مواطنٌ بــ100 دولار

يؤدّي المنطق الكامن خلف قرارات اعتباطية، مثل قرار فرض تصريف 100 دولار على الحدود، إلى تعميق الشروخ بين السوريين بتقسيمهم بين "داخلٍ" و"خارجٍ" و"مقيمٍ" يعاني ما يعانيه و"مغتربٍ" يتنعم بالمال والأمان بعيداً عن الوطن. كما أنه يشيّء البشر ويجرّدهم من كل كيانٍ وانتماء.

"لا يجوز إبعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه."

- المادة 38 من دستور الجمهورية العربية السورية


بات في حكم الواقع القاتل في سوريا اليوم حرف النقاشات المصيرية عن مقاصدها المنتجة. غالباً ما يُحرف النقاش قصدًا في ظلّ السيطرة الحكومية والأمنية على الوسائل الإعلامية، وعلى جزءٍ لا يستهان به من الإعلام الإلكتروني والاجتماعي، أو على أشخاصٍ بعينهم يلعبون بكفاءةٍ دور البوق الأمين حين الحاجة. وأحيانًا، قد ينمو الاعوجاج أيضًا بين الناس عن غير قصد بسبب غياب المحاكمة المنطقية الذي جرت منهجته في المؤسسات التعليمية السورية، أو جرّاء الانسحاق الموروث أمام الدولة و"هيبتها".

يقع الانحراف الحالي من نصيب واحدٍ من القرارات العديدة المهينة للسوري والمهينة لدستوره، مصدر سيادة البلاد وقدسية القوانين. يتبادل السوريون منذ شهرين تقريبًا أخبار ما صار يعرف بقرار المئة دولار وهو "قرار رقم 46/م.و لعام 2020" الصادر عن رئيس مجلس الوزراء في الثامن من تموز/يوليو 2020، وفيه يكتشف "المواطنون" السوريون وبمادةٍ قراقوشيةٍ واحدة فقط أنه صار يتوجب عليهم "تصريف مبلغ 100 دولار أميركي... إلى الليرات السورية وفقاً لنشرة أسعار صرف الجمارك والطيران وذلك عند دخولهم أراضي الجمهورية العربية السورية".

بدت إشكالية القرار السطحية، بحسب ما ترسّخه الجدالات العقيمة التي تدور اليوم في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها تكمن في الفرق الكبير في سعر تصريف الدولار مقابل الليرة السورية ما بين نشرات المصرف المركزي وسعره الحقيقي في السوق السوداء، وبالتالي في الأسواق السورية بمختلف ألوانها.

وبسبب هذا الفرق، يؤثّر سعر الصرف الذي يستخدمه أي شخص في سوريا مباشرةً على قدرته الشرائية التي سوف تنخفض إلى النصف تقريباً إذا ما لجأ للأسعار الرسمية التي تسكن أبراج الحكومة العاجية. فمثلًا، يجري تصريف الدولار اليوم في السوق السوداء بحسب المعلومات المتوفرة بسعر يقارب 2,200 ليرة سورية فيما تشير نشرة المصرف المركزي إلى أن سعر تصريف الدولار للحوالات يبلغ 1,250 ليرة سورية.

إلّا أن مشكلة القرار الحقيقية تتجلّى في مكانٍ آخر ويمكن لنا أن نراها مجسّدةً مثلًا على الحدود بين سوريا ولبنان مع كل أولئك السوريين الممنوعين من الدخول بحجة عدم تصريفهم المئة دولار إياها. ينتهك هذا القرار الدستور السوري الذي يحرّم إبعاد المواطنين عن بلادهم بشكل لا لبس فيه.

وما عمّق من هول الفادحة، خروج مدير إدارة الهجرة والجوازات في مقابلةٍ بدا فيها وكأنه يتناول موضوعًا فكاهيًا أو ثانويًا لا حاجة لأحد أن يزعج نفسه بالتفكير فيه. فهو طمأننا إلى أن من يقبع اليوم وراء الحدود ممنوعٌ من دخول بلاده هو مجرّد "عالقٍ" لا غير، بل إنه حتى يمارس حياته بشكل طبيعي ويأكل ويشرب، ولا ينقصه شيء سوى تلك المئة دولار "إتاوة" دخوله إلى وطنه. فالقرار بحسب سيادة اللواء صريح: لا تصريف لا دخول، في اجتهادٍ قانوني لا يسنّه القرار ذو الصياغة الملتبسة ذاته. فلا القرار فرض رسمًا واضحًا؛ إذ لا يمكن سنّ ضريبةٍ إلا بقانونٍ يقرّه مجلس الشعب، ولا هو رَسَمَ عواقب رفض تصريف المبلغ المطلوب.

هل السوري "مواطنٌ" في بلده حيث "الحرية حقٌّ مقدسٌ" بحسب الدستور؟

وحده رئيس مجلس الوزراء قرّر، وفقًا لأحكام قانون النقد الأساسي وبناءً على اقتراحٍ من وزير المالية فقط، إجبار الناس على فعلٍ معينٍ لا ينظّمه أي قانون. أما السلطات المسؤولة عن الحدود فقد قرّرت تنفيذ القرار على علّاته وإغلاق الحدود في وجه من لا يلتزم بالقرار.

يوصلنا كل هذا إلى مستوى آخر من النقاش يتجلّى في تساؤلٍ جوهري: هل السوري "مواطنٌ" في بلده حيث "الحرية حقٌّ مقدسٌ، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية، وتحافظ على كرامتهم وأمنهم" بحسب المادة الثالثة والثلاثين من الدستور؟

ساهم أبواق "فيسبوك"، المنبطحين أبدًا أمام أي قرار حكومي، في حرف النقاش باتجاه الناحية المادية البحتة: أيبخل السوري المغترب – صاحب الكنوز والأطيان في الذهنية السورية العوجاء – على بلاده بمئة دولار؟

يؤدّي منطقٌ كهذا إلى تعميق الشروخ بين الناس بتقسيمهم بين "داخلٍ" و"خارجٍ" و"مقيمٍ" يعاني ما يعانيه و"مغتربٍ" يتنعم بالمال والأمان بعيدًا عن الوطن. كما أنه يشيّء البشر ويجرّدهم من كل كيانٍ وانتماء. يقرأ الواحد مننا ما يكتبون فلا يخال المغترب مواطنًا له حقوقه، بل مجرّد كيسٍ من الدنانير المخشخشة لا غير، وعلى الدولة أن تجرّده من أكبر قدرٍ منها فيما يعتبرونه حقٌ للدولة في أمواله، بل وفي حياته أيضًا.

لقد خضعنا في سوريا، بكلّ أسف، لكثيرٍ من الترويض والتطبيع مع ما هو غير طبيعي حتى بتنا نعتقد بأن من حقّ الدولة أن تدخل غرف نومنا وتحصي ما نملك من سراويل داخلية وجوارب في درج الخزانة. بل أصبحنا نؤمن تمامًا أننا لا حقوق لنا ولا قانون يحمينا، وأننا نحن من علينا خدمة الدولة لا العكس.

ولا بدّ من التلويح بعناوين "تضحيات الجيش" و"دم الشهداء" و"غذاء العسكري الفقير" الجاهزة للإقحام في أي نقاشٍ بغض النظر عن موضوعه. ومن يقحم هذه العناوين لا ينتبه في فورة حماسه "الوطني" إلى أنه يبخس هذه المواضيع حقها ويسعّرها بمئة دولار لا غير.

وفي حال تجاوزنا موضوع فرض "إتاوة الاغتراب" على خطأها، فعلينا ألّا ننسى آلاف العمال والطلاب ممن يسافرون بين سوريا ولبنان على نحو يومي أو موسمي، أو أحيانًا لفتراتٍ لا تتجاوز 24 ساعة لقضاء غرضٍ محدد، وهم لا يملكون أصلًا مئة دولارٍ أميركي.

على نقاشٍ في أمورٍ كهذه أن يكون واضحًا، ونقاطه لا يمكن أن تكون خلافيّة، إلّا في بلدٍ كسوريا. القرار أولًا غير دستوري ولا قانوني، وهذا كافٍ لجعله في حكم الباطل. ثانيًا، لا يحقّ لأي شخصٍ أن يقرّر ما على السوري فعله أو كيف يتصرّف بماله الخاص. أما الدولة، ثالثًا، فهي هيكلٌ إداري مهمته خدمة الناس وليس إذلالهم، وهي بالتأكيد ليست إلهًا فوق المحاسبة.

شمسات سوريا المهدورة

نظرة متفحصة لأسطح المباني السكنية وشرفات المنازل في سوريا ستؤكد كم تنازل السوريون عن أملهم..

يامن صابور
خريطة حرب المعادن في أوكرانيا‎

لطالما كانت الحرب فعل اقتصادي ومصلحي كما هي فعل سياسي وأمني، ولأن الطاقة هي محرك الاقتصاد والمصالح..

يامن صابور
المعونات الأميركية، أو كيف تعمل الرأسمالية في قرارين

ستُوفَّر الأسلحة والمعدات المتجهة إلى أوكرانيا من مصانع الشركات الأميركية المتعاقدة مع وزارة الدفاع،..

يامن صابور

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة