في طريقي إلى معهد اللغة، ألتقي بأطفال ذاهبين إلى مدارسهم. كنتُ قد تلقيتُ تحذيرًا من أصدقائي الذين سبقوني إلى ألمانيا: لا تقتربي من أطفال الألمان وكلابهم!
أمشي وأسترق النظر إليهم وأحاول أن أخفي فرحي برؤيتهم. أعاين ملابسهم وأحذيتهم الجميلة وأقول في سرّي: غدًا، سوف تكبرون وتضيق ملابسكم وأحذيتكم فترسلونها إلى بلادنا ونشتريها لأطفالنا من متاجر الثياب الأوروبية المستعملة. سوف نفرح بها ونتحدث بفخر عن معرفتنا بأحدث الماركات العالمية. غير أنّي أتذكر أن شراء الملابس من البالة غدا حلمًا بالنسبة إلى كثير من السوريين.
ثمة أمر آخر أتوقف عنده: يا لثقة الأطفال بأنفسهم وضحكاتهم الرنانة، هل ستضيق عليهم ويرسلونها إلينا؛ ضحكات مستعملة، وثقة بالنفس لم تستخدم إلا لفترة وجيزة؟
يُمسك الأهل أيدي أطفالهم ولا ينفك الأطفال يطرحون الأسئلة والأهل يجيبون دون ملل. يا للطاقة التي يملكها هؤلاء الأهل!
حدث مرة أن ابتسمت بعد سماعي نقاشًا طويلًا بين أب وطفليه، فابتسم الأب بدوره وقال: كلّ يوم أخوض هذا النقاش الطويل!
شردتُ يومها وفكرت: ما هي النقاشات التي يخوضونها الفلسطينيون مع أطفالهم في طريق النزوح والموت الطويلين؟
ثمة أطفال يركبون الدراجات وآخرون السكوتر، يرتدون الخوذ. لن تلمح طفلًا بلا خوذة. أتذكر حين كنا نقود دراجاتنا في طرقات القرية الوعرة ونسقط. من يفكر بإجراءات الأمان في بلد لا أمان فيه!
قد تصادف رجلًا يمسك بيده طفله وباليد الأخرى يجرّ كلبه. والطفل والكلب يتناغمان. تُرى هل سمعوا بقصة الكلب الذي نهش الطفل المصاب بمتلازمة داون في غزة ولم يبق منه سوى أشلاء؟
تتردد جملة الطفل في رأسي "سيبني يا حبيبي خلص"، كلما رأيت شخصًا يجر كلبًا.
قيل لي: يخاف الأجانب على أطفالهم من التحرش. هكذا أصبحت أشيح بوجهي عن أي طفل في الشارع. غير أنّي صادفت في إحدى المرات طفلًا لا يتجاوز الرابعة يقطع الشارع وحيدًا على دراجته. لا أعرف كيف أتتني الجرأة فسألته: هل أنت بمفردك؟ فأجابني: لا، أبي ينتظرني على الرصيف المقابل. أي ثقة يملكها هذا الأب حتى يترك ابنه الصغير يقطع شارعًا ذا اتجاهين بمفرده؟
ولكنّي استدركت: ممَّ يخاف هذا الألماني؟ لا سيارات تخالف إشارات المرور، ولا قذائف طائشة أو طيارات تقصف الأطفال وتدمر المدن.
ورد في سفر أيوب 3:3 "ليتَهُ هلَكَ اليومُ الذي ولدتُ فيه، والليل الذي قال: قد حُبِل برجلٍ". لم أكن قد تجاوزت الثلاثين حين قررت أنّي لن أنجب طفلًا في سوريا. كنت أقول: إن إنجاب طفل يتطلب شجاعة فائقة، وأنا لست شجاعة بما يكفي. ولطالما رددت: عانيتُ وخضتُ معارك كثيرة حتى أعيش قناعاتي، فلمَ عليَّ أن أعرّض كائنًا آخر لمعاناة مشابهة؟
ليس ثقيلًا، إنه أخي! أتأمل صورة الطفل الفلسطيني يجمع أشلاء أخيه في كيس ويحملها على ظهره..
لو كان البشر يدركون أي معاناة سيلقاها أبناؤهم في الحياة لتوقفوا عن إنجاب الأطفال. لا أعرف كيف يقدم البشر على إنجاب الأطفال في الحرب. كان النقاش بيني وبين أصدقائي يدور غالبًا حول هذا الموضوع في السنوات الأولى للحرب في سوريا، وكيف يمكن أن يمارس البشر الجنس في هذه الظروف بالغة السوء.
لكن الحرب طالت، وعاد الناس يمارسون حياتهم الطبيعية، وكأن الحرب في مكان آخر. أفكر بالمشهد الفلسطيني: كيف يعيشون في الخيام؟ وكيف يستمرون في حياتهم والحرب لم تتوقف منذ 75 عامًا؟
أعترف، برغم ولعي الشديد بالأطفال، أن ثمة جانب آخر لعدم إنجابي الأطفال. كنتُ أخشى تحمّل المسؤولية. وفي فترة متقدمة كنت أخشى أن أسرّب لأولاد إخوتي أو أصدقائي أفكارًا لا تُرضي ذويهم. كما أنّي لم أرغب أن يحدّ أي شخص من حريتي، أو يشاركني حيّزي الخاص!
حيّزي الخاص! تضحكني الفكرة، أنا التي خبرتُ الحرب ورأيت عوائل غنية غدرت الحرب بها، فكان الأب والأم والأولاد والأحفاد يعيشون في غرفة صغيرة ويتناوبون على النوم على الحصيرة الوحيدة الموجودة في أرضية الغرفة.
ألا يبدو ترفًا أن يتحدث المرء في بلادنا عن حيّزه الخاص، هو الذي لم يبقَ أحد من العائلة والجيران إلا وتدخلوا في تربيته وطريقة حياته.
حيّزي الخاص! والناس يحملون خيامهم تحت القصف من شمال غزة إلى جنوبها وبالعكس!
لطالما شجعتُ صديقاتي على إنجاب الأطفال، لتناقض في شخصيتي لا أفهمه. ولم يدر في خلدي أن طفلها سوف يغدو شهيدًا في الحرب.
ثمة نساء فلسطينيات انتظرن سنوات حتى استطعن الإنجاب، وأتت الحرب وقتلت أطفالهنّ الرضع، فيما توفي أطفال داخل الحضانات في قسم الخدج في "مجمع الشفاء" بعد توقف المولد الكهربائي وخروج المشفى عن العمل. وأظهر مقطع فيديو مشاهد صادمة لجثث أطفال متحللة تُركت في "مشفى النصر" في غزة بعد إجبار القوات الإسرائيلية طاقمه والمرضى على إخلائه.
تُرى كيف يمكن أن تحتمل أمٌّ موت ابنها؟ ذلك أصعب مما يمكن أن أتخيله في أسوأ كوابيسي.
لم أعتد حمل حقيبة الظهر، وحين حملتها شعرت بالخجل، مع أن معظم الناس في الغرب يحملونها. شعرتُ كما لو أنني طفلة صغيرة. لا أنكر أنها ثقيلة لأنني أضع فيها اللابتوب والكتب والدفاتر وزجاجة ماء، وأحيانًا، أشياء أتسوقها في طريقي.
ثقيلة!
ليس ثقيلًا، إنه أخي! جملة الطفل الفيتنامي الذي يحمل أخاه الميت على ظهره. أتأمل صورة الطفل الفلسطيني، هو الآخر يجمع أشلاء أخيه في كيس ويحملها على ظهره. يا لثقل العار الذي يجلل هذا العالم!
يمرّ في ذاكرتي الشهيد الأسير وليد دقة وطفلته ميلادالتي وُلدت من نطفة مهربة، وأتذكر كيف أخَّر الاحتلال مجيئها إلى هذا العالم، كأنه يريد وأد فلسطين
أتابع، منذ 7 أكتوبر، على "إنستغرام"، فتى فلسطينيًا يُدعى عبود. عبود هو أصغر مراسل حربي. يروي عبود يوميات الحرب على غزة. كبر في الحرب، ويرغم مأساوية الحرب يضحك أحيانًا. وثمة طفل فلسطيني آخر يُدعى أشرف، هو الآخر، يروي لنا يومياته في الحرب، ويذكر أرقام الذين استشهدوا. كأنه تمرن على الابتسام. غير أنه في آخر فيديو رأيته بدا يائسًا حين قال: لن أطالب بعد اليوم بوقف الحرب على غزة، فقد فقدتُ الأمل! طفل لا يتجاوز الثانية عشرة يفقد الأمل!
قرأت في مواقع شتى أن جميع أطفال غزة يعانون الخوف والقلق والاكتئاب، وأن عدد الأطفال الذين استشهدوا فاق خمسة عشر ألفًا منذ شهر أيار/مايو. ووثّقت الحركة العالمية للدفاع عن حقوق الأطفال 838 حالة تعذيب للأطفال المعتقلين لدى الكيان الصهيوني.
يُحظَّر في لائحة حقوق الأطفال ضرب الطفل أو استخدام العنف، ويحق له العيش في بيئة آمنة ونظيفة. هل لأطفالنا الحقوق نفسها؟ أم أن هذه الحقوق محصورة بأطفال الأوروبيين والأميركيين؟ أليس من العنف رؤية ما عاناه الفلسطينيون والسكوت عنه؟ ثمة أطفال يموتون الآن بسبب انقطاع المياه في شمال غزة. كيف يمكن لطفل أن يشهد ما حدث في غزة ويبقى سويًّا؟ كيف يمكن لهذا الطفل أن ينسى؟
لطالما آمن كثيرٌ من أفراد عائلتي بالتقمص، وكانت الفكرة تضحكني. بيد أنّي، حين بلغت الخمسين وبدأت بتعلم اللغة الألمانية، راقتني الفكرة وأخذت أحلم: فلتكن حياة جديدة توهب لي. ها أنا طفلة في المدرسة الابتدائية وفي كل مرحلة أنهيها أكبر. وحين أنتهي من C1 سوف أدخل الجامعة، وهناك أتعرف إلى شاب وأتزوجه، ومن ثمّ أنجب طفلًا في هذه البلاد السعيدة. البلاد التي تنعم كلابها بأطباء ومعالجين نفسيين، وتخشى اقتراب الناس منهم. فما بالك بحقوق الأطفال هنا!
لكن، مهلًا، لقد كبرت وضاق عليَّ هذا الحلم. كيف فاتتني فكرة تجميد البويضات؟
يمرّ في ذاكرتي الشهيد الأسير وليد دقة وطفلته ميلاد وليد دقة التي وُلدت من نطفة مهربة، شأنها شأن عديد من الأطفال الفلسطينيين، وأتذكر الرسالة التي كتبها وليد باسمها، وكيف أخَّر الاحتلال الإسرائيلي مجيئها إلى هذا العالم، كأنه يريد وأد فلسطين.
لا أعرف أي شجاعة تحملها سناء سلامة، زوجة وليد دقة، حتى تنجب طفلة بهذه الطريقة. لكنّي أجزم أن فلسطين، شأنها شأن ميلاد، تولد كل يوم.
لن يستطيعوا وأدها، سنبلة تجف لتملأ الوادي سنابل.