معاقبة الفلسطينيين بعد الموت

تعود جذور القضية إلى عام 1967، حين دأبت السلطات الإسرائيلية على احتجاز مئات الجثامين العائدة لمن قضوا أثناء مقاومة الاحتلال أو خلال الاعتقال، وقد دُفن بعضُها في مناطق عسكرية مغلقة، واحتُجزت أعداد منها في ثلاجات تابعة لمعسكراتٍ ومستشفياتٍ يديرها الجيش الإسرائيلي.

"نفسي أحضنه، أدفنه بإيديّة، ونروح نقرا الفاتحة على روحه". أمنية الحاجة حورية، والدة الشهيد عمار الجدبة المحتجز جثمانه لدى قوات الاحتلال، عمرُها 17 عامًا ولمّا تتحقق بعد. ومشهد الأم المكلومة هذا ليس استثنائيًا تمامًا، فالقوات الإسرائيلية لا تعاقب الأحياء الفلسطينيين فحسب، بل بعض الأموات منهم أيضًا، وذلك عبر حرمانهم من الدفن وفق طقوسهم الدينية، علمًا بأن سياسة احتجاز الجثامين مخالفة لقواعد القانون الدولي الإنساني ومعايير حقوق الإنسان المتمثلة بالحقوق المدنية، كحقّ الشخص في سلامة جسده وأعضائه، وحقّه في حماية كيانه الأدبي والمعنوي.

أصل الحكاية

يتعرض الأسرى الفلسطينيون في السجون إلى عمليات تعذيب وتنكيل، تبدأ، منذ اللحظة الأولى للاحتجاز، بالاعتداء عليهم داخل سيارات الجيش الإسرائيلي بأعقاب البنادق والهراوات، كمقدّمة للاعتداءات اللفظية والجسدية اللاحقة داخل المعتقلات. أما قصة احتجاز الجثامين الفلسطينيين، فيعيدها المتحدث باسم "هيئة شؤون الأسرى" حسن عبد ربه إلى عام 1967، حين دأبت السلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس وغزة على احتجاز مئات الجثامين العائدة لمن قضوا أثناء مقاومة الاحتلال أو خلال الاعتقال. وقد دُفن بعضُها في مناطق عسكرية مغلقة ممنوعٌ الاقتراب منها أو تصويرها، واحتُجزت أعداد منها في ثلاجات تابعة لمعسكراتٍ ومستشفياتٍ يديرها الجيش الإسرائيلي. وثّقت "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء" وجود 326 جثمانًا فلسطينيًا وعربيًا محتجزًا لدى سلطات الاحتلال. ويوضح منسق الحملة د. نشأت الوحيدي أن بعض الشهداء لم تكتمل بياناتهم، وأن البحث عن جثامينهم ما زال جاريًا. وبحسب إحصائية الحملة، فإنّ من بين الجثامين المحتجزة والموثّقة حتى هذه اللحظة 72 جثمانًا تحتجزهم إسرائيل في ثلاجات الموتى، و254 في "مقابر الأرقام"، علمًا بأن 6 من هذه الجثامين تعود لأسرى فلسطينيين قضوا في السجون.

"مقابر أرقام" وسرقة أعضاء

يلجأ الجيش الإسرائيلي إلى تسجيل أرقام الشهداء على أكياس بلاستيكية توضع فيها الجثامين بواسطة "قلم فلوماستر"، الذي سرعان ما يُمحى حبره بفعل العوامل البيئية في التربة. كما أن اللافتات الحديدية التي تحمل رقم الشهيد، والموضوعة على قبره، لا تُثبَّت بشكل كافٍ، وهي معرّضة بالتالي للتحرّك دومًا بفعل العوامل الجوية. ويشرح الوحيدي آلية دفن الجثامين، مبينًا أنّها تُلقى في حفرة لا يتجاوز عمقها 80 سنتيمترًا، من دون احترام تعاليم الشرائع الدينية، وبما يعرّضها للنهش من الوحوش الضارية، علمًا بأن الاحتلال ادّعى غير مرّة فقدانه عددًا من الجثامين، بينها، على سبيل المثال، جثمان أنيس دولة من مدينة قلقيلية. ويؤكد الوحيدي ما سبق للطبيبة الإسرائيلية مئيرة فايس أن كشفته في كتابها "على جثثهم الميتة"، الصادر عام 2008، حول سرقة أعضاء بعض الجثامين من أجل زرعها في أجساد مرضى إسرائيليين، أو استعمالها في كليات الطب في جامعات إسرائيلية، علمًا بأن دولة الاحتلال كانت قد اعترفت بانتزاع أعضاء شهداء فلسطينيين بعد تقرير حول القضية نشرته صحيفة Aftonbladet السويدية عام 2009، لكنها زعمت بأن الممارسات تلك انتهت في تسعينيات القرن الماضي.

مبادرات من دون نتائج

تتنافى سياسة احتجاز الجثامين بطبيعة الحال مع قواعد القانون الدولي الإنساني ومعايير حقوق الإنسان، إذ تنص المادة 34 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية "جنيف الرابعة" على عدم جواز انتهاك رفاة الموتى، وعلى وجوب تقديم بيانات ومعلومات وافية عنهم بمجرد أن تسمح الظروف بذلك، فضلًا عن حماية مدافنهم وصيانتها باستمرار، وتسهيل وصول أُسر الموتى إلى المدافن.
تنطلق إسرائيل من سياسة قوامها المساومة على كلّ جثمان فلسطيني أو عربي بغرض تحسين قدرتها على المقايضة في أي صفقة تبادل أسرى قادمة
وحول الجهود المبذولة لاسترداد الجثامين، يفيد د. صلاح عبد العاطي، رئيس "الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني"، بأن الهيئة أطلقت حملات عدّة عام 2018 إثر احتجاز جثامين شهداء من "مسيرات العودة". وفضلًا عن التفاعل مع حملة نظمها أهالي الشهداء في الضفة الغربية، والحشد مع جهات عربية ودولية ضد قانون كانت تهدف إسرائيل من خلاله إلى "شرعنة" احتجاز جثامين الشهداء، فإن الهيئة أرسلت مذكرة للاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي للإضاءة على الانتهاكات الإسرائيلية. أما منسّق "الحملة الوطنية لاسترداد الجثامين" نشأت الوحيدي، فيوضح أن قائمة بأسماء الشهداء المحتجزين قُدّمت إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس عبر "مركز القدس للمساعدة القانونية" في عام 2013، من دون أن تحصل الحملة على ردّ حتى اللحظة. وحين وجّهنا سؤالًا إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر لنستفسر عن أسباب التأخر في الرد، لم نحصل على إجابة واضحة حول الأمر، إذ اكتفى المسؤول الاعلامي في اللجنة بالقول: "لا نملك معلومات حتى اللحظة حول هذا الملف، وما يمكن قوله هو أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تُبقي على حوار ثنائي مباشر وغير مُعلن مع السلطات المعنية بالنزاع المسلح في المنطقة، من أجل حلّ القضايا التي تتعلق بهذا الملف".

ابتعدت مجددًا بعد دنوّها

يؤكد د. عبد الناصر فروانة، ممثل السلطة الفلسطينية والمختص بشؤون الأسرى والمحررين، على وجود متابعة دائمة لملف "مقابر الأرقام"، سواء لناحية توثيق الحالات بالتنسيق مع اللجنة الوطنية، أو لجهة إثارة الموضوع مع المؤسسات الحقوقية والإنسانية. ويشير فراونة إلى نجاح الجهود بالإفراج عن عشرات جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال برغم إخفاقها مرات أخرى، مشددًا على ضرورة وضع خطة وطنيّة لإبقاء هذا الملف على طاولة المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية، ومحطّ اهتمام وسائل الإعلام أيضًا. أما المتخصّص في الشؤون الإسرائيلية عدنان أبو عامر، فيرى أن إسرائيل تنطلق من سياسة قوامها المساومة على كلّ جثمان فلسطيني أو عربي بغرض تحسين شروطها التفاوضية وقدرتها على المقايضة في أي صفقة تبادل أسرى قادمة، ويضيف أن الغاية تتمثل أيضًا بإلحاق ضرر نفسي بأهالي الشهداء وبإبقائهم في حالة قلق دائم على مصير جثامين أبنائهم. وحين سألنا أبو عامر عن احتمال دنوّ صفقة تبادل الأسرى، أجاب بأن حراكًا كان يجري في المنطقة عبر وساطة مصرية ودولية من أجل تسهيل العملية، غير أن إسرائيل "ترفض الإفراج عن أسرى فلسطينيين من أصحاب المحكوميات العالية، ويقتصر عرضها على فتح المعابر وتحسين الأوضاع المعيشية في غزة، وهو ما ترفضه المقاومة". ويستبعد أبو عامر أن تُجري الحكومة الإسرائيلية الجديدة صفقة تبادل كبيرة خلال العام الأول من عمرها، علمًا بأن رئيس الحكومة نفتالي بينيت ووزير المالية أفيغدور ليبرمان يعارضان بشدة إطلاق أسرى فلسطينيين كبار.

حكاية الشهيد عمار الجدبة

ولد الشهيد الفلسطيني عمار عبد الغفار الجدبة في 18 كانون الثاني/يناير1984 في حي التفاح بمدينة غزة، وقضى أثناء اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال. كان آنذاك ما يزال طالبًا جامعيًا في كلية الصحافة والإعلام. احتجزت إسرائيل جثمان عمار منذ ذاك التاريخ حتى يومنا هذا، ليمضي 17 عامًا على احتجازه، ولتُضاف قصّته إلى سجل مقابر الأرقام المجهولة المصير. في تمام الساعة التاسعة من صبيحة ذاك اليوم، كانت أم عمار وابنها خضر ينتظران على بوابة معبر رفح المصري للسماح لهما بالمرور لعلاج حفيدها المريض. وبعد وقت مديد من الانتظار أمام البوابة، أُعلما بعدم إعطائهما الاذن اللازم للعبور بسبب وقوع حادث أمني في الأراضي الفلسطينية. كانت الأم في تلك اللحظات قد سمعت عبر أثير الإذاعة عن استشهاد شاب فلسطيني. وفي غضون وقت قصير، أخذت مع الابن والحفيد تهمّ بالرجوع إلى غزة. أثناء العودة، تلقّى شقيق عمار اتصالًا هاتفيًا، أُبلغ خلاله بأن أخاه هو من قُتل خلال الاشتباك. احتضنت أم عمار حفيدها المريض لحظة معرفتها، وبكت ابنها الفقيد بشدّة. لكنها لم تكُن تعلم أن بقيّة البكاء سيبقى عالقًا في الصدر لما يقرب العقدين من الزمن. يقول رمضان الجدبة، شقيق عمار، إن العائلة طالبت بشكل رسمي من خلال "المركز الفلسطيني للمساعدة القانونية" في رام الله برفع قضية ضد إسرائيل في المحاكم الدولية، علمًا بأن جهودًا وحملات سابقة أدت إلى الإفراج عن 14 جثمانًا فلسطينيًا، وكان اسم عمار من بين الأسماء المتداولة، لكن تسليم جثمانه لم يحصل. يؤكد رمضان أن جهود العائلة وسائر عوائل الشهداء ستستمر، حتى تثمر مطالبها وتعود إليها الجثامين. أما أم عمار فتختم لقاءنا معها بالعودة إلى مربّع حديثنا الأول - إلى الحاجة التي لم تضمُر برغم مرور كل تلك السنوات، بل لعلّها زادت إلحاحًا: "محتاجة كحّل عيوني بشوفته، اشتقت له".  
* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا واليمن وفلسطين/غزة والسودان، من تنظيم "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي"