عن طيور النورس وأعراض الكافيتيريا

"للمرة الأولى منذ 33 عامًا سيُقابَل سؤال "وينك" بإجابة مختلفة: أنا في إسطنبول". ماذا يعني الانتقال من سوريا بعد كلّ هذه السنين، وبعدما جالت الكاتبة في البيوت التي فتحت أبوابها وأغلقتها، قبل الرحيل؟

Image Credit: Muhammed Gencebay Gur/Anadolu Agency via Getty Images


أمضيت في مكانٍ واحد وقتًا طويلًا للغاية، وقتًا مستمرًا تخللته انقطاعات قصيرة، كالسفر 15 يومًا إلى مصر عندما كنت تلميذة في المدرسة الإعدادية، والسفر لاحقًا إلى لبنان في إجازات قصيرة لم تتجاوز بضعة أيام. عدا ذلك، كنت دائمًا في سوريا. ولم يكن سؤال "وينك؟" سيقابَل بإجابات غير متوقعة. هذا الثبات، بدا لي قرارًا لوقت طويل بدلًا من أمرٍ قسري مفروض، أو كان حاجة لتمضية أطول وقتٍ ممكن مع مكانٍ أراه بمثابة صديق لي، حتى في أشد مراحله خطرًا وجنونًا. لكنّي لاحقًا بدأت أتسائل، أيُقعل أن هذا الثبات يسمى خوفًا أيضًا؟ خوفٌ من أن تكون هويتي التصقت بالمكان بصورةٍ لا يمكن فصلها؟ وكي أجيب على السؤال، وجدت نفسي أغرق في تأليف كتابي الأول "فيلة صغيرة في بيت كبير" الذي استبقاني سنواتٍ عدة أخرى حتى أنجزته، وفيه فتحت وأغلقت أبواب البيوت التي سكنتها بعدما جُلتُ فيها مرةً بعد. كان انتهاء العمل على الكتاب وانتظارُ نشره آخر تلك القضايا العالقة التي كان عليّ انهاءها في دمشق. إن كنتُ صادقةً في ما كتبت، كان عليّ فتح الاحتمالات للترحال والانفتاح على أماكن جديدة، كي أحفظ ماء وجهي أمام القراء المحتملين. فأنا، وكما أقول عن نفسي عادة، شخصٌ جبان يورّط نفسه بأفعال شجاعة تجبره على اتخاذ خطوات فعلية. للمرة الأولى منذ 33 عامًا سيُقابَل سؤال "وينك" بإجابة مختلفة: أنا في اسطنبول. خلال الأيام الأولى في اسطنبول، شعرت بأنّي أخسر مهاراتٍ أساسية ترتبط بالجسد والحركة ضمن المكان، حتى المغلق منه. كانت الأشياء تسقط مني، وكنت أتعثّر وأفشل باستخدام السكين أو فتح علبةٍ محكمة الإغلاق، كأنّي فقدت إحداثياتي وإحساسي بالمسافات والأبعاد. وعند الخروج من المنزل، أشعر بأن المكان الجديد المتغيّر يهاجم حواسي ويتعبها، كما لو أن آلاف الأيادي تلوح لي لكي أراها. كلّ شيء ينبض ويطلق صفيرًا، ويبدّل ألوانه لكي يجذب انتباهي. غضبت يومًا وفضّلت إغلاق عيوني وأنا أجلس في المقعد الخلفي من سيارة التكسي، كما لو أنّي بذلك أقول: "عيوني أُغلقت اليوم أيها العالم، عُد في يومٍ آخر".

كما لو أن الهروب إلى اللغة الأم حاجة فردية، يكفي أن يفهم المرء على نفسه كي يشعر بالقليل من الراحة

اسطنبول مستعمرة للحمام والغربان والنوارس على حدٍ سواء. يقول صديقي إنه من المرجح جدًا أن يغطّيني في وقت ما ذرق طيور النورس، وهو أمر يكاد يكون من المستحيل تجنبه هنا. أمضيت أيامًا عدة وأنا أسير وعيوني مسمّرة على السماء تحسبًا. لم أكن أعلم أيضًا أن طيور النورس تجتمع في السماء وتضحك ضحكةً شريرة تشبه قهقهة الأشرار في أفلام الكرتون. تلك تفاصيل لا بد أن تكتشفها بنفسك بعدما تمضي في مكانٍ جديد وقتًا كافيًا. تعلّمت حتى الآن عبارة واحدة بالتركية مفادها أنّي لا أتكلم التركية، لكن بائع الخضار والصيدلانية وبائعة الورد يتجاهلون ما قلت ويكملون حديثهم بالتركية التي لا أفهمها. لكنّي لا ألومهم، فأنا، أحيانًا، عندما أتوتر أو أشعر بالارتباك، أبدأ بالتحدّث بالعربية، كما لو أن الهروب إلى اللغة الأم حاجة فردية. يكفي أن يفهم المرء على نفسه كي يشعر بالقليل من الراحة. حتى الآن، أعتقد أنّي، كسائر المسافرين المستجدين من سوريا ذات الأزمة التي تجاوزت عقدًا من الزمان، لم أعتد الوفرة. من يحتاج كلّ هذا الكم من كل شيء؟ أحاول قدر المستطاع لجم رغبتي بالقضم، لكنّي ربما ما زلت أختبر ما يسمى "أعراض الكافيتيريا" (الرغبة بالقضم بدلًا من الأكل استجابة لشعورٍ بالضغط بسبب النقل والإيقاع السريع للحياة). أشتهي جميع أنواع الجبنة، وأرغفة الخبز كلّها، لكن قلّما أشعر بطعم أيّ شيء، فأنا أقف مطوّلًا أمام الواجهات كما لو أن ما أرغب بقضمه حقيقةً هو صور الأشياء بدلًا من طعمها. أنظر إلى كسارات الجوز في محلات الأدوات المنزلية وأتذكر العدّة التي جهزتها جدتي لتكسير حبات اللوز والجوز من أشجار حديقتنا. تألّفت عدّةُ جدتي من مطرقة وطبلية صغيرة وضعت فوقها بلاطة رخامية. كانت تجلس لساعات حتى تنجح بتكسير القشور الصلبة وإخراج الحبوب بعد اتباع تقنية خاصة لتجنّب سحق حبات اللوز والجوز أثناء تكسيرها. كل ذلك هنا يُختصر بأداة صغيرة وتافهة يبدو أنها لا تجذب اهتمام أحد غيري. فأنا تركت أعاجيب اسطنبول الأخرى كلّها، وحرارة أجهزة التدفئة، والمترو، والضوء المستمر، والبوسفور، و"آيا صوفيا" كي أتأمّل فقط كسارة الجوز هذه، وأتساءل لماذا كانت حياتنا صعبة لهذا الحد من أتفه الأشياء حتى أعقدها؟ ولماذا كان علينا سلك الطريق الطويل دائمًا؟ من جهتي، ما زلت أشعر حتى الآن أنّي جاسوسة من نوعٍ ما، فأنا خارج سوريا في مهمةٍ خاصة للتلصص على شكل الحياة في مكانٍ آخر. يسألونني إن كانت اسطنبول جميلة، أجيب بنعم دون تفكير، برغم أن سحرها لم يتسرب إلى داخلي بعد. ما زلت أراها صورةً ثنائية الأبعاد، كطابعٍ بريدي أو بطاقة معايدة. ربما الرحيل كتقبّل الموت، له مراحله، وأنا ما زلت في مرحلة الغضب.

رحلة الحيوانات إلى عالم الـinfluencers والشهرة

صناعة صورة "الحيوان المؤثر" باتت مهنة مربحة لكثيرين. وما يؤكد ذلك وجود رواد أعمال أسّسوا وكالات تضع..

نور أبو فرّاج
خطاب الكراهية ضد السوريين في تركيا: سارقو الأنقاض ومكتنزو الذهب وبيضة القبان!

في الأشهر الماضية، وصلت حملات التحريض التي تستهدف السوريين في تركيا إلى درجات غير مسبوقة، وساهم في..

نور أبو فرّاج
قطاع غزّة حبيس تلفزيون الواقع

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار..

نور أبو فرّاج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة