تقَعُ الدراما التاريخيّة التي تُنتَجُ عربيَّا في مطبّ رئيسٍ يحيل الرؤية إليها، بالحدّ الأدنى، إلى دائرةِ الشكِّ. والمطبُّ، باختصار، هو التأريخ الذي تستند إليه؛ أي إن السرديّة عاكسةٌ في أغلبها كلاسيكياتِ ما يسمّى بالتدوين العربيّ، وبعضًا مما ورد في مجاميع الحديث.
والشكّ ليس نفيًّا بالمطلق للرواية الإسلامية الكلاسيكيّة التي اكتملت وجرى التواضع عليها، بمنزلقاتها الداخلية والخارجيّة، في العصر العباسي الوسيط، بل إنه التساؤل الذي فرضته الحقبة المعاصرة على كلّ ما يتصل بتصوّرات التاريخ المدوّن المُغرق في القدم، الذي شكّل البنى النفسية الاجتماعيّة التي تطفو عليها مجتمعاتُ "النصّ". ونعني بالحقبة المعاصرة مجمل ما طُبّق من أدوات البحث التاريخي (الإنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، والأركيولوجيا)، ومناهج التأريخ المقارن، على الموروث الكتابي الإسلامي، الذي هو عند العرب، في أقسام كثيرة منه، شديد الحساسية لناحية اتصاله بالشروخ والعصبيات التي أنتجتها موضوعة الإمامة/نظرية الحكم، في خضم قرون طوال.
حكمَ معاوية ابنُ أبي سفيان (15ق.هـ - 60هـ) الشام عقودًا، ما يقربُ من شطرها بوصفه واليًا للخلائف في المدينة، وشطرُها الآخر خليفةً على المسلمين، بعد صلحه مع الحسنِ بن عليّ (3هـ - 49هـ). نتحدث هنا عن سلطان الصوت والصورة؛ التأريخ الدرامي الذي يَبْرُز، كالعادة، بوصفه سلطة معنوية شعورية بالمعنى الديني مرشّحةً أنْ تفعل فعلها في الاجتماع السياسي الدمويّ، إذ من نافل القول أنّ البنى الاجتماعية في العالم الإسلامي، وتحديدًا في المشرق العربي، ليست بعدُ مؤهّلة لتلقّي السرديات المذهبيّة بثقلها، على هذا النحو، فمجردّ التفكير في إجراء مسألة كتلك مؤهلٌ، مرارًا وتكررًا، على نحو بدهي، كي يقع في مجرى نهر الدم الطويل.
يُبرِز اسمُ معاوية حساسيّاتٍ مركّبةً على صعدٍ شتى، وإنتاجُ مسلسل عنه يفتّح، لا شكّ، الجدلَ التأريخي المركزيّ، بوجهتيه؛ السطحيةِ لناحية سياقات التراشق المذهبي التقليديّة بين رؤيتين، والعميقة المحصورة ربما بدوائر أكاديمية دينية ضيّقة، والتي ربما تُزخّم هذا الجدل، من وجهه الإيجابيّ، في ما خص الرؤية العامة إلى هذا التأريخ.
الدراما التاريخية العربية، ببنيتها الحالية، ومن خارج دوائر الفتنة والترويج الإيديولوجي، لا تقول ما يُفترض أن يُثير المتلقي معرفيًّا
بخلاف شخصيتَي الرشيد (149هـ - 193هـ) أو المأمون (170هـ - 218هـ) مثلًا، تقع شخصية معاوية في دائرة المائة الأولى التي عرفنا أحداثها وتفاصيلها من موروثٍ نقلي سيسّمى في ما بعد حقبة التدوين. وهي الحقبة التي بوشر في خضمّها ما يشبه "مشروعًا" مؤسّسًا للسرديات التي حكمت تصورات "الحاكميّة" ما بين شرعي وغير شرعيّ، مقدس وقابل للنقد.
إذن، تختلف طبيعة معرفتنا بمعاوية، بالضرورة، عن شخصيات الحقبة العباسية وما بعدها. فالحقبة الأموية، وتحديدًا فرعَها السفيانيّ، تقع، على رغم فيضٍ من الموروث النقلي "المابعديّ" في شأنها، في منطقة رماديّة، لا يستطيع المشتغلون بالتأريخ، وإن اجتهدوا، أن يضيئوا، على وجه اليقين، مسرح شخوصها؛ مثلًا، في شأنِ دين هذه الشخصية، يُسألُ: من هو معاوية، هذا الخليفة/الملك/سيد قومه على وجه اليقين؟
هل هو الصحابي/كاتبُ الوحي الذي حسُن إسلامه، أم هو النصرانيّ الذي دان بدين كثرة من القوم الذين حكمهم، أم هو "الطليقُ" الذي لم يُسلم إلا لمآرب الانقلاب على دين خصمه العشائريّ الهاشميّ، كما يرى أعداؤه من الشيعة؟ لا نهدف بهذا القولِ البتِّ في أمرِ ما سوف نتلقاه عن معاوية في العمل القادم، على أننا لا نرجح أن يشطّ المنتجون كثيرًا عمّا عهدناه من ترويج نسخة المدوّنة السنّية الرسميّة (عن صحابي الرسول معاوية وكاتب وحيه)، كمثَل الكثرة من الأعمال التي سبقت هذا العمل (جسّد الممثل السوريّ رشيد عساف شخصيّة معاوية من قبل في مسلسل السبطين الحسن والحسين) وطالت حِقَبًا وشخصياتٍ أساسية، وجلُّ هذه الأعمال لم يخرج عن تلك المدوّنة، وتحديدًا في مسألتين أساسيّتين، إحداهما مسألة السقيفة، والأخرى "فتنة خلق القرآن"، في إقصاءٍ واضح للسرديات مغايرة؛ كالشيعية والخارجيّة والاعتزاليّة.
يبقى أن الدراما التاريخية العربية، ببنيتها الحالية، ومن خارج دوائر الفتنة والترويج الإيديولوجي، لا تقول، عادةً، ما يُفترض أن يثير المتلقي معرفيًّا. فما يثير المعرفة، هو، بالحدّ الأدنى، عملٌ توثيقيّ عربيّ يأخذ بالاعتبار، مضافًا إلى السرديات المختلفة باحتمالاتها الموضوعية كافّة، خلاصاتِ مُشكلات التأريخ، وتساؤلاته الفجّة، بدءًا من طرائق تخريج السياقات الاجتماعية السياسية التي شكّلت المدوّنات الرئيسّة، والكيفيات التي جرى في خضمها أيقنة شخوص المائة الأولى أو تشكيلُها رمزيًا أو حتى خلقُها من عدم، وصولًا إلى ما نعرفه، حقيقةً، عن قرن بأكمله (المائة الهجرية الأولى) من أدلةٍ مادية كتابيّة أو أثرية مُحايثةٍ تتصل بشخوص العمل المستهدفِ وسِيَرهم اليومية.