تُشبه مسيرة "عملية الإصلاح" التي جرى تبنيها، ورقياً، على المستوى الحكومي والرسمي في سوريا منذ العام 2000 تجربةً علميةً تجري تحت الظروف نفسها، وباستخدام الآليات والمعايير ذاتها، فتصل حتماً إلى نتائج متشابهة مرةً تلو الأخرى.
وبعيداً عن التحولات الاقتصادية الهائلة التي حصلت في البلاد وساهمت إلى حدٍ كبيرٍ بتمزيق شبكة الأمان الاقتصادي للطبقات الوسطى والعمال والمشاريع الصغيرة المحلية، لم تكن التغييرات السياسيّة والإداريّة جديرةً بالذكر طوال هذه السنوات. وبغض النظر عن بعض الشخصيّات الخبيرة والجادّة والرغبات الصادقة التي دخلت معمعة ذلك التحدي، إلا أن الإصلاح يحتاج إلى ما هو أكثر من النيّات الطيّبة.
في بلدٍ كسوريا عانى فترات التقلّب – كما الاستقرار – غير الصحيّة، يقتضي الإصلاح استبدالاً جذرياً لمنظومات الإدارة والحوكمة والهرميّة التنظيمية والموارد البشرية وصنع القرار. وهو بالطبع ما لم يحصل. بل جرى تفضيل خياراتٍ توفيقيّة وتعديليّة أهدأ، وبالطبع أبطأ، في بلدٍ كانت غازات الاستنقاع تغلي فيه، ولو أنه بدا ساكناً وهانئاً في الظاهر.
وفي الواقع، ليس كل ذلك بجديدٍ تماماً في البيئة السياسية السورية، وهو لا يرتبط فقط بنظام حكمٍ أو حزبٍ أو زمنٍ معين. لقد عافت سوريا التغييرات الهائلة في العديد من حقب تاريخها الحديث. وكانت سياسة "تبديل الطرابيش" قد بدأت فعلياً في زمن الطرابيش ما بعد الاستقلال، حين جرى تداول الحقائب الوزارية ضمن طبقةٍ محدودةٍ من الزعماء الحزبيين والسياسيين، وكانت الانتخابات البرلمانية تعيد إنتاج الطبقة ذاتها تقريباً في كثيرٍ من الأحيان. وعندما دخلت الأحزاب القومية واليسارية على خط التنافس السياسي بموقفٍ رافضٍ لجميع تلك الطبقات السائدة ولأسلوب إدارتها، واستطاعت آخر الأمر الاستيلاء على السلطة والحكم، خاضت عميقاً في المستنقع ذاته.
ما زال "البعث" اليوم، في آخر تحولاته، يسيطر على المجال العام منذ نحو نصف قرن. وبمشاركةٍ "استرضائيّة" من أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية"، يستأثر "البعث" أيضاً بالتمثيل النيابي عبر ما يعرف بقوائم الجبهة الوطنيّة الانتخابية الناجحة سلفاً في أي انتخاباتٍ تشريعيّة أو بلديّة. وحتى عندما يترك "البعث" نسبةً من المقاعد في مجلس الشعب لصالح "المستقلين"، وصلت في انتخابات 2016 الأخيرة إلى واحدٍ من حدودها الأقل مع 63 مقعدٍ فقط من أصل 250، لا يشكّل هؤلاء المستقلون كتلاً موحّدة، ولا معارضةً برلمانية بأيّ حال.
عادةً ما يكوّن أعضاء المجلس المستقلون خليطاً عجيباً من رجال الأعمال ورجال الدين وشيوخ العشائر. كما شهد المجلس في دوراته الأخيرة، ما بعد 2011، دخول بعض أثرياء الحرب الجدد وقادة فصائل حليفة تحارب إلى جانب الجيش السوري. ولا يأتي أحدٌ من هؤلاء إلى تحت قبة المجلس بأيّ أجندةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ تخالف ما يراه "البعث" الذي يوافق على ترشيحاتهم من البداية بمشاركة الأجهزة الأمنية. وبالتأكيد، لا يخلق وجود المستقلين أو ممثلي الأحزاب الجديدة حراكاً سياسياً في المجلس.
تأسّست بعض الأحزاب في سوريا خارج منظومة "البعث" بموجب المرسوم التشريعي رقم 100 الصادر في آب/أغسطس 2011، بعد نحو أربعة أشهر فقط من بدأ الأزمة السورية. انتحلت بعض هذه الأحزاب صفة "الحزب المعارض" أحياناً لمجرد أنها نشأت ما بعد 2011 بموجب قانون الأحزاب الجديد، وبقيت خارج الحكومة والجبهة الوطنية التقدمية، وقد ينتقد بعضها تارةً عمل الوزارات الخدمية.
تبدو الانتخابات حالياً نوعاً من الترف غير المنتج سوى لخلق صورةٍ عن ديموقراطيةٍ وهميةٍ في عزّ أزمةٍ وجودية
واقع الحال أن مفهوم "المعارضة البرلمانية" غير موجودٍ اليوم في مجلس الشعب السوري الذي لا يمارس مهام سياسية فعليّة. تقتصر مهام المجلس على بعض الوظائف الإجرائية والتشريعية. وحتى تلك الأخيرة يتقاسمها المجلس مع رئيس الجمهورية الذي يتولى أيضاً سلطة التشريع وإصدار المراسيم والقرارات. وفهم هذا الواقع مهم جداً، خصوصاً من ناحية إدراك شطط برامج دعاية بعض المرشحين التي تبدأ بتناول سعر ربطة الخبز وتنتهي بوعود تحرير الجولان.
لا يملك المجلس سلطة تغيير سياسة الدولة أو حتى رسمها. هذه تقع ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية الممثلة برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. ولكن هذا لا يعني أيضاً أن مجلس الشعب يمارس حقيقةً ما هو له. للمجلس مثلاً صلاحيّة استجواب الوزراء، وحجب الثقة عن الحكومة أو عن أحد وزرائها. ولكن في الواقع، ما من سوريّ سمع بمجلسٍ حجب الثقة عن حكومةٍ أو حتى عن وزير.
ما بين مجلسٍ يشكّل "البعث" وكتلته الحليفة حوالي ثلاثة أرباعه، وحكومةٍ يعينها رئيس الجمهورية، الأمين العام للحزب، في جزءٍ منها بناءً على ترشيحات قيادة الحزب، تُخلَق عقدةٌ لا يمكن الفكاك منها، وتصبح حتى جلسات الاستجواب البرلمانية، في ظلّها، مجرد مسرحيةٍ إعلاميةٍ لا أكثر.
ولكن يبقى في يد المجلس، إذا ما أراد ممارسة دورٍ إصلاحيٍّ بالفعل، واحدة من أهم الصلاحيّات في عمليةٍ كهذه، وهي دوره التشريعي المتمثل في اقتراح ووضع القوانين. سوى أن هذا الدور يحتاج إلى نوابٍ أكبر من الحسابات الحزبية، وآليات مداراة الفساد وتبييض التاريخ الشخصي، والارتباطات الأمنية، والمنافع الضيقة، نواب لا يأتون إلى المجلس في انتخاباتٍ تُعرف نتيجتها سلفاً حتى قبل حصولها.
لقد جرت منذ العام 2011 دورتا انتخابات عام 2012 و2016، واليوم البلاد مقبلة على دورة انتخاباتٍ ثالثةٍ مطلع الأسبوع المقبل. وبالرغم مما بدا ظاهرياً وكأنه تغييراتٍ جذريةٍ تحصل في الهيكليّة السياسيّة في سوريا، توّجها استبدال الدستور ذاته، حافظ مجلس الشعب على دوره وعلى آليات عمله من دون تبدّل. حينها، كان همّ "البعث" الإبقاء على سيطرته حتى مع إلغاء دوره الدستوري كالحزب "القائد للدولة والمجتمع" عند استبدال "المادة الثامنة" إياها من الدستور.
تتفاقم اليوم المآزق الإداريّة والاقتصاديّة وتتراكم بشكلٍ صارت تهدّد أبسط مكوّنات الحياة اليوميّة للناس ممن يُفترض أن يمثّلهم أعضاء مجلس الشعب. ولكن، تبدو جميع هذه المآزق والأزمات وكأنها مجرد تفصيلٍ عرضيّ في مسيرة نضال الحزب ضد الاستعمار والإمبريالية. وحده الصمود في وجه المؤامرات والتصدّي لها هو ما يراه "البعث" الحلّ الناجع لجميع أزمات سوريا. أما وضع الحلول وابتكار الآليّات وتغيير الكيفيّات، فهذه أساليب الضعفاء ممن يتبنون التغيير بمنتهى السهولة. أما "البعث" الراسخ فإن أقصى ما فعله كان تغيير اسم "قائمة الجبهة الوطنية" لتصبح "قائمة الوحدة الوطنية" ليعزّز بهذا مشاعر التآلف والتعايش في بلدٍ تمزقه الحرب.
وقد بشّر "البعث" السوريين أخيراً بأنه سيلجأ إلى عمليةٍ انتخابيةٍ ضمن قواعده سمّاها "الاستئناس الحزبي" من أجل اختيار مرشحيه لهذه الدورة. وهذا ما يعتبره الحزب تطوراً لافتاً عما اعتاده من انتقاء القيادة، بحسب ما تراه مناسباً، للمرشحين الذين سينجحون تالياً في انتخابات مجلس الشعب.
في ظلّ هذا الواقع، تبدو الانتخابات حالياً نوعاً من الترف غير المنتج سوى لخلق صورةٍ عن ديموقراطيةٍ وهميةٍ في عزّ أزمةٍ وجودية. مع انتفاء حصول أي تغيير جديّ في أي من منظومات العمل السياسي أو الإداري أو التشريعي، ما الذي سيدفع الناس الأحد المقبل للذهاب إلى صناديق الانتخابات سوى الخوف أو العلاقات العائلية والنفعية أو الاعتياد الآليّ؟ قد يشهد المجلس دخول وجوهٍ جديدةٍ في دورته المقبلة، ومنهم من قد يكون أميناً في عمله وصادقاً في خدمة ناخبيه وإصلاح أحوالهم. ولكن الرغبات لم تكف يوماً وحدها لأداء عملٍ يحتاج إلى منظومةٍ إصلاحيةٍ وعمليةٍ وانسيابيةٍ متكاملة.