مظفر النواب يترجّل من "الريل"

رحل مظفر النواب (1934 - 2022) اليوم الجمعة عن عمرٍ ناهز 88 عاماً. الشاعر العراقي الكبير والمناضل والثائر الذي عاش فاتورةً كاملةً من المنافي والسجون توفي بعيداً عن وطنه في مستشفى الشارقة التعليمي في الإمارات العربية المتحدة.

بغياب مظفر النوّاب (1934- 2022)، سننتصر لمفردات "للريل وحمد"، وسنسافر في ذلك القطار الليلي المحزون، وتلك النبرة الشجيّة، أكثر من انتصارنا لعبارات مثل "يا بن الشحنة السلبية، بطارية حزبك فارغة، ماذا أعمل؟"، و"ترى أنهار النفط تسيل/ لا تسأل عن سعر البرميل/ والدم أيضاً". لعل معضلة هذا الشعر تكمن بأسباب وزمن كتابته، ومحمولاته الايديولوجية، ففي ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، لم تتكشف رايات الهزيمة، كما هي اليوم، ذلك أن هذا الشاعر الشيوعي المتمرّد على المعاجم، كان يأمل مدينةً أخرى، تخفق في شوارعها الرايات الحمر، وليس سحل الرفاق، ودفنهم في المعتقلات الصحراوية. وإذا بصاحب "رسالة حربية عاشقة" الذي عاش فاتورةً كاملةً من المنافي والسجون، يهدينا الوهم، من دون أن يقصد ذلك، فالحلم الثوري الذي اختبره عن كثب من بغداد إلى ظفار، إلى أرتيريا، ودمشق، انطوى على خيبة أمل كبرى، وكابوس طويل، لم تتمكن قصائد التحريض من تقويضه، بأكثر من زمن إنشاد القصيدة، أو سماعها. لنقل إذاً، أن مظفّر النوّاب كان شاعر سماع في المقام الأول، لذلك بقيت قصيدته الفصحى بمنأى عن النقد، قصيدة مرتهنة للمناسبة والمنبر والمناخ، على رغم غنائيتها المشبعة بصوفية سياسية واضحة، لم تكترث بمنجز أصوات الحداثة في الشعر العراقي، فنحن لن نجد روحاً سيّابية (نسبة إلى بدر شاكر السيّاب) في قاموس هذا الشاعر، جرياً على تجارب مجايليه. لعله كان سيّاب العامية العراقية بامتياز، ففي الوقت الذي عبرت فيه" أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، ضفاف دجلة إلى خارج الحدود مثل أيقونة شعرية، كانت "للريل وحمد" تسافر على القارب نفسه، إلى كل أنحاء العالم العربي. سافرت القصيدة مثل شهبٍ ناري، لتختزل المسافة بين لهجة الأهوار في الجنوب العراقي المقهور، والعاميات العربية الأخرى، وإذا بصوت شعري استثنائي يجترح منطقة لغوية بكر. لغة مشبعة بالتراث الشعبي لبلاد الرافدين، وبنداءات المواكب الكربلائية، والهوسات البدوية، وشجن الأهوار. وهي تنطوي أيضاً على طاقات روحية متأججة، ومنجم غني بالإحالات الوجدانية، وهذا ما جعل سعدي يوسف يقول بأن "للريل وحمد" نموذج خارق ومدهش في تاريخ العامية العراقية.
قصيدة النوّاب هي تاريخ الحزن محمولاً على ناي اللغة في أقصى تشظياتها وعنفوانها العاطفي
على الأرجح، فإن قصيدة النوّاب هي تاريخ الحزن محمولاً على ناي اللغة في أقصى تشظياتها وعنفوانها العاطفي، وقدرتها على التحليق عالياً. لنتذكّر قصيدته المشهورة"البراءة" التي كتبها إثر زجّه في معتقل"نقرة السلمان"(1964)، أو"زرازير البراري" إحدى علامات شعر العشق العراقي.  يقول "جفنك جنح فراشة غض/ وحجارة جفني وما غمض/ يلتمشي بيّه ويه النبض/ روحي على روحك تنسحن/حن بويه حن". لم يخن مظفر النوّاب قصيدته السياسية يوماً، ولكن قصيدته هي من خانته، حين أغلقت الأحزاب الثورية دكاكينها، واندحرت خنادق الثوار، وانطفأت مواقد حماسة اليسار، وأُجهضت المشاريع الراديكالية. فكان على الشاعر أن يصمت، ويكتفي بحركتين بدلاً من أربع، في "وتريات ليلية"، كما كان يخطط. لكن الأنظمة المستبدة التي طالما هجاها بخشونة وبذاءة ورفض، قطعت حبل البئر، في منتصف المسافة إلى الماء، فجفت كلماته في الحنجرة، إيذاناً بزمن خسر فيه أحلامه وقضاياه وتطلعاته. الصمت عبادة، وفقاً لما يقول، نائياً بنفسه عمّا أصاب عراق ما بعد الاحتلال. البلاد التي لم يعد إليها، طائر المنافي الحزين، إلا متأخراً، تحت وطأة المرض والحنين والعوز، و"التكريم" الذي أتى بغير زمانه، ليدخل هذه المرّة نفق العزلة الاختيارية، وآلام الشيخوخة، وأعباء مرض " باركنسون". هكذا بقيت قصائد هذا الشاعر المفرد، في العراء، وفي أصوات المغنّين وشماً لا يُمحى، أو في طبعات مقرصنة، سواء في كتبٍ أم في أشرطة مسجّلة، كما لو أنها تراث جمعي تتوارثه الأجيال. كأن قدر الشعراء العراقيين أن يموتوا غرباء في المنافي، فمنذ صرخة بدر شاكر السيّاب "غريب على الخليج" الذي مات وحيداً في الكويت، رحل أحمد الصافي النجفي برصاصة قنّاص في بيروت، وانطفأ الجواهري، ثم البياتي في دمشق، ورحلت نازك الملائكة في القاهرة، ومات سركون بولص في ألمانيا، وغاب فوزي كريم، ثم سعدي يوسف في ضباب لندن، وها هو مظفّر النواب يغيب في الإمارات العربية المتحدة، فيما يوغل "قطار الليل" في براري الوحشة، وتهبّ رائحة هيل.
الوصفة الأبديّة لصناعة البهجة

قضى خالد خليفة سنواته الأخيرة بين دمشق واللاذقية بما يشبه ترحال الغجري الجوّال، إذ أغرته مناخات المدينة..

خليل صويلح
سوريون يستعيدون خريطة الغناء المغيّبة

تراكمت فاتورة الخسائر الباهظة في تحطيم السلّم الموسيقي في سوريا، واقتحم مغنو الأعراس الشاشات، وباتت..

خليل صويلح
كُلّ هذا الهراء!

في تعريف التفاهة لغويًا "نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة". وإذا بالمعادلة تذهب إلى عكسها اليوم: إذا..

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة