من رسالةِ البرّانيين إلى أهل الأرض

هل كانت لحظةُ انفصالِ الروح عن الجسد مؤلمة أم مريحة في ميتةٍ كهذه؟ بماذا فكّر مَن غَدوا بلا صوت وماذا تمنّوا؟ هل نستطيع أن نرثَ أمنياتهم ونحقّقها لهم؟

يبدو أنني لم أمتلئ بعد بنصّ كامل. فأنا، كعادتي، بطيئة. بطيئة في كلّ شيء: في اتخاذ القرارات، في التأقلم، في التعوّد على الفقدان أو الخذلان، في هضم التغييرات والأحداث الكبرى أو قبولها واستيعابها. بطيئة جدًا إلا في القلق والخوف! تراهما يفوران من قلبي حتى وإن كان ذلك لمجرّد هبوبِ نسمةٍ باردةٍ في غير موعدها. في القلق والخوف وحدَهما أصبحُ سريعة وكثيفة وغيداق.

أكثر من أسبوعين على الزلزال المُدَمِّر، تلته هزّات ارتدادية لمّا تنتهِ. زلزال بالمعنى الحرفيّ هذه المرة، لا تشابيه هنا ولا استعارات. فالكلمة التي كنّا نستخدم معانيها المجازية لنَصِفَ أمرًا مَهولًا بالغ التأثير تجسّدت بكلّيتها وثقلها ودلالتها المباشرة: زلزال.

أنطقُ الحروف على مهل: زلـ... زا... ل، أردّدها في ذهني. أكتبُها على دفتري وأكتب إلى جوارها كلمةً لا تقلّ عنها ألمًا وفجائعية: سوريا. أربطُ بين الكلمتين بسهمٍ أزرق على طريقة الطلّاب حين يشردون ويملؤون صفحات كراريسهم بأسماء المفاهيم الصعبة وأشكال المعادلات المستعصية على الفهم.

أنهرُ نفسي وأمنعها من تقليب صور الفاجعة والبحث عن صور جديدة. أسبوعان متواصلان من مشاهدة الصور والڤيديوهات كافيان لأفهمَ وأقدّر ما جرى. والاستمرار في هذا بعد الآن ليس إلّا عقابًا ذاتيًّا مازوشيًا سيمنعني من التحرّك المفيد والمُلحّ.

أفتحُ تسجيلًا من أربعين ثانية لصوت الأرض عند حدوث الزلزال. أسمعه للمرّة الألف. وكلّما اقترب المؤشر من الثانية الرابعة والعشرين يبالغ قلبي في دقّاته، يعلو في صدري ويخفق كما لو أنه طيرٌ جريحٌ في قفص. أزجرهُ وأعاتبه على رخاوته: "كيف لو كنّا هناك، يا جبان!" توقظُ الجملةُ "عقدةَ الناجي" التي ما انفكّت تتأصل فيَّ منذ أوّل رصاصةٍ سمعتُها في حمص صيفَ عام 2011. أغلق التسجيل وأعاهد نفسي على ألّا أعود إليه مرّة أخرى.

كمحاولةٍ للتكفير عن النجاة أو الرغبة في المشاركة مهما سَخُفَت، أبحثُ عن أخبار الإغاثة وحملات التعاون، أكتفي بـ "لايكات" خجلى للتشجيع والتشبيك، بينما أصفق لهذا وأُثني على ذاك في سرّي، وأشتهي لو أضمّهم جميعًا: عاملًا عاملة، ومتطوعًا متطوعة، فرادى وجماعات، أشتهي أن أضمّهم وأبكي!

تقول لي أمّي الناجية من زلزال حلب: "خفتُ عليكم إذا مِتُّ، لأنني أعلم أنكم ستحزنون كثيرًا

منشورٌ لصوتِ الأرض مرّة أخرى، أقفُ عنده لثوانٍ ثم أتذكّر عهدي لنفسي فأتجاوزه. يشتغلُ تلقائيًا في ذهني رغم تمريري للشاشة والقفزِ بعدَه إلى عشرات المنشورات. يقتربُ الصوتُ من الثانية الرابعة والعشرين ويتهيّأ قلبي لمغادرتي من جديد. أُحاول إسكات الصوت أوطرده أو خفضه. أفشل، فالصوت سريع وأنا بطيئة. يتكرر الصوت في رأسي أعلى وأعنف، يتكرّر أسرع، يتداخل مع أصوات الشهادات في الڤيديوهات التي شاهدتُها، يتداخل مع الصرخات والنداءات، مع أصوات انهيارات الأبنية وتدحرجات الحجر المُتساقط. يُسرعُ الصوت في رأسي أكثر، يعدو بقوّة رياضيٍّ فتيّ، وأطارده ببطءِ عجوزٍ على كرسيٍّ متحرك.

يصمتُ صوتُ الأرض بعد أربعين ثانية. فأسمعُ أصوات أولئك الذين صاروا في جوفها. أصوات عالية، مُستنجِدَة ومتفائلة! متمسّكة بالحياة على الرغم من قسوتها وبشاعتها. مُخلِصة للأرواح وقد "احلوّت" إذ اقتربتْ من النهاية. تخفتُ الأصوات تدريجيًا، تتعب، تعطش وتجوع، تتمتم بالأدعية وتصلّي وربما تُعاتب. تهدأ قليلًا وتدّخرُ نفسَها على أملٍ ما. تنامُ من الألم والإرهاق. يستسلمُ بعضها ويصمت. تستدعي الأصواتُ المُقاوِمة قوّةً تتجدّد من إرادتها في النجاة ومن استرجاع صور الأحبّة. تعاود الأصواتُ المحاولةَ بحماسٍ أقلّ وشدّة أضعف. ترتجف، تقاوم، تنكسر، تهمسُ مُنهَكة ومسحوقة من التعب والعذاب، تجفُّ وتَيبَس. تفطن للحظاتِها الأخيرة فتستعرضُ وجوه الأهل والأبناء والأصدقاء على سبيل إلقاء تحيّة الوداع. تغصّ وتختنق، تتهدّج، تتجرّح، إلى أن تهلك وتخرس إلى الأبد. تُرى، ما الذي حدث في ثواني عُمرِها الأخيرة؟ هل كره أصحابُها بيوتَهم، أحبّ الأمكنة إلى قلوبهم، بعد أن سُحِقوا تحتها وبسببها؟ هل مرّ شريطُ الحياة أمامَهم سريعًا سريعًا كما في الأفلام؟ ماذا رأى فيه الأطفال والرضّع؟ هل كانت لحظةُ انفصالِ الروح عن الجسد مؤلمة أم مريحة في ميتةٍ كهذه؟ بماذا فكّر مَن غَدوا بلا صوت وماذا تمنّوا؟ هل نستطيع أن نرثَ أمنياتهم ونحقّقها لهم؟ وإن فعلنا، هل سيعلمون؟ هل سيفرحون؟ هل فكّروا بمآلات عائلاتهم وبأحوال أحبائهم من بعدهم؟ هل أسعفتْهم حواسُهم ليسمعوا النحيب والرجاء والنداءات؟ تقول لي أمّي الناجية من زلزال حلب: "خفتُ عليكم إذا مِتُّ، لأنني أعلم أنكم ستحزنون كثيرًا". ينقطعُ الخيال. أقرأ الإعلان عن وقف عمليّات الإنقاذ، ينفضُّ المسعِفون وتتوجّه الجهود والمُطالبات نحو عمليات الإسكان والإعانة. أستسلم للمنطق وأقول إنها قوّة الواقع. لكنني... لكنني مازلتُ أسمعهم! أسمعهم بوضوح، من هنا، من الأرض، أصوات بشريّة لا شكّ في طبيعتها، كلماتُهم مُدغَمة وسريعة وأنا عاجزة وبطيئة، لكنّ أصواتهم هنا، معي وحولي!

أصيخُ السمع أكثر فألاحظُ تداخلَ أصواتهم مع أصواتٍ بشريّةٍ أخرى، هامسة وخافتة لكنها مسموعة أيضًا! أدقّق أكثر، أصمتُ وأصغي، أمعنُ التركيز، الأصوات واضحة، أعرفُها، أتذكّرها! نعم، إنها أصوات الشيخ اسحق والفلكي سلمان وراحيل الجميلة وعبّاس الصياد؛ شخصيات رواية "بيريتوس: مدينة تحت الأرض"! بيريتوس المدينة الرومانية العتيقة التي دمّرها زلزال رهيب عام 551م. والرواية تحكي قصّة مدينة بيروت التحتا حيث يعيش ضحايا الحرب اللبنانية ومفقودوها ومخطوفوها. يعيشون في مدينتهم، وفق نظامهم ورؤيتهم، يعملون ويطبخون ويعزفون الموسيقى بحسب قوانين عالمهم الجديد، ويسمّون عالم فوق الأرض: "برّا" وأهلُهُ "البرّانيّون".

الراحلون في سوريا أيضًا لم يرحلوا إذن! ضحايا الزلزال، ضحايانا، ما زالوا تحت الأرض. لقد انضمّ الناسُ إلى الناسِ هناك. سيشكّلون الآن مدينتهم، وسيستأنفون حياتهم، وسيعيشون تحتنا، في موازاتنا، يأكلون ويشربون وينامون ويحلمون. وستضمّ بيوتهم ساعاتٍ توقّفتْ عقاربُها على الرابعة وسبع عشرة دقيقة، مثلما توقّفتْ ساعات مدينة بيريتوس، بحسب الرواية، عند الثامنة ودقيقة واحدة. وربما ينشئ سكانُ المدينتَين جسرًا يربط بينهم ليتجاوَروا من جديد! وسنحتارُ نحن، كما في كلّ مصيبة، مَن مِنّا نجا: البرّانيون العالقون فوق، على سطح الأرض؟ أم الماضون إلى تحتها في عوالم الغرابة والمجهول؟

في الرواية حيث يسود الخيال ويتحقق المستحيل، سيعودُ بطرس، حارس سينما سيتي بالاس، وسيحكي قصّة بيريتوس وأهلها لربيع جابر فيخلّد الروائي اللبناني ناسَها وأسطورتَها في نصّ روائي!

أمّا في عالمنا، حيث لم نعد نملك إلا الغضب والعجز، لن يخرجَ لنا بطرس، ولن نستطيع النفاذ إلى مدينة ضحايانا، لكن ربما نستطيع يومًا أن نروي قصصهم ونحقق أحلامَهم، وإن بدا لنا الآن أننا بطيئون والمصائب سريعة، وإن طال اعتقادنا بأن هذا العالم "ناقص" وأن نصوصنا لمّا تكتمل.

مَن سَمِعَ ليسَ كمَن قرأ (1)

"فقدان سمع حسّي عصبي. لا أعدك بنتائج مضمونة؛ قد يعود السمع إلى مستواه الطبيعي وقد لا يعود". تشخيص الطبيب..

زينة حموي
"أنا ما قالتِ الكلماتُ"

يقتربُ الموعد المحدّد لتسليم النص. أتأمّل ما كتبتُه أمامي. أشعر بأنني لَحَنتُ في إجابتي وانحرفتُ عن..

زينة حموي
مَن سَمِعَ ليسَ كمَن قرأ (2)

يقترح الطبيب خضوعي لجلسات معالجة بالأوكسجين عالي الضغط لعلاج فقدان السمع الحسّي العصبي الذي أعاني منه...

زينة حموي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة