سجن "جلبوع"، بيسان 11 نيسان/أبريل 2021.
تضيء هذه المقالة، القادمة من السجن الأصغر واسمه "جلبوع" القابع في قلب السجن الأكبر واسمه فلسطين، على الزمن بوصفه أداة تحكُّم وسيطرة بيد الاحتلال الإسرائيلي. وفيما يقرُّ الجميع باختلاف الأمكنة في اللحظة الواحدة، فإن قلَّة يعتقدون باختلاف الأزمنة في اللحظة الواحدة.
تقرأ هذه المساهمة تَشَكُّلَ الذات الفلسطينية، وبصورة أكبر ربما الهوية الفلسطينية، في تعدد الأمكنة التي يخترقها "شعاع" الزمن أو "إزميله"، لا الذي تنحته "قوة عليا" كما يقترح حسين البرغوثي في "الصوت الآخر: مقدمة إلى ظواهرية التحوُّل"، بل الذي تحاول سلطة الاحتلال احتكاره للسيطرة على الفلسطينيين في أمكنتهم المقطَّعة، وأزمنتهم التي تسعى إلى تقطيعها.
تحاول هذه المقالة التقدُّم خطوة أخرى نحو تأسيس مفهوم "السيطرة بالزمن" الذي طرحتُه في كتابات سابقة، مثل: "صهر الوعي"، و"الزمن الموازي"، و"الاحتلال الشمولي"... وذلك لتبيان ما يحدثه "إزميل الزمن" في نحت الهوية الفردية والجماعية للفلسطينيين من ناحية، وللتأمل في أنماط العقلانية المقاوِمَة التي أظهرتها إرادة الأسرى المحكومة بالأمل من ناحية أخرى ــــ ابتداءً من الإضراب عن الطعام، وانتهاءً بمواجهة سياسات "الأخ الكبير" التي تمارسها إدارة السجون، والواقعية السياسية التي تمارسها النخب الفلسطينية.
* * *
الإحساس بتتالي الزمن، أي الإدراك الدائم بتتالي النهار والليل، له أهمية في إدراكنا لذاتنا، ليس فقط في مستوى التوازن النفسي الإكلينيكي للفرد، وإنما له تأثير حاسم على إدراكنا لذاتنا كجماعة، مَنْ نحن كهوية. إذا كان المكان هو وعاء الهوية الذي في إطاره تتشكل، فإن الزمن هو أداة تبلورها.
الزمن هو إزميل النقش على لوحة المكان المنعكس في الوعي الذاتي والجماعي. ليس الزمن أداة نقش أحادية الجانب، وإنما إزميل مدبب الجانبين، أداة تنقشنا وننقش بها أماكن أخرى. الأماكن تحدد هويتها في مقابل أماكن أخرى. الأماكن مرايا متقابلة، والزمن واحد، يمر بينها كشعاع بنفس المقدار، لكن ليس بالوتيرة نفسها. الفارق بين الأماكن، أو الفارق بين الثقافات والحضارات، هو فارق في استخدام مقدار الزمن نفسه بوتائر مختلفة. فالاختلاف الحضاري، هو اختلاف زماني.
من يمتلك سيارة أو طائرة، أو للأدقّ، من يمتلك صناعة وتطوير أدوات لقطع أكبر ما يمكن من أماكن في أقل ما يمكن من زمن، يُفترض أن يكون الأكثر قدرة، بهذا المنطق، على استخدام إزميله في النقش على صخرة الأماكن الأخرى وتشكيلها. بهذا المعنى، فإن المسافة ــــ المكان ــــ المحيط حاسمة في تشكيل الهوية-الحضارة لدى الأفراد والجماعات على حد سواء، وهو شرط ضروري، لكنه ليس شرطًا كافيًا.
تجربة السجن علمتني بأن الأماكن، وإن تشابهت حتى في أدقّ التفاصيل، وكان مقدار الزمن متساويًا، فإن مروره بوتائر مختلفة هو ما يصنع هويات مختلفة، مصالح وارتباطات وعلاقات داخلية مختلفة، في مقابل أماكن أخرى. إدارة السجون، على اختلاف أنواعها، تلعب على تقطيع الزمن، ووتيرته، لصنع هذا التمايز.
السجان ينقش السجين ويشكِّله على شاكلة مخاوفه، والسجين ينقش سجانه على شاكلة مخاوفه أيضًا
فالأماكن، وإن تشابهت، تُدْرَك في ذات الأسير من خلال عدسة الزمن الذي تم التلاعب بوتيرته. الأماكن لا تُدْرَك كما هي، وإنما الذي يُدْرَك هو تدفق المكان في الزمن، وإلا لكان الإحساس بالأماكن ونقشاتها، وإدراكها، لا يصنع هذا التمايز ــــ الاختلاف ــــ الانتماء الهويي.
إدراك المكان عبر وتيرة الزمن، هو إدراك ذاتي، يتحول إلى إدراك-اكتشاف جماعي يوحد الأسرى في القسم الواحد، أو المواطنين في المعازل، من خلال التفاعل اللفظي الشفوي في الغالب، أو من خلال لغة الجسد.
وبالتالي، فإن الإدراك الجماعي، أو الاجتماعي المكتشَف، ليس ما التقطته حواسنا من المكان مباشرة، أو ما انعكس من المكان عبر تقطيع الزمن، الذي تم التلاعب بوتيرته، وإنما هو كل ذلك منعكسًا في إدراك الأفراد الذين أعادوا إنتاجه في مرآة الذات، ثم في مرآة الذات كأفراد بصفتهم أعضاء في جماعة. ولا ينفكُّ هذا الانعكاس لشعاع الزمن على مرايا الأفراد المتقابلة والمتجاورة بصفتهم جماعة، عن إنتاج الهوية وشحنها بمعانٍ جديدة، ما دام الزمن حيَّا يرزق في حاوية المكان.
بهذا المعنى، فإن تقطيع الزمن الذي يتلاعب به السجان المستعمر، يجعه شريكًا، طرفًا، في بلورة وعينا لذاتنا، وإدراكنا لهويتنا. الهدف من صنع هذا التمايز بين الأقسام-السجون أو المعازل الفلسطينية، هو تحويل الزمن لأداة رقابة وسيطرة، ينطوي على هذه السيطرة برادوكس-تناقض داخلي. فالسجان ينقش السجين ويشكِّله على شاكلة مخاوفه، والسجين ينقش سجانه على شاكلة مخاوفه أيضًا.
السجان يرى أن السجين الذي شكَّله يشبهه، ويخشى أن يحل مكانه في غفلة منه، فيسعى دومًا أن يضع القيود على معصميه، ويكبله بالحديد، أو ربما يكبله في العصر الحديث بالزمن، حتى لا يبرح زمانه ومكانه، ويحل مكان السجان وزمانه.
من جهة أخرى، وفي سعي السجان للسيطرة، يتأمل في مرآة السجين ليرى نفسه البشعة، فيخشى مما صنع، ومما قد تصنعه انعكاسات هذه المرآة في إدراكه لذاته، فيسعى إلى تحطيمها. وما بين التكبيل بالحديد، أو بالزمن، وتحطيم مرآة الأسير، أو بكلمات أخرى، ما بين الحقوق ومصادرة الحياة عبر الإبادة الجسدية، فإن السجان يسعى إلى استخدام أداة السيطرة ــــ التلاعب بوتيرة الزمن لتشييء الأسير، ومصادرة الذات كفاعل سياسي حتى يصل إلى الإبادة السياسية.
نجحت إسرائيل بفرض خمسة سجون ــــ تجمعات فلسطينية على الأقل (الداخل، والقدس، والضفة، وغزة، والشتات). لكل واحدة من هذه السجون، واقع مكاني وزماني مختلف، وواقع قانوني وسياسي مغاير. مرّت عقود على هذا الحال، الذي تعمقت فيه المعيقات المكانية والزمانية ورُسِّمت بنظام سياسي وقانوني، وتحولت هذه المنظومة المنفصلة، التي كان من المفترض أن تكون مؤقتة، إلى شبه دائمة. الأمر الذي من شأنه أن يصنع هويات متقابلة.
والسؤال: كيف يمكن الحيلولة دون تفكك الهوية الفلسطينية التي تنشأ وتنمو الآن وفي هذه اللحظة في سياقات زمانية ومكانية متقابلة؟ ما الحل إلى حين التحرير؟ هذا على فرض أن الهوية ليست معطى ثابتًا، وإنما هناك حاجة لشحنها بالمتخيَّل، كيف يمكن أن نحول دون أن يتحوّل "خلدون" إلى "دوف"، كما حذَّرنا غسان كنفاني في "عائد إلى حيفا"؟
إذا كان الزمن مقسمًا إلى سياقات مختلفة، ووتائر مختلفة، بين الأمكنة الفلسطينية، ما الذي يمكن أن يوحِّد الفلسطينيين للحفاظ على هويتهم؟ كيف يمكن أن نفعل ذلك والاحتلال يملك إزميل الزمن المدبب والأنجع في نقش هوية المكان، فهو لا يسيطر على تقسم الزمن مكانيًا في الواقع فحسب، بل ويسيطر على تقسيم الزمن الافتراضي؟
الإدراك، الوعي الإنساني، هو وعي "جشطلت"/كلّى/"هولستي". الإدراك، بهذا المعنى، لا يخضع فقط لما توعِّنا به حواسنا، وتعكسه على مرآة العقل، وإنما هو إدراك يتجاوز الحواس، وربما إدراك بحواس لا نعرفها، أو لم نصطلح عليها تجريدًا بعد، إدراك لا ينتمي إلى الأصل الفلسفي المعروف، بين المثالية والمادية، هو إدراك بالقلب، أو بالروح.
التفكير بهذه الأعضاء هو إدراك ينتمي إلى ما وصفه حسين البرغوثي: "مدِّ الزيتون في الزيت"، إدراك لا يقف عند حدود القول بأن العقل هو انعكاس للواقع المادي، فيجعل الروح في مقابل العقل، وواقع المثل في مقابل الواعي المادي، والخيال في مقابل الحقيقة.
الحقيقة عندنا، هنا، هي خيال، بمقدار ما الخيال هو حقيقة. الزمان والمكان توأمان، يمتدُّ الزمان في المكان، ويمتدُّ المكان في الزمان، الدقيقة الزمنية في غزة هي ذاتها الدقيقة الزمنية في رام الله.
كثيرًا ما كنت أقف مذهولًا أمام إرادة وقدرة شاب لا يتجاوز عمره عشرين عامًا، ولا يتجاوز وزنه خمسين كيلوغرامًا، في خوض إضراب مفتوح عن الطعام
أعني بوتيرة الزمن، تقسيمه لمقاطع أطول أو أقصر، الدقيقة التي ينكشف بها جزء من المكان ليست هي ذاتها إدراكنا عندما ينكشف كل المكان. أي كلما كان المقطع الزمني مضغوطًا، محشوًا بالمكان، فإن الإحساس به بمدركاتنا يبدو بأنه زمن أطول.
الإحساس باليوم المؤلَّف من 24 ساعة في أقسام الخيام في سجن النقب مثلًا، أطول بكثير من اليوم المؤلَّف من عدد الساعات نفسها في أقسام الغرف في السجن نفسه، المسموح والممنوع في كل قسم. إن شئتم، فإن النظام القانوني والسياسي بكل ما يتعلق بالحركة والباحة الشمسية في هذه الأقسام، وشروط الحياة، يترتب تنظيمه على تقسيم الزمن، ووتيرته المختلفة من قسم لآخر.
قلتُ إن المنطق العقلي الحسابي الذي يلعب عليه الاحتلال، في محاولته للسيطرة على زمن الفلسطيني في المعازل والسجون، ويأخذه كاعتبار في حساباته ضمن معادلة: الزمن سرعة-مسافة، ما دامت الأخيرة صفرًا بصفته مسيطِرًا على المكان، فإن النتيجة ستبقى صفرًا مهما غيَّرنا في قيم باقي مركبَّات المعادلة. هذا المنطق العقلي الذي يقول: إن 1 + 1 = 2 يستبدله الأسرى بمنطق آخر، هو المنطق العقلاني، أو هكذا أرغب بتسميته. والمنطق العقلاني لا يقبل بمنطق العقل العادي ونتيجته المسبقة التي تقول: إن 1 + 1 = 2.
وإلا، ما معنى أن يخوض أسير إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، قد يصاحبه التوقف عن شرب الماء، وهو يطالب بحريته، وأحيانًا يطالب بأقل منها، لتحسين شروط حياته؟ ما معنى خوض مثل هكذا خطوة التي تعني بمنطق 1 + 1 = 2 بأنه ميت لا محالة؟ هل هي الرغبة بالموت، والاستعداد لتقبُّله كنتيجة؟ أم هي حب الحياة، والقناعة بأنها النتيجة؟ هل هي حسابات عقلية؟ وإذا قلنا إنها حسابات عقلانية، ما الذي تشمله هذه الحسابات؟ أي، ما هي أدوات التفكير بها؟
كثيرًا ما كنت أقف مذهولًا أمام إرادة وقدرة شاب لا يتجاوز عمره عشرين عامًا، ولا يتجاوز وزنه خمسين كيلوغرامًا، في خوض إضراب مفتوح عن الطعام، متحملًا، من دون تجربة سابقة، مشاق الجوع وآلامه. وأسأل نفسي: هل هي قلة العقل؟ أم هو عقل آخر يحرِّك هذا الجسد؟ هل هو غير مدرك، عقليًا، لعواقب قراره وبالتالي يتَّخذه غير آبه بالعواقب؟
الحقيقة، أنني وجدت في غالب الحالات التي صادفتها أن هؤلاء الشباب مدركون تمامًا للعواقب، وقرارهم ليس نابعًا من جهل بها. وبالتالي، هم يعرفون تمامًا بأن 1 + 1 = 2، لكنَّهم مصرُّون على ذلك بإرادة تتجاوز حسابات العقل الأداتي إلى حسابات العقلانية (التي تشمل العقل والروح والقلب والجسد) التي تشكِّل أدوات تفكيره. وهذه العقلانية لا تقرُّ بحسابات العقل التي تكرِّس الواقع، ولا تغيِّره، وإنما تأخذ الواقع الموضوعي وترتقي به. ترفض عقلانيَّتهم النزول إلى الواقع، والبقاء هناك، وإنما النزول بهدف الارتقاء إلى مصاف أعلى.
الرسم للكاتب الأسير وليد دقّة
هذه العقلانية تشمل الاعتبارات الأخلاقية والقيمية والإنسانية والوطنية العامة، وقيم الذات الخاصة، التي تحوِّل العقل مع الجسد والقلب إلى أكثر من حاصل جمع ميكانيكي لمواجهة الاحتلال، الذي حوَّل اللاعقلانية إلى عقلانية جديدة، دافعًا نخبنا إلى مربع حسابات العقل، فإن نخبنا السياسية، وإلى حد ما نخبنا الثقافية على اختلافها، وفي أماكن تواجدها كافة، بما فيها نخب الداخل المحتل في العام 1948، استدخلت منطق العقل، واستنتجت منه مفاهيم هدفها تكريس هذا المنطق، مثل: الواقعية والموضوعية.
والدعوة للواقعية والموضوعية لا تبدو واقعية ولا موضوعية عندما ترتبط بمنطق هذه النخب العقلي. لم تقُدنا هذه الموضوعية إلى تغيير الواقع الموضوعي، وإنما إلى تكريسه. هذه هي موضوعية وواقعية العقل المهزوم والفاقد الإرادة. وهذا منطق قال لنا إنه يجب أن نسلِّم بالمسافة، أن نسلِّم بالهوَّة الشاسعة بين رغبات القلب وميوله، أو بين المأمول والمعقول في الواقع. هذه المسافة كسرها خيال الأسرى، المسلح بالإرادة، وردمها إلى الأبد.
مجمل خطابنا السياسي والثقافي يبثُّ لنا، تحت وطأة الواقع الموضوعي، أننا مهزومون لا محالة، وأن علينا أن نسلّم بهزيمتنا ونبني مواقفنا ونؤسس سلوكنا السياسي والثقافي والإعلامي عليها. لكن هناك فرق بين الإقرار بالهزيمة كواقع يجب علينا تغييره، وبين الهزيمة كنقطة تأسيس لخطاب مهزوم، مسلوب الإرادة.
نخبنا ليست فاقدة للحيلة. لا، هي فاقدة للإرادة. فاقدة لأي مخيال. نقطة.
* * *
قُدِّمت هذه المقالة كمداخلة في مؤتمر "الأنظمة السجنية العالمية: العنف والمقاومة وتكنولوجيا الاعتقال" الذي انعقد في جامعة بيرزيت-فلسطين، 28-30 أيار 2021. ينشرها "أوان" بالاتفاق مع الأسير وليد دّقة.