Image Credit: Ratib Al Safadi/Anadolu Agency/Getty Images
"بالكاد أتمكن من تأمين تكاليف الطعام والشراب، فكيف بتكاليف المدرسة والنقل التي تساوي راتبًا شهريًا... ما زال ابني الصغير في المدرسة، لكنّي لم أسجّل ابنتي الكبيرة... حتى الله يفرجها"
ناريمان - أم لطفلين
يبرز قطاع التعليم في لبنان كواحد من أكبر ضحايا الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعصُف بالبلد منذ نحو عامين ونصف العام. ثمّة فئات واسعة من اللبنانيين واللاجئين باتت غير قادرة على الحصول على التعليم، وأصبحت بالتالي محرومة من أحد الحقوق الأساسية التي ينصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ما الذي نعرفه عن التسرّب المدرسي في لبنان اليوم، في ظلّ عودة الاشتباك السياسي قُبيل الانتخابات النيابية الأولى بعد الانهيار، علمًا بأن التعليم عاملٌ لا غنى عنه في أيّ برنامج سياسي من أجل تحقيق تنمية مستدامة؟
عائلات غير قادرة على تأمين تكلفة التعليم
يُظهر
تقرير لمنظمة "يونيسف" التابعة للأمم المتحدة، أن الوضع الاقتصادي المتردّي أدّى إلى عجز نحو 25% من العائلات اللبنانية عن تأمين كلفة التعليم المدرسي، حيث يجد أهالي هذه النسبة من الطلاب أنفسَهم غيرَ قادرين على تحمّل أعباء الأقساط المدرسيّة، فضلًا عن تكاليف النقل التي ارتفعت فاتورتها ربطًا بالتغيّر الكبير في جدول أسعار المحروقات. ينطبق هذا على العائلات التي تملك سيارات تسمح لها بنقل أولادها إلى مدارسهم من دون أن تكون لها القدرة على تأمين كلفة البنزين، وكذلك على من لا يملك منها وسيلة نقل ويُضطر بالتالي إلى الاستعانة بوسائل النقل المدرسي.
ثلاثون في المئة من الأسر في لبنان خفّضت الإنفاق على التعليم (تقرير "يونيسف" - لبنان: مستقبل الأطفال على المحك، 2021)
كما زادت جائحة "كورونا" وتبعاتها الأمر تعقيدًا، إذ برغم المحاولات الهادفة إلى اعتماد التعليم عن بُعد (أونلاين) وسيلةً بديلةً مؤقتة تسمح بإكمال المناهج الدراسية في ظلّ قيود الحجر والتباعد الاجتماعي، فإن الوضع الكارثي للكهرباء والإنترنت أضاف إلى كلفة الأقساط والوقود قيودًا تتّصل بترهّل البنية التحتيّة الرقمية في لبنان (وبالتالي بطء سرعة الإنترنت)، فضلًا عن ضعف القدرة على التعامل مع الأعطال التقنيّة، وغلاء فواتير المولّدات الكهربائية.
نزوح طلّابي من الخاص إلى الرسمي
مع تراجع قدرة الكثير من العائلات على تأمين كلفة التعليم في المدارس الخاصة، أصبحت المدرسة الرسمية ملاذًا طبيعيًا بديلًا لها. ويشهد القطاع التعليمي في لبنان نزوحًا واضحاً للتلامذة من المدارس الخاصة ذات الأقساط المرتفعة نسبيًا إلى المدارس الرسميّة. لكن ثمّة علامات استفهام كثيرة حول مدى قدرة المدارس الرسمية على استيعاب أعداد المنتسبين الجدد إليها، خصوصًا بعد إعلان وزارة التربية والتعليم العالي العودة إلى التعليم الحضوري، وذلك بسبب ضعف الإمكانيات الماديّة وغياب التجهيزات اللازمة. وقد امتنع الكثير من المدارس الرسمية في الآونة الأخيرة عن تسجيل الطلاب بسبب ضخامة أعداد الوافدين، الأمر الذي زاد من نسبة التسرب المدرسي بدوره.
بلُغة الأرقام، وبعد دراسة النشرات الإحصائية التربوية لـ"المركز التربوي للبحوث والإنماء"، تمكنّا من رصد تراجع في تسجيل الطلبة في المدارس الخاصة من نحو 564 ألفًا عام 2019 إلى حوالي 514 ألفًا عام 2021. في المقابل، ارتفع الإقبال على المدارس الرسمية من 342 ألفًا إلى 384 ألفا.
العمل كـ"حلّ" بديل
برغم قِدَم ظاهرة عمالة الأطفال في لبنان، إلا أنها زادت كثيرًا خلال الأزمة الاقتصادية الراهنة. ويمكن للمرء أن يلحظ وجود أطفال عاملين في الكثير من المتاجر والمحلات، وهو مؤشر إضافي على آثار التسرّب المدرسي، أو، أقلّه، على حاجة قطاعات عريضة من عائلات الطلبة إلى مصادر دخل إضافية، تُعينها على تأمين مستلزمات الحياة، بما في ذلك مصاريف التعليم.
أكثر من 400 ألف طفل في لبنان خارج المدارس (تقرير "يونيسف" - لبنان: مستقبل الأطفال على المحك، 2021)
ويشار هنا إلى أن عمل هؤلاء يخالف القوانين اللبنانية والاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الطفل، وأبرزها اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1991، والتي تنص على حقّ الطفل في الحماية من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يُرجَّح أن يكون خطيرًا، أو يمثل إعاقة لتعليمه، أو يكون ضارًا بصحة الطفل أو بنموّه البدنيّ أو العقليّ أو الروحيّ أو المعنويّ أو الاجتماعيّ.
"أحصل على 10 آلاف ليرة لبنانيّة (أقلّ من نصف دولار أميركي) مقابل العمل لأكثر من 6 ساعات كي أتمكّن من تأمين مصروفي اليوميّ. تسجّلت في المدرسة، ولكن قليلًا ما أذهب إليها. أعمل هنا مع إخوتي. لا أحب المدرسة كثيرًا. أريد أن أتعلّم مهنة الميكانيك"
علي - 10 سنوات
فئة قررت الانقطاع نهائيًا عن التعليم
هناك فئة واسعة من الطلبة قررّت الانقطاع عن التعليم بشكل نهائي، خصوصًا تلك التي تضمّ من هم بين 15 و17 عامًا من العمر، أي السنوات الأخيرة من الدراسة.
وقد وصلت نسبة التسرّب المدرسي لدى هذه الفئة إلى 28% خلال العام الجاري بحسب تقرير "اليونيسيف" الصادر عام 2022، علمًا بأن أكثر من 40% من هؤلاء يعملون بدوام كامل.
وعلى سبيل المقارنة، فقد زادت نسبة من قرّروا الانسحاب من المدارس بشكل نهائي في هذه الفئة، من 23% إلى 28%، وذلك خلال عام واحد فقط!
التسرّب المدرسي لدى اللاجئين السوريين "كارثي"
ما من أفضليّة لأي من الفئات اللبنانية المهمّشة على مثيلاتها من جنسيات أخرى لجهة التقديمات والضمانات المعيشيّة من المؤسسات الرسمية أو الدولية. فالمواطنون اللبنانيون ذوو الدخل المحدود يتشاركون مع اللاجئين المقيمين مجمل الصعوبات الحياتية، ولو بنسب متفاوتة. أما القطاع التعليمي، فهو يحوي عددًا لا يستهان به من الأطفال غير اللبنانيين، يتوزعون على النحو التالي:
تبرز ظاهرة التسرب المدرسي لدى المقيمين في لبنان بمعزل عن جنسيتهم، لكن الأرقام تصبح كارثية عند رصد هذه الظاهرة في صفوف اللاجئين السوريين، بالمقارنة مع غيرهم من اللاجئين، كالفلسطينيين وأصحاب الجنسيات الأخرى. ويظهر لدى وزارة التربية والتعليم العالي تفاوت ضخم بين عدد اللاجئين السوريين في سن الدراسة، وعدد المسجلين في المدارس، كما هو واضح أدناه:
وبرغم وجود برامج ترعاها منظمات وجمعيات غير معتمدة من قبل وزارة التربية والتعليم، إلاّ انّ نسبة اللاجئين السوريين غير القادرين على التسجيل في المدارس الرسمية أو برنامج الدعم التربوي المذكورة، تبقى هائلة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة. إذ رُصد ارتفاع ضخم للأطفال غير الملتحقين بالمدارس، خلال سنة واحدة، للفئة العمرية بين 6 و14 عامًا بلغت أكثر من 45% عام 2021، لتشكّل بذلك أعلى نسبة خلال السنوات الأخيرة!
وبعد استطلاع "يونيسف" أسباب التسرب المدرسي للاجئين السوريين، تبيّن أن التحديات المتصلة بـ"كورونا"، وكلفة النقل، والحاجة إلى العمل، وغياب القدرات المالية، هي الأسباب الأكثر شيوعًا لعدم تسجيل اللاجئين السوريين في المدارس. واللافت في الأمر أنّ التقرير المذكور يبيّن أن 7% من الفتيات في سنّ الدراسة، امتنعن عن استكمال دراستهنّ بسبب الزواج المبكر.
أطفال سوريون في إحدى مدارس مخيم المرج في البقاع (Marcus Valance/Getty Images)
ماذا ينتظر هؤلاء؟
تطالب ممثلة "اليونسيف" في لبنان يوكي موكو السلطات اللبنانية بـ"اتخاذ كلّ خطوة ممكنة لحماية جميع الأطفال في لبنان"، إذ إنّ "مستقبلهم في خطر أكبر مما كان عليه في أي وقت مضى" (راجع
تقرير "يونيسف"؛ "لبنان: مستقبل الأطفال على المحك"). أما جمعية "إنقاذ الطفل"، Save the Children، فأصدرت
بيانًا في 24 كانون الثاني/يناير 2022، يحذر من "الآثار الخطيرة على تنمية رأس المال البشري والنمو الاقتصادي" وكذلك على "النمو الاجتماعي والعاطفي والجسدي للأطفال وسعتهم النفسية" نتيجة أزمة التعليم في لبنان. ويمكن القول اليوم إنّ جيلًا كاملًا في لبنان مهدد بالضياع، وإن مصيره بات في مهبّ الريح، وإن عواقب ما سيولّده ذلك على مستقبل المجتمع اللبناني ستكون وخيمة لا شكّ إن لم يتمّ تداركها.
* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية" UNDEF ومنظمة "صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.