إرث

يقع بيتنا على مقربة من مطار حميميم الذي يستخدمه الروس كقاعدة عسكرية تنطلق منها الطائرات الحربية. تنطلق الطائرة من المطار، فأسمع هديرها وهي تحلق على ارتفاع منخفض، ثم لا يلبث أن يسقط جزء من ملاط السقف.

كم أشبه بيت أمي، كلما غضب أحدهم كسر نافذة أو خلع بابًا. إذ يغادرون، أتلمس ضلعًا مكسورة وجرحًا في زاوية العين. حين اقتسم أخوتي الإرث قالوا: هذا البيت لكِ، أعيدي إصلاحه كما تشائين! كتبتُ هذا في عام 2002، ولم يدر في خلدي آنذاك أني سوف أرث بيت أمي. قالت الطبيبة: لديك مرض مناعي يُسمى "التهاب فقار لاصق". أسارع إلى سؤالها: وما نهايته؟ تجيب الطبيبة بأسى: نهايته تتخشب المفاصل ويُصاب المرء بالشلل. أخرج من عيادة الطبيبة لاعنة الوراثة كلها، إذ تدور في ذهني سيرة النساء اللواتي سكنَّ المنزل قبلي. جدتي التي كُسِرَت قدمها وانتهت حياتها بالشلل، ثم زوجة جدي التي انتهت حياتها بالشلل أيضًا، وأخيرًا أمي التي أقعدها الألزهايمر في السرير. هل حلّت لعنة بنساء هذا المنزل؟ تنهمر دموعي وأنا أراقب النساء يخطرن أمام بيتنا: لماذا أنا، ما الذي ارتكبته من خطايا لتحلّ اللعنة عليّ أيضًا؟ حاولت ترميم هذا المنزل ولم أفلح. مازال آيلًا للسقوط، شأنه شأن هذه البلاد. هذا البيت مسكون بأشباح الموتى الذين سكنوه. يخرجون في الليل من صورهم المعلقة على الحيطان. يثرثرون ويتشاجرون، وفي الصباح يعودون إلى قبورهم مثخنين بالكآبة. برغم جميع التغييرات التي أجريتها في المنزل، لم أستطع لفظ كلمة "بيتي". هو بيت أمي وبيت جدتي، هو بيت العائلة التي يهبط فيه الأخوة من دون إنذار. ورثتُ، في ما ورثت، سرير أمي الذي كان من قبل سرير جدتي التي تزوج جدي عليها امرأة أخرى. كلما وضعت رأسي على الوسادة أسمع نحيبهما، نحيب أمي البعيدة عن زوجها ونحيب جدتي. هل كانتا مخذولتين من الرجال شأني... هل خدعهما الحب؟
سوف أفرح إن لم أعد قادرة على دفع الإيجار، وسوف تكون حجة لي لأغادر هذه البلاد
لا مكتبة لدي، تتناثر الكتب في غرفة نومي وقد عششت عليها العناكب. العناكب شريكتي في المنزل. ولأنه منزل ريفي تزورني الحشرات تباعًا، فلا يخلو المنزل من النمل والعقارب. أشرد بالعناكب وهي تؤثث بيوتها في زاوية الغرفة وأحسدها. إذ ليس بوسع موظف مثلي براتب ضئيل لا يتجاوز الثلاثين دولارًا في الشهر تشييد غرفة صغيرة في هذه البلاد، أو استئجار واحدة على الأقل. لا أحب هذا المنزل، لم أشهد فيه ما يُفرح منذ طفولتي. أخاف النبوءة، وأتعامل معه كما لو أني مستأجِرة لابد أن يخرجها المالك يومًا ما لعدم قدرتها على سداد الإيجار. ماذا لو رمى أغراضي على قارعة الطريق؟ سوف أفرح بذلك وسوف تكون حجة لي لأغادر هذه البلاد، إذ لم يعد لدي بيت. في الصباح، حين أغلق الباب ورائي ذاهبة إلى العمل، أطير مثل عصفور تحرر من قفصه. ذلك الباب الذي لم يغلق قط منذ أيام جدي، لم يفرغ من الزوار ومن الذين يطلبون المبيت بعدما تقطعت بهم السبل ولم يعد بوسعهم العودة إلى قراهم البعيدة. بعد وفاة أمي بشهر واحد فقط، مرضت مرضًا شديدًا. قال لي أحد العجائز: هذا "قطوع"! سألته: وما معنى "القطوع"؟ أجابني: سوف تقطعين علاقتك بالماضي. الماضي! كيف يمكن ذلك؟ عدتُ إلى المنزل بعد غياب شهرين، وما إن ولجت الباب حتى انهمرت الذكريات تقتاتني. يقع بيتنا على مقربة من مطار حميميم الذي يستخدمه الروس كقاعدة عسكرية تنطلق منها الطائرات الحربية. تنطلق الطائرة من المطار، أرى ضوءها. أعدُّ عشرين ثانية، فأسمع هديرها وهي تحلق على ارتفاع منخفض، ثم لا يلبث أن يسقط جزء من ملاط السقف. في كل تحليقة يسقط جزء من هذا الملاط. أستيقظ في الليل هلعة جراء ذلك، وأفكر؛ ترى ما الذي يحدث لأولئك الذين يتلقون القذائف؟ لا أشعر بالأمان في هذا البيت. حلمت مرة بأنني ممددة في السرير أنظر إلى أعلى فلا أجد سقفًا فوقي. سقف البيت؛ سقف الوطن؛ ها نحن عراة؛ لاجئون في بلاد الله الواسعة، لا سقف يؤوينا؛ يضيق بي المنزل الكبير؛ تضيق البلاد؛ نرتطم بأحلامنا الجسيمة وقد غدت جثة متفحمة على قارعة الطريق.
ماركس يأخذ بيدي

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأزور ألمانيا، لكن مصادفةً قادتني إلى برلين، وأردت أن أزور تمثالي ماركس..

هنادي زرقة
الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر..

هنادي زرقة
رماد في قارورة

أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة..

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة