شياطين الامتحانات الجامعيّة‎

أرى في الامتحان فعلًا قهريًّا غريبًا، إذ كيف يمكن لساعتين أو ثلاث أن تحدد مستوى طالب ما؟ وكيف يمكن لبضعة أسئلة أن تختزل ما حصّله الطالب على مدار عام دراسي كامل؟

بعد عودتي من الدراسة في ألمانيا، بدأت التدريس في جامعة تشرين عام 2009. ومنذ ذاك الحين وأنا على رأس الذين يُوجّه إليهم إنذار بوجوب السرعة في تصحيح الدفاتر الامتحانية وتسليمها ضمن مدة تحدّدها إدارة كلية الآداب والعلوم الانسانية. ولطالما كنت أوّل من يقع في ذلك، وغالبًا آخر من يقوم بالتسليم، ولذلك أسبابه التي من أجلها أكتب هذا، وعلى رأسها أني أٌقرأ كل حرف يخطّه الطالب على دفتره، ولأني أعيش صراعًا شديدًا لحظة “تقرير المصير” عند وضع الدرجة النهائية على الدفتر.

الامتحان فعلٌ قهريّ للطلبة

قرأت قبل سنوات مقالة عن نظم التعليم الجديدة في الدول الاسكندنافية وسعيهم إلى إلغاء الامتحانات نظرًا لعدم جدواها في العملية التعليمية. فمفهوم الدرجة الامتحانيّة مقابل المعلومة لا بدّ أن يحلّ محلَه مفهوم السعادة مقابل المعرفة.

استوقفني الأمر طويلًا، ليس فقط لأنّي أشفق على جيل الأبناء الذي صار التعليم عنده يعني تحصيل الدرجة فحسب دونما شغف بالمعرفة من أجل المعرفة، وإنما لأنّي أرى في الامتحان فعلًا قهريًّا غريبًا، إذ كيف يمكن لساعتين أو ثلاث أن تحدد مستوى طالب ما؟ وكيف يمكن لبضعة أسئلة أن تختزل ما حصّله الطالب على مدار عام دراسي كامل؟ كم هي الحالات التي تسبب فيها توتر الطالب في تلك الساعات تحديدًا، في رسوبه، وهذا ما شهدناه مرارًا خلال سنوات التدريس وعلى مدى أعوام طويلة تسببت فيها ظروف اقتصادية أو عائلية أو نفسية معينة في رسوب كثر! هل من العدل إذن أن تحدد ساعات قليلة مصير هؤلاء؟

قد يقول قائلٌ إن اختبار ما لدى الطالب من معلومات أمر مهم، لا سيّما أنه ليس ثمة طريقة أخرى إلى ذلك سوى العمل الامتحاني. والرد بسيط وسهل: الواقع هو الاثبات، فميادين الحياة والعمل هي الامتحان الأكبر. إذ إنّ الناجح فيها كما الفاشل تمامًا، سيثبت أين هو تمامًا.

الامتحان فعلٌ كريه

أما من وجهة نظر القائمين على الامتحانات، فهي لا شك فعل كريه، إذ ما معنى أن يُبذل ذاك الجهد كلّه وأن يُهدَر وقت كبير لا شغل فيه للمراقب سوى الصمت وقوفًا أمام مجموعة من الطلبة كما الجاثوم أو الرابوص المترقب والمتحيّن فرصة ارتكابهم أي حماقة.

وهنا يبرز السؤال التالي: لماذا يمكن لكاميرات أن تراقب مراكز تجارية كبرى ومحال ومصارف ومكاتب وشركات، في حين لا يمكن استخدامها لضبط قاعات امتحانية وبدلًا من ذلك يُهدر وقت أساتذة جامعيين ليكونوا رؤساء قاعات مشرفين ومشرفات على سير العملية الامتحانية؟ ساعات طويلة من المراقبة الصامتة التي تضحّي بوقت يجب أن يقضيه الأستاذ في البحث العلمي. دور الكاميرات الغائبة عن المراقبة يوازي غياب دور التصحيح الآلي للدفاتر الامتحانية. إذ هل يعقل، بعد ذلك الوقت المضحّى به في المراقبات الامتحانية، أن يستمر إهدار طاقة أساتذة في تصحيح يدوي؟

ثمة طرائق لوضع أسئلة مؤتمتة تكون فيها الإجابة اختيار من متعدد وفي الوقت ذاته قادرة على كشف الحس النقدي لدى الطالب

صحيح أن العلوم الإنسانية تختلف عن العلوم الطبيعية والتطبيقية في كونها عصيّة على الدقة وذلك ما يجعل مهمة وضع سلالم تصحيح أمرًا ليس باليسير البتّة (هذا ما أعانيه بشدة). صحيح أيضًا أن دارسي العلوم الإنسانية مطالبون بمساءلة الفكرة وتقليبها ذات اليمين وذات الشمال ومناقشتها من الزوايا جميعها، وهذا يتطلب إجابةً تحريريّة توضح قدرة الدارس على إدارة الموضوع المطلوب في الامتحان، ويقتضي بالضرورة الكتابة المستفيضة التي لا تتناسب مع نظام أتمتة التعليم الذي انتشر أخيرًا في الدول العربية ومنها سوريا.  هذا صحيحٌ كلّه، بيد أن ثمة طرائق لوضع أسئلة مؤتمتة تكون فيها الإجابة اختيار من متعدد وفي الوقت ذاته قادرة على كشف الحس النقدي لدى الطالب ويتم تصحيحها بواسطة الحواسيب.

الأستاذ الجامعي إله وشيطان صامت

كتبت رواية قبل سنوات تعلمت في أثناء كتابتها، بل وعشت، حالة جعلتني أؤمن بأن الكاتب إله خلاق. يرسم مصائر الشخوص التي يخلقها ويحدد أقدارها ومسارات حياتها. يحييها ويميتها، ويُضحكها ويبكيها متى يشاء. كما أنّه شيطان ماكر يتلاعب، لا بأقدار شخوصه فحسب، بل كذلك بأعصاب القارئ ومزاجه، فتراه يصعد به إلى سماء سابعة ثم يلقي به فجأة من علٍ إلى أرض سابعة.

لم أكُ أعلم يوما أن ازدواجية الإله-الشيطان ممكن أن تنطبق على أستاذ جامعي، إلا حين كابدت ما كابدته لدى تصحيح دفاتر امتحانات الطلبة. ما من أحد يمكنه أن يدرك حجم معاناة أستاذ جامعي (وربما ليس كل أستاذ) حين تأتي لحظة وضع الدرجة النهائية على دفتر امتحاني: مصير طالب ما رهن يديك! أرقام بسيطة تسجلها بقلب بارد على ورقة عادية يمكن أن تغير حياة شخص.

في إحدى المواسم الامتحانية، قمت بتصحيح دفتر، وبعد جمع درجات الأسئلة كانت النتيجة 49 من أًصل 100 درجة، في حين أن حد النجاح هو 50. وقفت للحظات أمام الدفتر الامتحاني الذي دوّنت عليه الدرجة 49 صامتة واجمة، لا أملك القدرة على استيعاب ما خطته يدي بسرعة بعد الجمع دونما تفكّر، ولا أملك سبيلًا إلى تعديل الدرجة. وكلما هممت بتجاهل الأمر وتعديل الدرجة تخيلت حجم المسؤولية التي أقف أمامها، فأنا أعدل في دفتر جامعي في مسألة تفصل بين حالتين متناقضتين تمامًا، وكلما هممت بتجاهل الدفتر للانتقال إلى غيره، تخيلت وجه الطالب أو الطالبة حين يعلم/ تعلم النتيجة.

منعني هذا الدفتر من النوم ليلتها، ولم يكن الأمر بالبساطة والسلاسة التي كنت أتصورها مسبقًا. ما زلت أذكر كيف نهضتُ من فراشي وتجولت في أرجاء المنزل محاولةً إيجاد حل للأمر: درجة واحدة فقط تفصل بين عالمين: النجاح والرسوب! يا لذلك البرزخ المرهق!

حسن إذن. درجة واحدة ليست بذاك الأمر المعقد. يمكنني إضافتها ونقل الطالب إلى عالم النجاح، لكن كيف يمكنني ذلك؟ نعم ربما يمكنني، فنحن بشر لسنا حواسيب، وحقلنا هو حقل العلوم الإنسانية التي تحتمل بعض المرونة والمد والجزر. إذ لا يمكنني أن أعامل الإجابة عن قضية المجتمع المدني كما لو كانت مسألة حسابية أو معادلة كيميائية.

مشيت إلى طاولتي، أمسكت بالدفتر الذي لم يعقبه دفتر، ولم أستطع بعده أن أصحح شيئًا. تأملته قليلًا. نظرت إلى الدرجة (تسعٌ وأربعون). شعرت أنها ترمقني وأرمقها ثم تشيح بوجهها عني متعاطفةً مع صاحب الدفتر. فما كان مني إلا أن غادرته بغصّة وحرقة كما تغادر في الطريق مسكينًا لا يمكنك أن تقدّم له شيئًا سوى التعاطف والدعاء ربما.

الطالب شيطان ثرثار

في العام الماضي، واظبت تلك الطالبة، على امتداد أسابيع، على ملاحقتي عبر الهاتف ومواقع التواصل و”الواتس آب” محتجةً على الدرجة التي نالتها (35 من أصل 100) في مقرر دراسات نصيّة بلغة أوروبية. وفي كلّ مرة كانت تؤكد أن ثمة ظلمًا أحاق بها إلى الحد الذي دفعها إلى ممارسات غريبة، بدءًا من البكاء والتهديد بشكوى إلى رئيس الجامعة، مرورًا بتبني نظرية المؤامرة عليها شخصيا، ثم العودة إلى عبارات من قبيل: “حسبي الله ونعم الوكيل فيكم!”. وفي كلّ مرة كنت أِوضح لها أننا كأساتذة لا نعلم لمن هذا الدفتر الذي بين أيدينا حين نصحح، وأن لا تارات مسبقة لنا مع أي من الطلبة، لكن عبثًًا كنت أفعل.

أرّقني هذا الأمر ومرت ليلة أخرى من الليالي التي منعني فيها من النوم احتمال ظلم كائن من قبلي. نهضت وخرجت إلى الشرفة وكان الهواء منعشًا ونقيًا نقاءً يدفع إلى قرار بفعل نقيّ، فعزمت أمري على أن أتوجه في الصباح التالي الى مجلس الامتحانات وأطلب فتح دفتر الطالبة بحضورها وحضور الموظفة المسؤولة عن ذاك، وتم الأمر. فكانت الصدمة حين تحوّلت الطالبة من متظلّمة متشكّية إلى مترجيّة ألا تُرفع فيها شكوى إلى عميد الكلية بسبب ادّعاء كاذبٍ حول دفترها الذي يستحق الدرجة التي لم تنل إعجابها كحدّ أقصى!

غادرتُ مجلس الامتحانات وفي رأسي مقترحات لإدارة الكلية تنصف الأستاذ والطالب على حدّ سواء، وراجية ألا تمر بي ليلة جديدة تقض مضجعي فيها احتمالات ظلم… سببُها جرّة قلم.

سنابل، شُهَدا، وحمام

هل يخجلُ البحر من روح أبي وأرواح الضحايا وهي ترفرف فوقه عاتبةً مكلومة؟ ليس الذنب ذنب البحر البتّة. الذنب..

هلا علي
صباح فخري: الإغماضة الأخيرة!

الوصف الأقرب لصباح فخري هو باعتقادي "الآلة الجميلة"، ولهذه العبارة بعدان اثنان: البعد الأول هو البعد..

هلا علي
غصّة

لم أتمكن من تجاهل خشيتي من توقّفٍ آخر لمحرّك سيارتي. كان شعوراً شبيهاً بخشيتي من ضيقٍ في التنفس لدى طفلي..

هلا علي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة