دقّة الملاحظة لدى ضابط أمن شركة "بدر للطيران" محمد مجذوب ميرغني، أدت إلى إحباط تهريب 7.5 كيلوغرام من الذهب على متن الرحلة رقم 320 من مطار الخرطوم في 30 كانون الأول/ديسمبر 2020، بعدما ارتاب من سلوك الراكب الذي كان قد تلقّى سبائك الذهب المُهرَّبة قبل صعوده إلى الطائرة، من شرطي يتبع لجمارك المطار. وأثناء التحقيق مع الراكب العشريني الذي حاول إنكار التهم الموجهة إليه، وصلت إشعارات إلى هاتفه المحمول تفيد باكتمال وصول سبعة ملايين جنيه سوداني إلى حسابه، شكّلت الدليل على تورّطه في العملية.
حظي ميرغني إثر العملية بتكريم خاص من رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك الذي استقبله في مكتبه في 3 كانون الثاني/يناير 2021، ومنحه شهادة تقديرية وحافزًا ماليًا بلغ نحو 300 ألف جنيه سوداني، تُضاف إليها نسبة 10% من جملة الذهب المضبوط بعد انتهاء مرحلة التقاضي. أصبح الرجل بذلك أول مستفيدٍ من قرار حكومي ينصّ على منح نسبة من الذهب المضبوط للموظفين المسؤولين عن عملية الضبط، بهدف تحفيزهم على وقف عمليات التهريب. لكنّ الجهود السودانية المبذولة في هذا الإطار، ما زالت تواجه الكثير من التحديات.
Image Credit: SPMO-SUD2020-Sari Omer/Flicker
خلال النصف الأول من العام الماضي 2021، تضاعفت كمّية الذهب التي ينتجها السودان بحسب رئيس التخطيط والبحوث في الشركة السودانية للموارد المعدنية الصادق الحاج. أما السبب، فيعود بالدرجة الأساس إلى جهود كبح تهريب الذهب السوداني إلى الخارج. حصل هذا توازيًا مع الإعلان عن توقيع ثلاث اتفاقيات حول التنقيب عن الذهب مع شركات عراقية وصينية وجنوب أفريقية وأخرى محلّية في منتصف العام ذاته، وذلك في سياق الانفتاح على الاستثمارات الخاصة بعدما كان المصرف المركزي السوداني يمتلك الحق الحصري بشراء الذهب محليًا وفق أسعار ثابتة وتصديره. وبرغم نفي دبي المتكرّر لـ"وصمة" تهريب الذهب وتدفقاته غير المشروعة إليها من السودان وثماني دول أفريقية على الأقل، فإن الأدلة والقرائن التي تشير إلى هذا الأمر يصعب تفنيدها بحسب تقرير نشرته "بلومبرغ" قبل ثلاثة أسابيع. ومن بين القرائن أن بيانات التجارة الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2020، تُظهر أن واردات الذهب إلى الإمارات، من أفريقيا، تفوق ما تصدّره الدول الأفريقية نفسها وفق سجلات صادراتها بأربعة مليارات دولار، خلال ذاك العام وحده! وبمعزل عن وجهة الذهب المُهرّب، نحاول في هذا التحقيق أن نبحث في المساعي السودانية لوقف تدفق الذهب إلى الخارج عبر منافذ غير شرعية، والمعوقات التي ما زالت تقلّص من نتائج هذه المساعي.إعادة السيطرة
يحتلّ السودان المرتبة الثالثة في صدارة منتجي الذهب على مستوى القارة الأفريقية، والثالثة عشرة على مستوى العالم، حيث يقدر الإنتاج بنحو 100 طن سنويًا. لكن الإحصائيات الرسمية الصادرة عن "بنك السودان المركزي"، ظلّت تشير حتى وقت قريب إلى أن نسبة الذهب الذي يُصدّر تبلغ نحو ربع الإنتاج فقط، بينما يخرج المتبقي تهريبًا عبر منافذ مختلفة. وقد اعترف وزير المالية السابق جبريل ابراهيم بأن الحكومة عاجزة عن منع التهريب بالكامل خلال مقابلة تلفزيونية في حزيران/يونيو 2021، مشيرًا في الوقت نفسه إلى إجراءات قامت بها للحد منه بغرض زيادة حصيلة البلاد من العملات الأجنبية. وتشير إحصائيات رسمية أجرتها سلطات الجمارك، إلى أن جملة المضبوط من الذهب المهرّب عبر مطار الخرطوم بين كانون الثاني/يناير وآب/أغسطس 2021، تصل إلى نحو 103 كيلوغرامات.تطرح الاتهامات المتبادلة بين سلطات المطار وشركة "بدر للطيران" تساؤلات حول دور سلطات أمن الطيران في حماية الطائرات والمنشآت داخل المطارويؤكد مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، مبارك أردول، حجم الخسائر المذكورة، ويتحدث عن عقبات ما زالت تواجه الشركة في ما يتعلق بتوزيع الحوافز على الأجهزة المختلفة عند ضبط عمليات التهريب، وهو ما يؤثّر على أدائها، وذلك برغم قرار الحكومة السودانية المشار إليه أعلاه، القاضي بمنح نسبة من الذهب المضبوط للموظفين المسؤولين عن عملية الضبط.
مسالك التهريب
يعدّ مطار الخرطوم من المطارات الصغيرة نسبيًا مقارنة بمطارات الدول المجاورة، إذ يبلغ عدد الرحلات الدولية اليومية فيه حوالي 30 رحلة مقارنة بنحو 100 رحلة من مطار القاهرة. وبرغم حجمه، يحتوي المطار على عددٍ لا بأس فيه من الثغرات الأمنية الناجمة عن تعدّد مداخله أولًا، وعن كثرة الأشخاص المسموح لهم دخول المدرج أو حتى عبور الحواجز الأمنية من دون تفتيش ثانيًا. تضبط ثلاثة حواجز أمنية رئيسة عملية الدخول إلى صالات المطار، إلا أن تكرار عمليات التهريب يكشف أنّ المهرّبين لديهم قدرة على تخطي الإجراءات كافة، سواء عن طريق تأمين المرور عبر الحواجز الثلاثة، أو من خلال إيصال الذهب إلى الطائرة من خلال مسارات أخرى. وبنظرة سريعة على سجلات الجمارك، نجد أن غالبية عمليات التهريب خلال العامين الماضيين تقوم على تسليم الذهب داخل الطائرة، بعد دسّه أسفل أحد المقاعد بالتنسيق مع المهرّب، بينما تتوزع البقية على تسليم الذهب داخل صالة السلامة، أو من خلال إخفاء المهرّبين له داخل أمتعتهم أو في مناطق حساسة من أجسادهم. ويواجه المطار صعوبات كبيرة في ضبط حركة الدخول والخروج، في ظل وجود نحو 15 ألف تصريح دخول للعاملين فيه، جرى تقليصها خلال الأشهر الماضية إلى 3 آلاف. كذلك لا يخضع أفراد القوات النظامية للتفتيش، علمًا بأن موظفي شرطة الجمارك أعلنوا عن رفض إجراءات تفتيشهم كذلك. في المقابل، تتهم الجمارك شركة "بدر للطيران" الخاصة بالمسؤولية عن جزء كبير من عمليات تهريب الذهب، خصوصًا أن مديرها يحظى بصلاحياتٍ واسعة تسمح له بالوصول للمدرج من دون تفتيش. كما أن معظم عمليات التهريب التي ضبطت كانت على متن رحلات الشركة، علمًا بأن الجمارك تقول إن طائرات الشركة تقوم برحلات محلية لا تغطّي الجدوى الاقتصادية، لتقلع بعدها في رحلات خارجية من دون الخضوع للتفتيش اللازم. لكن مدير الشركة أحمد أبو شعيرة يرفض تحمّل مسؤولية التهريب الحاصل، ويستدل في كلامه بأكثر من حادثة كشفها أفراد الأمن العاملين في الشركة، تثبت تورّط موظفي الجمارك في تخبئة الذهب تحت مقاعد الطائرة بغرض تهريبه. في المقابل، يقول مدير عام سلطة الطيران المدني، ابراهيم عدلان، إن المشكلة الأكبر تتمثل بخصخصة أمن المطارات منذ العام 2015. ولهذا السبب، قدّمت سلطة الطيران المدني توصية إلى وزارة الدفاع، تدعو فيها إلى استعادة إشرافها على الأمن في المطار كي تتمكن من ضبط الأمن في أقسامه المختلفة.مشكلة تهريب الذهب ينبغي أن تكون اقتصادية في المقام الأول، فيما الإجراءات الأمنية مكملة لهاوبحسب مصادر أمنية مطلعة عملت في المطار، ثمة 17 بوابة تؤدي إلى مدرج الطائرات، تم تقليصها مؤخرًا إلى أربع بوابات مزودة بأجهزة كشف، إلا أنها تشهد اكتظاظًا بسبب مرور أعداد كبيرة من السيارات عبرها. كما أن هناك أكثر من أربع شركات مناولة أرضية عاملة في المطار تُشغل ما بين 15,000 و17,000 عامل، يبلغ متوسط الراتب الشهري لكل منهم حوالي 10 آلاف جنيه سوداني، أي ما يعادل حوالي 23 دولار أميركي، فيما يبلغ متوسط راتب الشرطي نحو 17 ألف جنيه سوداني، أي حوالي 38 دولار أميركي. وتضيف المصادر الأمنية ذاتها أن مطار الخرطوم يحتوي أكثر من 300 كاميرا مراقبة موزعة على الصالات وبعض المناطق في المطار، إلا أنها غير موجهة بشكل يسمح لها بالقيام بدورها في الرقابة، فيما بعضها معطل منذ العام 2015. وفي هذا السياق، يقول لنا مصدر أمني إن "شبكة المصالح العابرة للأنظمة حريصة على استمرار هذا التعطيل وهذه الثغرات"، خصوصًا أن عمليات تهريب الذهب تتم عبر "مافيا" منظمة، وأن ما يُكشف من عمليات يعود في كثير من الأحيان إلى خطأ في التنسيق، أو إلى أن تلك "المافيا" ترفع الغطاء عن مجموعات صغيرة تسعى للخروج عن سيطرتها. وسبق أن شُكلت آلية لمكافحة التهريب ووُضعت خطط في مجلس الوزراء لمحاربة التهريب. ولعل أبرز محاور تلك الخطط تتمثل بتقليص البوابات إلى اثنتين فقط بدلًا من أربع، وإخضاع جميع العاملين للتفتيش عبر أجهزة الأشعة السينية، بالإضافة إلى نشر قوات مشتركة عند البوابات وفي ساحات المطار كافة، والوقوف على عمليات نقل الأمتعة ومتابعة الثغرات وإحضار أجهزة أشعة سينية محمولة باليد لتفتيش جميع الداخلين إلى المطار. ولكن بعد مرور نحو سنة، لا تزال معظم تلك الإجراءات مجرد خطط لم تر النور.
Image Credit: Sudan News Agency
إصلاحات اقتصادية
كشفت الحكومة السودانية المستقيلة عن خطة لتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي، تمثلت واحدة من أبرز توصياته بسيطرة الدولة على مصادر الذهب. واحتكر البنك المركزي لسنوات عديدة صادرات الذهب، حيث كان يشتري المعدن محليًا بسعر ثابت من مواقع لتجميعه في مناطق مختلفة، ما أدى لازدهار عمليات المتاجرة غير القانونية. وكان من المأمول أن يؤدي التنظيم الجديد وتحرير صادرات الذهب، بالتوازي مع تدعيم الإجراءات الأمنية في المعابر الحدودية وتحديثها، إلى الحد من التهريب علاوة على زيادة العائدات النقدية للسودان. من جهته، جرّب البنك المركزي العديد من السياسات للسيطرة على أسواق الذهب ووقف عمليات التهريب. فكان تارة يشترط أن يُِباع المنتج له، وتارة أخرى يعلن عن توحيد سعر الشراء وفقًا للأسعار العالمية. بيد أنه لم يفلح في إحكام السيطرة على منافذ التهريب، خصوصًا مع تورط العديد من الجهات النافذة. وفي حديث لنا، يشير المستشار الاقتصادي في مجلس الوزراء المستقيل، محمد الأمين، إلى صعوبة حقيقية في السيطرة على إنتاج الذهب، لافتًا إلى أن أكثر من 80% من الذهب يُنتج عبر التعدين الأهلي في مناطق نائية. ولهذا، فإنه يدعو على الدوام إلى توقيع اتفاقيات استثمار دولية أسوة بالنفط، واتخاذ ترتيبات تدمج المُعدِّنين الأهليين في جمعيات تعاونية، وتحفزهم على بيع إنتاجهم عبر القنوات الرسمية بأسعار مشجعة. ويخلص الأمين إلى أن حل مشكلة تهريب الذهب ينبغي أن تكون اقتصادية في المقام الأول، فيما تكون الإجراءات الأمنية مكملة لتلك الترتيبات، لافتًا إلى أن الحكومة السابقة اتخذت إجراءات عملية لتأسيس بورصة للذهب والمعادن في الخرطوم.بورصة الذهب
منتصف آب/أغسطس الماضي، صدر قرار تشكيل بورصة للذهب والمعادن. تتمثل غاية الحكومة السودانية المستقيلة من خلال تأسيس البورصة بالحد من عمليات التهريب، وتطبيق أسعار البيع والشراء بالأسعار العالمية لتوفير النقد الأجنبي اللازم لاحتياجات الاستيراد الضرورية. ويقول لنا مدير عام "سلطة تنظيم أسواق المال"، شوقي عزمي، إن تهريب الذهب نتاج طبيعي للفوضى التي أُديرت بها عمليات التصدير والتضارب في السياسات وتعدد منافذ بيع الذهب. يرى عزمي أن تدني سعر الشراء من قبل البنك المركزي كان السبب الرئيسي لتهريب الذهب إلى الخارج، وبالتالي فإن المنتج "يتحمل مخاطر التهريب، ومخاطر الاتجار في السوق السوداء، وضياع نسبة مقدّرة من الإنتاج". وهو لهذا يعتقد أن إنشاء بورصة للذهب يجري فيها "تداول الذهب بيعًا وشراءً عبر العملة المحلية وفقًا للأسعار العالمية" سيحدّ من التهريب، كما أنه يقلل من المخاطر والفاقد بالنسبة للمنتجين. ويشير عزمي إلى آلية أخرى توفرها البورصة لكبح التهريب، وذلك من خلال إنشاء نظام مقاصة خاص يمثل الطريقة الوحيدة لتصدير الذهب عبر إصدار شهادة غير قابلة للرهن أو البيع تفيد بعملية شراء الذهب، تنتهي صلاحياتها خلال ثلاثة أيام، ليتم بعدها تصدير الذهب عبر إجراءات رسمية وبالتنسيق مع الجهات ذات الصلة. يضيف: "بعد انتهاء مشكلة التحويلات المصرفية إلى السودان، يمكن شراء الذهب السوداني عبر البورصة بطريقة آمنة".في انتظار الحافز
في 18 آب/أغسطس من العام الماضي، أصدرت محكمة الخرطوم أول حُكم قضائي تناول ملف تهريب الذهب عبر مطار العاصمة السودانية. أقرّ الحكم عقوبة السجن لخمس سنوات مع دفع غرامة قدرها 500 ألف جنيه سوداني على المتهمين الاثنين، المهرب والشرطي، مع السجن سنة أخرى لكل منهما في حال عدم دفع الغرامة. تزامن صدور الحكم قضائي مع قيام هيئة الجمارك بتسليم وزارة المالية أكثر من 103 كيلوغرامات من الذهب المضبوط خلال العام. في هذه الأثناء، لا يزال ميرغني ينتظر الحافز ونسبته من ضبط الذهب التي تصل إلى نحو 4500 دولار أميركي. "لم أتوقع أن يكون هناك حافز لمنع تهريب الذهب بما يوازي أضعاف الراتب الذي أتقاضاه"، يقول ميرغني، مضيفًا: "بالتأكيد سيغير الحافز وضعي الاقتصادي، وسيُصعّب من مهمة المهرّبين". * أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا وفلسطين/غزة واليمن والسودان، من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي (International Media Support)”.