلك لم يمنع عودته للنشاط الأمني بعد عشرين شهرًا على مقتل خليفته البغدادي ومن بعده أبو ابراهيم القرشي وتولي قرشي آخر المسؤولية.

تدرك قيادة التنظيم المتجددة حاليًا أن لديها نقاط ضعف وقوة لا تَخفى عن أعدائها في الداخل العراقي. لكنّ رهانها بخصوص مستقبل النشاط في العراق قد يكون على المتغيّرات أكثر منه على عناصر القوّة. فالمواجهة بين إيران وأميركا في أربيل وأماكن عراقية أخرى، تقدّم للتنظيم الإرهابي ما يكفي من "مناطق رخوة" بعدما كانت التسمية تلك حكرًا على الحدود العراقية مع سوريا وتركيا وأرياف المدن الصحراوية. يضاعف من إمكانيّة الاستثمار تلك فشلُ الترتيبات الأمنية بين الحكومة الاتحادية وأربيل، والتخبّط في إدارة العمليات المشتركة شمالًا بين بغداد وكردستان، حيث تتواصل اجتماعات التنسيق شكليًا منذ ستّ سنوات، فيما تغيب مُخرجات هذا التنسيق على الأرض، في ظل بقاء مشروع تأسيس اللواء 20 في شمال البلاد مجرّد فكرة لا غير.

يراهن تنظيم "الدولة" على عامل الوقت أيضًا، وهو منحة مجانيّة من القوى العراقيّة، تحديدًا في ملفّي إعادة الإعمار وعودة النازحين. اذ ثمة قرى ومدن ما زالت تحت الركام برغم مرور سنوات على تحريرها، وثمة آلاف النازحين الذين لم تسوّ أوضاعهم من مناطق الوسط حتى الموصل شمالًا. كلّ هذا يشكّل أرضًا خصبة تدرك بغداد مدى خطورتها لجهة تسهيلها سحب البساط من تحت أقدام قيادات إسلاميّة "معتدلة" كرئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وشرعنة خطاب قيادات أخرى أكثر قربًا من نموذج "حجي بكر".

وتوازيًا مع غياب الدولة، فإن الحضور العسكري للميليشيات واستمراره لسنوات قادمة قد يشكّل عاملًا ذا مردود عكسي هو الآخر. إذ إن "الحشد الشعبي" لم يعد يشكّل عامل اطمئنان لدى قطاعات شعبية واسعة في المناطق المحررة، في ظلّ تكرار الخلافات التي تصل إلى حدّ إطلاق النار بين عناصر "الحشد" وأبناء العشائر. فـ"الحشد" هناك، وبمعزل عن تشكيلاته (المتنوّعة طائفيًا)، لا يقدر على أداء دور جهاز لحفظ الأمن. إذ لا يمكن لعناصر شبه نظامية، ذات خلفيّة عقائديّة، أن تمارس عمل الشرطة. ومن يصرّ على هذا الدور إنما يصرّ على دور آخر مرافق له، بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ، قوامه إعادة تعويم المظلومية، وإنتاج بيئة جديدة حاضنة للإرهاب.


عن اليمن: هزيمة الوحدة وانتصار المذاهب

"انقرضت" اليوم الدولة المركزية، وانقرضت معها التنظيمات العسكرية التي تقبل بالعودة إلى الوراء، مهما كان..

عبد الله زغيب
عن الخامنئي "السيّد" و"القائد".. والدولة العربيّة الوطنيّة

تبحث القيادة الإيرانية عن صفقة مع الأميركي تخرج الجميع من عنق الزجاجة، وتعيد إيران ثلاث سنوات إلى الوراء..

عبد الله زغيب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة