ميلان كونديرا: عن عنصريٍّ مبتذَل وفرائِسِهِ الفَرِحَة

غادر كونديرا الستالينية بعد إنهاء القوات السوفييتية في عام 1968 "ربيع براغ"، تلك الحركة من داخل الشيوعية التشيكية التي حاولت "إعطاء الاشتراكية وجهًا إنسانيًا". والسؤال، إلى أين غادر كونديرا الستالينية؟ هل إلى "وجه إنساني للاشتراكية"؟

من المؤكّد أنّ ميلان كونديرا (1929-2023) كان في شبابه ستالينيًا متحمّسًا أشدّ الحماس. وما أعنيه بالستالينية هنا هو تيار بعينه، سلطويّ جوهريًا، داخل أرخبيل الشيوعية الواسع المتباين الذي يضمّ ماركس ولينين وروزا لوكسمبوغ وغرامشي وماو وفرانز فانون وأميلكار كابرال وغيفارا وعبد الخالق محجوب، على سبيل المثال، كما يضمّ ستالين وبول بوت وأنور خوجة وتشاوشيسكو ورياض الترك وخالد بكداش، على سبيل المثال أيضًا.

كانت ستالينية كونديرا مدفوعة بظروف الحرب العالمية الثانية والغزو الألماني لتشيكوسلوفاكيا (1939)، ثم تحرير الجيوش السوفييتية لذاك البلد (1945). وكانت مدفوعة أيضًا بما رآه، كما كتب في "كتاب الضحك والنسيان"، من أنَّ الشيوعيين حين استولوا على السلطة "لم يريقوا قطرة دم، ولم يلجأوا لعنف"، وكانوا "فعلًا، ومهما قيل، هم الأذكى، وكان لهم برنامج جليل، وخطة لبناء عالم جديد تمامًا... يجد فيه الجميع مكانًا لهم"[1]. لكنّ ستالينية كونديرا هذه كانت من الحماس حدّ أنّها دفعته، قبل أن يغادرها، إلى التغنّي بها شعرًا والعمل واشيًا لدى شرطتها السرّية[2].

يحكي كونديرا في قصيدة "من إيطاليا"، في ديوانه "رجل، روضة فسيحة" (1953) عن عامل إيطالي سجين يحلم في زنزانته بستالين فيستمد قوة وتجددًا:

"طيري إلى هناك لتلتقي ستالين،

يا أحلامي، يا طيوري،

طيري إلى هناك لتلتقي ستالين،

يا طيور النار!

(...)

أرض ستالين

ينبوع قوتنا.

أه، عُبّي، يا طيور، عبّي،

من النبع العميق،

ثم بريشك الناري

أشعلي السماء!

ما إن تفتح الزنازن، سوف يظهر عامل أقوى، وأفتى.

 من عمق عينيه

سوف تلمع أشعة نوافذ الكرملين.

أراه، أراه الآن يمشي في الصف الأمامي

ما إن يقرع الحزب ثانيةً طبول الإضراب"[3].    

ونجد في قصيدته "العرض العظيم"، من الديوان ذاته، كلمة "الخفّة" التي سيستخدمها كونديرا كثيرًا، مع تغيير من يصفهم بها من النقيض إلى النقيض، إنّما بـ"الخفّة" ذاتها:

"انطلق موكب العمال من الضواحي.

علم، علمان وبعض شرائط حمراء...

 تواصل العرض وتواصل

مشت السنون وراءه

وكلّ من وقف في وجهه سقط في الخنادق.

 الطرق التي مشوا عليها

رفعت لتكريمهم أشجار الحور النحيلة

مثل رماح مزخرفة...

دوت الأغنية في كلّ مكان،

وطارت القبّرات

وانطلق كل شيء بخفّة ...

مضوا بخفّة كما لو كانوا يرقصون

ومن غبار مسيرتهم ارتفعت المباني والمدن البيضاء"[4].

ما انتهى إليه كونديرا هو خطاب من النوع الاستشراقي يضع أوروبا الشرقية الشيوعية الأدنى مقابل أوروبا الغربية المتحضرة الأعلى

من المؤكّد أيضًا أنَّ كونديرا غادر الستالينية في فترة من حياته، لا سيما بعد إنهاء القوات السوفييتية في عام 1968 "ربيع براغ"، تلك الحركة من داخل الشيوعية التشيكية التي حاولت "إعطاء الاشتراكية وجهًا إنسانيًا". والسؤال، إلى أين غادر كونديرا الستالينية؟ هل إلى "وجه إنساني للاشتراكية"؟ هل كان بطل المطالبة بالحريات كما يصوّره كثير من قرّائه العرب؟

حسنٌ، ربما يكون كونديرا قد تقلّب ذهنيًا بعض التقلّب في أرخبيل الشيوعية، لا سيما قبل مغادرته تشيكوسلوفاكيا في عام 1975. لكنّه في الفترة التي بلغ فيها شهرة عالمية، وكانت الثقافة التشيكية تقود صراعًا مريرًا ضد النظام الشمولي شارك فيه المثقفون الذين بقوا داخل البلاد وأولئك الذين كانوا منفيين، وعانوا كثيرًا وضحّوا بحريتهم الخاصة ووقتهم وأحيانًا بحياتهم، لم يتضامن أبدًا معهم ولم يشارك في هذا الجهد، بحسب ما يشير الروائي التشيكي المعارض إيفان كليما الذي عمل زبّالًا في بلده ولم يغادرها[5].

ما انتهى إليه كونديرا، في الحقيقة، وبخلاف معارضين تشيك وسواهم انتقدوا الستالينية على تجاهلها الديمقراطية ووحشية شرطتها وانتهاكها حقوق الإنسان، هو ضرب بالغ الابتذال من معاداة الشيوعية، يتوسّل مطابقةً كاذبة ومكرورة بين الستالينية والشيوعية كلّها، محمولًا على نزعة استشراقية أقرب إلى العنصرية. ما انتهى إليه كونديرا هو خطاب من النوع الاستشراقي يضع أوروبا الشرقية الشيوعية والمتخلّفة والأدنى مقابل أوروبا الغربية المتحضرة والديمقراطية والأعلى. وذلك، بالضبط، في سياق حرب باردة جمع فيه الطرف الذي انضم إليه كونديرا بين العنصرية الثقافية والتراتب الهرمي السياسي والجغرافي وربط الديمقراطية بالغرب والاستبداد بالشرق.

ما يعنيه الاستشراق هنا هو ما ساهم فيه كونديرا وأمثاله من خطاب استشراقي في جوهره وبنيته، رمى إلى فهم مجتمعات أوروبا الشرقية عمومًا، و"الآخر" الشيوعي خصوصًا، وتصوير ذلك كلّه ورسم خرائطه وجغرافياته على أنّه أدنى من الغرب. ولهذا النوع الخاص من الاستشراق تاريخ طويل من المحاولات الرامية إلى تصوير أوروبا الغربية على أنها مستنيرة ومتطورة ومتحضرة بخلاف أوروبا الشرقية التي وُصفت وصُنِّفت وثُبتت في قوالب نمطية مستهجنَة من "التخلف" الثقافي والسياسي والاقتصادي.

اليهود الذين قاموا بدور حاسم في بناء "روح أوروبا الوسطى" بحسب كونديرا، لم يذبحهم الشيوعيون، بل النازيون

لم يجر هذا الخطاب في فراغ ثقافي وسياسي، بل كان مشحونًا إيديولوجيًا. سودَّ هذا الخطاب صفحة السياسة والفكر الشيوعيين باعتبارهما طوباويين تمامًا وغير عقلانيين وغير ناضجين. وأعلى من شأن الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية (والنيوليبرالية)، الواقعية والمسؤولة البعيدة عن التطرف والهندسة الاجتماعية. وبذلك كان محاولة لتطبيع الانتقال ما بعد الشيوعي الكارثي إلى مجتمعات اقتصاد السوق، كأنّ ذلك هو الشيء السويّ والمتحضر و"السبيل الوحيد". لكنه لم يقتصر على الانخراط في معارك الحاضر، بل انخرط أيضًا في تقاليد استشراقية تمثّل بيزنطة أو الإمبراطورية العثمانية على أنها أكثر شرقًا من روسيا، وروسيا على أنّها أكثر شرقًا من بولندا أو تشيكوسلوفاكيا، وبولندا أو تشيكوسلوفاكيا على أنّها أكثر شرقًا من فرنسا.

ترسم مقالات كونديرا، كما يرسم أدبه، حدود هذا التراتب الحضاري الهرمي الواضح وأساطيره المؤسِّسة المقترنة بمثاله عن أوروبا. ويرمي من ذلك إلى تحسين صورة تشيكوسلوفاكيا لدى الغرب الذي يحمّله مسؤولية ترك التشيك الأوروبيين للسوفييت الشيوعيين غير الأوروبيين. وهذا يعني أنّ الاستشراق الذي يمارسه داخل أوروبا ينطوي على تعديل طفيف، قياسًا بالنموذج الاستشراقي العام، إذا جاز التعبير، وذلك بتقريظه أوروبا الوسطى باعتبارها "منطقة أمم صغيرة محتارة" بين قطبين، وبوصفها "غربًا سجينًا" و"غربًا مختطفًا"، كما يشير عنوانا كتابين لكونديرا، غرب تُرك يعيش مأساة حقيقية، الأمر الذي يكاد كونديرا لا ينتقد الغرب إلا عليه[6].

بل إنّ كونديرا الذي يحمّل الاتحاد السوفييتي مسؤولية اختطاف تشيكوسلوفاكيا وأوروبا الوسطى وتدمير ثقافتها لا يقول كلمة واحدة عن تدمير هتلر والنازية تلك الثقافة، ذلك التدمير الذي من دونه لما أمكن تفسير وجود ستالين في المنطقة. لقد بدأت مأساة وسط أوروبا من دون مشاركة روسية. واليهود الذين قاموا بدور حاسم في بناء "روح أوروبا الوسطى" بحسب كونديرا، لم يذبحهم الشيوعيون، بل النازيون. ومثل هذا الصمت من طرف كونديرا في هذا المجال لا يمكن أن يصدر سوى عن عنصري لديه تصور مشوّه للتاريخ بوصفه صراع حضارات: أوروبا في مواجهة ما هو غير أوروبا.

تشير "أوروبا" عند كونديرا إلى تطور ثقافي موحَّد مرتبط بـ"اليونان القديمة والفكر اليهودي المسيحي"[7]. وهو يرى إلى التنوير الأوروبي كنقطة رفيعة في هذا التطور بسبب روحه المتحررة، واستخفافه الساخر، واستخدام العقل لاستكشاف "الكينونة" بدلًا من "الشرطة، والقانون، وعالم المال والجريمة، والجيش، والدولة"[8]. وهو يتتبّع تجليات هذه الروح في الرواية الأوروبية التي يتخيّل أنّ لها أيضًا تطورًا موحَّدًا، بدءًا من ديدرو وسرفانتس ورابليه وستيرن الذين بلغوا مستويات رفيعة في الخفّة لم يبلغها أحد لا قبلهم ولا بعدهم[9]. هكذا، يغدو العقل الذي يتم استخدامه كأداة، أولاً للإنتاج الرأسمالي والنظام الصارم نحو نهاية القرن الثامن عشر، ولاحقًا لأغراض مماثلة في المجتمعات الشيوعية، انحرافًا أو إفسادًا لـ"عقل لطيف حنون" جاء به التنوير وسقوط للإنسانية من النعمة[10]. عندما يستخدم العقل لتحقيق العقلانية الكاملة، فإنَّ "اللامعقول الخالص ... هو ما سوف يستحوذ على أحداث العالم"[11].

يتّهم كونديرا اليساريين الشرقيين بأنّهم يفسدون التراث كلّه، لأنّ ثوراتهم "امتداد مُضحك لمرحلة الثورات الأوروبية"

الشرّ الآخر عند كونديرا هو ذهنية الحشد التي يقرنها بكلّ يوطوبيا واعتقاد جماعي واحتجاج سياسي، لا سيما أيّ مسعى ثوري. وهجومه المتكرر على أي سياسات يسارية بوصفها تجليًا لذهنية الحشد وانحرافًا، إذًا، عن العقل الأوروبي، يضعه في موقع اليميني المحافظ. في "كائن لا تحتمل خفّته"، يهزأ من اليساريين الليبراليين الغربيين الذين تسوقهم رغبتهم في دعم جميع القضايا المحقّة إلى المساهمة في "مسيرة كبرى"، في إشارة ساخرة إلى "المسيرة الكبرى" الصينية التي قادها ماو[12]. ويرى في "الخلود" أنَّ ما يجعل البشر يقاتلون في الثورات أو الاحتجاجات ليس العقل بل "الروح المتضخمة" وتوق إلى صعود "خشبة التاريخ الكبرى"[13]. ويرى في "كتاب الضحك والنسيان" أنَّ هذا "التوقّع الغنائي، العصابي لفعل عظيم ما" هو المسؤول أيضًا عن الولع الفرنسي بـ"مواقف أيديولوجية راديكالية"، تعوض عن قوة فرنسا السياسية والثقافية المحدودة[14].

ولكن في حين يكتفي كونديرا بلوم خفيف لليسار الغربي لمشاركته في "مسيرة كبرى" أوروبية، فإنّه يتّهم اليساريين الشرقيين بأنّهم يفسدون التراث كلّه، لأنّ ثوراتهم "تكثيف ساخر للتراث الثوري الأوروبي ... امتداد واكتمال مضحك لمرحلة الثورات الأوروبية"[15]. ومع مثل هذا التصوير الكاذب للجموع في التاريخ، كان من الطبيعي أن يصل كونديرا أخيرًا إلى تلك "الحكمة" الأكثر سخفًا والأكثر استشهادًا بها في الوقت ذاته: ""لقد أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب العالم ولا تغييره إلى الأفضل ولا إيقاف جريانه البائس الى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد"[16].

بمثل هذه الرّوث الفكري يغزو كونديرا عقول كثيرين ممن يحتقرهم ويزدريهم. بمثل هذه الخرق الملفقة التي تحسب نفسها فكرًا، وتتراوح بين التعصب الأيديولوجي الأعمى والخطاب العنصري، ويصعب أن يقوم عليها أيّ شيء جدي ومحترم يقف في وجه الظلم التاريخي الذي ارتكبته الأنظمة الاشتراكية السابقة، فما بالك الظلم التاريخي عمومًا، يغزو كونديرا حتى عقول مثقفين وكتّاب "يساريين".

لكن مهلًا، أيّ "يساريين"؟ فلندقق النظر! ليس هؤلاء غالبًا سوى "يسار" بعينه، "يسار" الـ NGOs الذي أحلّ "البروبوزلات" والتمويل محلّ النضال، أو "يسار" سجون الطغاة الذي أُنهكت روحه وبات يفضل السخرية من العالم على تغييره، أو يسار مسكين تائه مفتقر إلى الروح النقدية فيُعجَب ويُفتَن ويستشهد لا يعرف بماذا.

 


[1] ميلان كونديرا، كتاب الضحك والنسيان، ترجمة محـمد التهامي العماري (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 2015)، ص 11.

[2]  يُنظَر، آدم هاردليك و بيتر ترنسنَك، "خيانة كونديرا التي لا تحتمل"، ترجمة أحمد شافعي، قراءات أحمد شافعي:

http://readingtuesday.blogspot.com/2015_07_23_archive.html.

[3] Jan Čulík, “Man, A Wide Garden: Milan Kundera as a Young Stalinist”, http://eprints.gla.ac.uk/3806/1/Milan_Kundera.pdf. p. 26.

[4] “The Life and Times of Milan Kundera”, https://www.socialismrealised.eu/wp-content/uploads/2016/10/The-Life-and-Times-of-Milan-Kundera.pdf.

[5]  محـمد حجيري، "رحيل ميلان كونديرا...الشاعر الخائب والستاليني و"الواشي" والروائي الماكر والمنشق"، نبض، http://nabdapp.com/t/122206653.

[6]  Milan Kundera, “The Tragedy of Central Europe,” New York Review of Books, April 26, 1984, p. 221.

[7] Kundera, “Tragedy of Central Europe,” 218.

[8] ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة خالد بلقاسم (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2017)، ص 16.

[9] المصدر نفسه، ص 24.

[10] ميلان كونديرا، البطء، ترجمة منيرة مصطفى (دمشق: دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، ط1 1997)، ص 31.

[11] كونديرا، فن الرواية، ص 19.

[12] ميلان كونديرا، كائن لا تحتمل خفّته، ترجمة ماري طوق (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط3، 2013)، الفصل 6، ص 245- 279.

[13] ميلان كونديرا، الخلود، ترجمة روز مخلوف (دمشق: دار ورد للنشر والتوزيع، ط1 1999)، ص 231، 250.

[14] Milan Kundera, “Afterword: A Talk with the Author,” in The Book of Laughter and Forgetting (New York: Penguin, 1984), 231.

[15] كونديرا، فنّ الرواية، ص 49.

[16] كونديرا، حفلة التفاهة، ترجمة معن عاقل (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2014)، ص 75.

السوريون: شعبٌ مذبوح أم مكوّنات محرومة من هوياتها؟

من قمعوا الشعب السوري ونهبوه كانوا حريصين على دفع هذا الشعب بالاتجاه الهوياتي المكوّناتي الطائفي، ما..

ثائر ديب
شغّيلٌ من أرضِ عاملةٍ: في خطر غياب أمثال حبيب صادق

لعلّه لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق، لا بدَّ أن نعترف. بل إنّ أمثاله سوف يتلاشون إذا ما واصلت..

ثائر ديب
"أنكل توم"، الكاتب العربي، وإسرائيل

لافتٌ ما يقوله وما لا يقوله "ثوار" حيال سرديّة لا وجود فيها للشعب الفلسطيني ولا للدعم الاستعماري الذي..

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة