النتيجة واضحة، الاختبار الثاني للسمع يُطابقُ الأول ويؤكد التشخيص: "فقدان سمع حسّي عصبي مجهول السبب". يقترحُ الطبيب الخضوع لجلسات معالجة بالأوكسجين عالي الضغط. لم أكن قد سمعت بهذه الطريقة قبلًا!
أستفهم، فيفسّر لي فكرةَ العلاج بتنفّس الأوكسجين النقي المضغوط ثلاثةَ أضعاف مستوى ضغطه في الهواء الطبيعي. الهدف هو زيادة كميّة الأوكسجين في الدمّ لتنشيط الأنسجة المصابة وحمل الخلايا التالفة على تجديد نفسها. الطريقةُ إذن آمنة وطبيعية نوعًا ما، لا أدوية ولا مواد كيميائية ولا أعراض جانبية تُذكر. يضيفُ الطبيب: "الطريقة آخذة بالانتشار لعلاج بعض الإصابات الدماغية والحروق والجروح السكّرية وفقدان البصر أو الصمم المفاجئ. ولكن، لا نتائجَ مضمونة ولا توقّعات عالية!" لا بأس، مثلها كمثل كلّ شيء في الحياة!
يقرّر الطبيب لحالتي عشر جلسات على مدار عشرة أيام، مدّة كل منها ساعة ونصف. أسـألُ الممرضةَ التي تشرح لي بعض الإرشادات: "هل لي أن أحضر معي كتابًا؟" فتردّ بالإيجاب. رائع! سأمضي جلساتي إذن في القراءة. وسيكون لديّ خمس عشرة ساعة من الانفراد بالكتب من دون أي منغّصات أو انقطاعات.
أَمضي إلى جلستي الأولى متأرجحة بين التمنّي والتوجّس. أخلعُ ثيابي وخاتم زواجي وكلّ ما يحيط بعنقي ومعصميّ وأرتدي ثوبًا أزرق معقّمًا. أستلقي على سريرٍ أبيض ينزلقُ في حجرةِ أنبوبيّة من البلاستيك الشفّاف كالزجاج. أنا هنا وحدي تمامًا، معزولة، لا أجهزة الكترونية ولا موبايل ولا شاشات. حرّة حتى من قَيود الملابس والروائح والأصوات. لا شيء سوى ملاءات بيضاء كتيمة وحيادية فوقي وتحتي.
تغلقُ الممرضةُ باب صومعتي الجديدة عليّ وأفتحُ أنا الكتابَ الذي اخترته لرحلتي الجديدة. دعوتُهُ من مكتبة بيتي هذا الصباح لمرافقتي، وأنا أستعيدُ في ذهني حوارًا دارَ مع زائرةٍ لي:
- كتب! لماذا تتكبّدين عناءَ جلبها وحملها وشرائها؟ كلّ شيء صار متاحًا على الإنترنت.
- مازلتُ أفضّل الكتب الورقية، وأرى أنها تتـ...
- أرجوكِ، لا تكرري كلام الرومانسيين عن رائحة الورق وملمسه وطعم القراءة المختلف، هذا كلام أخرق لا يُناسب إيقاع عصرنا.
- ومن قال لك إنني معجبة بهذا الإيقاع أو منسجمة معه؟ ثم دعك من طقوس القراءة نفسها. أنا أحبّ وجود الكتب في البيت. أحبُّ شكلَ اجتماعِها وتجاورِها على الرفّوف. أتفرّج عليها وأنا أمارسُ مهامي المنزلية في التنظيف والطبخ. أحدّثُها وأتفقّدُ أحوالَها بينما أستمتعُ بمسح غبارها وإعادة تصنيفها وترتيبها. لا أشعر بأنها جمادات. إنها كائناتٌ حيّة تعيشُ معي وتؤنسني وتخفّفُ عني وحشتي بمجرّد تأمّلها والعناية بها.
ها أنا مع الكتاب إذن، "صيف مع العدو" روايةٌ للكاتبة والأكاديمية شهلا العجيلي من 333 صفحة وأمامي عشر جلسات
تتجاهل زائرتي إجابتي التي تؤكد لها رومانسيتي الخرقاء وتُسرِفُ هي في واقعيتها الفظّة:
- تحتلُّ مساحةً كبيرة. انظري كيف تقضمُ مكتبتكِ أكثرَ من نصف غرفة الجلوس!
- عزيزتي، لو تعلمين كم صارَ بيتي أرحب بوجود هذه الكتب.
تبتسمُ محدّثتي ابتسامةَ من يقول في نفسه: "رومانسية وهَبلة ومفذلكة كمان!"
يخطرُ لي أن أرسلَ لها رسالةً بعد انتهاء الجلسة لأضيف إلى معلوماتها فائدة جديدة من فوائد الكتب: "يُسمَحُ بإدخالها إلى غرف المعالجة بالأوكسجين، أمّا أدوات عصرك فلا!".
ها أنا مع الكتاب إذن، "صيف مع العدو" روايةٌ للكاتبة والأكاديمية شهلا العجيلي من 333 صفحة وأمامي عشر جلسات. قِسمةٌ ممتازة تسمحُ بقراءةٍ متأنية وبإعادة قراءة الفقرات المُلفِتة أو المُؤثّرة.
سرعان ما أنغمسُ في الخيال. وعلى طريقة البطلة في الهروب من ثِقَل العلاقات المُشَوّهة لأسرتها، أخلّفُ ورائي مَرَضي وسَمْعي المتناقص وأستعيرُ من الرواية أحد خيولها وأنطلقُ نحو عالَمي الجديد. أتدرّب على المشي والخَبَب والطراد، وأجولُ في الرقّة وحلب وإسطنبول مرورًا بـ هايدلبرغ الألمانية ودانزيغ الپولندية وباتومي الجورجية. ألعبُ في الحارة مع أطفال الحيّ وأتشاقى مثلهم ثم يزعجني الحرّ فأدخل إلى بيوت تقليدية بمرمرٍ فاخر أو بحدائق مثمرة وطرّاحات، قبل أن أبلغَ البيوت العصرية ذات الأرضيات الـ "پاركيه" و"ماشينات القهوة" في كولونيا. تصحبني (لميس)، الشخصية الرئيسية وصوت الراوي، لتعرّفني على نساء حياتها الكثيرات ورجالها المُدهشين. فألتقي بالجدّة كرمة والأم نجوى والعمّتَين صافية ومارية والصديقة كارمن وأستمع إلى قصصهن في الحبّ وعلاجاتهنّ للخيانة والهَجر وشهوات الجسد.
أسهر على ضفّة الفرات مع العائلة والخال (نجيب) وأصدقائه، نشوي ونأكل ونتفرّج على العشّاق والسكارى والعرائس المارّات على الجسر، غافلين عن مصائرنا الفجائعية في المنافي والمعتقلات. أستمعُ إلى موسيقى رخمانينوف وأرقص على أغاني فرقة بديعة مصابني في يافا وبيروت. أحضر أعراسًا في القُرى وألوّح بمنديل ملوّن. وأشهدُ مآتم وجلسات عزاء في المقابر مع الثكالى والمكلومين.
جلسةٌ أولى، ثانية، ثالثة.
أستقبلُ أباطرةً وأتابعُ حركاتَ جيوشٍ ومغامرات جنرالات وطيّارين حربيين. أزور كنائس وكاتدرائيات وأقرأ عن تاريخها والصراعات الدائرة باسمها وبسببها. أتفرّج على بهاء عمارتها هنا، وتقشّف صورتها هناك.
"إلى الرَقّة كما ستبقى في ذاكرتي"، لقد كتبتْ شهلا هذه الرواية لعلّها تُشفى من جرح فقدِها لمدينتها التي تعرف وتحبّ
أرافق لميس في نزهاتها مع والدتها في حقول عبّاد الشمس. أحتارُ مع الطفلة الناشئة في بحثها عن إيقاعٍ لمشيتها وسلوكها وعلاقاتها. أستمعُ معها إلى دروس (نيكولاس) في الفلك. يشرحُ لنا حبيبُ الأمّ (وعدوّ الطفلة إلى حين) ألغازَ السماء، ويعرّفنا على المجموعات النجمية وخصائصها. يبدو لنا الأستاذ في جامعة ميونخ متمكّنًا في الحبّ والعلم، كيف لا! وهو أحد مُريدي (البتّاني) عالم الفلك العربي الذي عاش في الرقّة وبنى فيها مرصدًا عظيمًا. تنبجسُ عشرات الاستفسارات في رأسي فأحاولُ تدوينها في الذاكرة وأقرّر البحث عن إجاباتها بعد الانتهاء من الجلسة.
جلسةٌ رابعةٌ، خامسة، سادسة.
"داعش" في المدينة. أعيشُ مع أهلها قلقهم ورعبهم. نراقبُ الغرباء ونتحاشاهم ونخشى على بيوتنا وأرزاقنا وماضينا منهم. نحصي مَن تغَيّر مِن أبناء الرقّة والتحق بالسلطة الجديدة. نتسقّطُ أخبار المواجهات بين "قسد" و"داعش". نرتبك، نتردّد، وأُحَوْقِل عاجزةً أمامهم ثم أنضمّ إليهم في بيت العمّة مارية عندما يقرّرون الخروج. رحلةُ وداعٍ لن يتعافوا منها أبدًا. وستبقى، مهما حلّلوا وتكهّنوا، بلا تفسيرٍ وافٍ ولا مُسَوّغٍ واحدٍ لوقوعها. مثل إصابتي في أذني: مجهولة المآل والسبب!
جلسةٌ سابعة، ثامنة، تاسعة.
أُمضي جلستي الأخيرة بشيء من الاضطراب. حياةُ لميس تغيّرت إلى الأبد. والحادثة التي اختارتْ على أساسها قراراتها ومسارات حياتها لم تكن سوى وهمًا! العدوّ القديم صار مُنقِذًا وصديقًا. حتى (عبّود)، حبّ حياتها الوحيد، التقتُهُ بعد فراق وزارتْ معه الجنّة لكنها كانت تعلم أنهما لن يظلّا معًا.
عليها إذن أن تقبل بالهَدْم والدمار الذي أصاب ثوابتها وروحها، أن تهجر الماضي وتبدأ من هنا. الاستسلام سهل، لكنه غير ممكن. أما الاستمرار سيتطلّب منها أن تطوّع كيانها كله لتستقبل التغيير وتخلق ذاتًا جديدة.
تنتهي الرواية مع انتهاء الجلسة العاشرة. أعود إلى الصفحة الأولى وأقرأ الإهداء: "إلى الرَقّة كما ستبقى في ذاكرتي". لقد كتبتْ شهلا هذه الرواية لعلّها تُشفى من جرح فقدِها لمدينتها التي تعرف وتحبّ إلى الأبد. وأنا قرأتُها لعلّها تملأ بعض الفراغات في مكتبتي وروحي، ولعلّي أُشفى من فقدان سَمَعٍ طارئ لمّا يبرأ.