سنابل، شُهَدا، وحمام

هل يخجلُ البحر من روح أبي وأرواح الضحايا وهي ترفرف فوقه عاتبةً مكلومة؟ ليس الذنب ذنب البحر البتّة. الذنب ذنبُ لصوص البحر وزبانية شطآنه.

لن أقولَ إنّني صرتُ أكره البحر. تلك مبالغةٌ مرفوضة، على الأقلّ، لأنّ البحرَ بريءٌ مما حدث. كلّ ذنبه أنَّ النافذة تطلّ عليه. تلك النافذة التي اعتدتُ، في أثناء وجودي في المشفى مع والدي قبل رحيله بأيام، أن أتمشّى وصولاً إليها في ذلك الممر الطويل.

لطالما ارتبطت النوافذ بالأمل، لكنّ تلك النافذة، تحديدًا، كانت نافذة تضاؤل الأمل، بل نافذة اليأس المتعاظم. في كلّ مرة مشيت إليها كان أبي يفارق شيئًا ما: القدرة على الحركة، القدرة على الجلوس في السرير، الرغبة في الكلام، القدرة على المضغ، القدرة على النهوض، القدرة على المقاومة، القدرة على القدرة، وأخيرًا الرغبة في المقاومة، والرغبة في الحياة.

أصرّت شهية أبي للطعام على الغياب، وكنت أعدّ عودتها مجدّدًا كعودة الروح من اغترابها وأحد براهيني على وجود الله. لم يستعدْ أبي شهيته. لم يستعد ما فقد من قدرات ورغائب. لم يحدث ذلك. لم يحدث شيء، وحدث كلّ شيء في الآنِ ذاتهِ: في الخامس عشر من أيلول 2022، عند العاشرة صباحًا، قرّ قرار جسد أبي، وربما عقله، على إنهاء رحلة معاناة مع قصور كلويّ حاد تبعته اختلاطات كانت كفيلة بإسدال الستارة.

ذلك البحر الذي تطلّ عليه تلك النافذة، هو البحر ذاته الذي خَطَفَ، بعد يومين من رحيل أبي، عشرات الهاربين من موت محتّم إلى موت محتمل. وهو البحر ذاته الذي قاتل أبي الجنرالُ من أجله، من أجل كرامة أبنائه الجديرين بالحياة على جنباته لا الغرق رخيصين في ظلماته، فخاض ثلاث حروب دفاعاً عن البلاد حين كانت بلاداً وكان الجيش... .

هل يخجلُ البحر من روح أبي وأرواح الضحايا وهي ترفرف فوقه عاتبةً مكلومة؟ ليس الذنب ذنب البحر البتّة. الذنب ذنبُ لصوص البحر وزبانية شطآنه.

في التاسع من حزيران عام 1967، اليوم الرابع من حرب الأيام الستة، هاجمت كتائب من لواء غولاني، نخبة النخبة في الجيش الإسرائيلي، سريةً للجيش السوري في "تل الفخّار"، شمال الجولان السوري، كان والدي قائد المدافعين فيها. تلقّى التلّ ضربات من الأرض والجوّ، وصمد في قتال مرير ودفاع شرس ثمانية أيام متتالية دونما توقّف حتى نفاد الذخيرة تماماً، لا سيما المضادة للدبابات. لكنّ المدافعين عن التلّ لم يستسلموا، بل استأنفوا القتال بالسلاح الأبيض وحتى بالأسنان بالمعنى الحرفي للعبارة، ما أدّى إلى استشهاد كثير منهم. حينها دخلت قوات إسرائيلية بالمدرّعات بعد أن تلاشت القدرة على التصدي لها، وأُسِرَ كلُّ من لم يستشهد، وكان والدي من بين أولئك الأسرى.

كتبت الصحف الإسرائيلية حينئذٍ عن دفاعٍ أسطوري وصمود لافت لجنودٍ سوريين في شمال الجولان السوري. بل إن الشاعر الإسرائيلي ياكوف أورلاند كتب ديواناً عن "تل الفخّار" التي سقط فيها ثلاثة وأربعون جندياً إسرائيلياً، واصفاً إياها بالمعركة الملحمية التي خاضها جنود إسرائيليون ضد جنود سوريين رفضوا قرار الانسحاب وفضّلوا الموت. ورغم أنّه كان يجعل من تلك المعركة ملحمةً إسرائيلية ويرسّخها في الأدب العبري، فإنّ الفنان الذي صمّم غلاف الديوان وأعدّ رسومه لم يُخفِ خيبته وتشكيكه، فالجندي الذي يرسمه على الغلاف يثير مشاعر متناقضة: رأسه وجسمه العلوي بلا ملامح واضحة، وهناك أشياء مدببة، لعلّها سهام، تخترق كتفيه. غير أنّه ما من شيء يساعد في التعرّف عليه. بل إنّه ليس من الواضح حتى ما إذا كان إسرائيلياً أم سورياً.

قضى والدي قرابة الشهرين في السجون الإسرائيلية. كان قد ترك وراءَه أبوين انفطر قلباهما على ابنٍ ظنّوا أنه استشهد في التلّ، وحبيبةً تنتظر عريسها القادم الذي بات في حسبانها شهيداً. ثم جاء الخبر اليقين وتبيّن أنّه على قيد الحياة. ورُدَّتْ الروح. وحين عاد إلى القرية، أقام أبناؤها له عرسٌاً وتبدّل الحزن فرحًا غامرًا وفخرًا ببطل الفخّار.

منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين كان والدي ضابطاً كبيراً في القوات السورية في لبنان. كانت تلك فترة تحالف الجيش السوري مع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. ومن يريد أن يعرف الدور الذي قام به الجيش السوري حينئذٍ، لا سيما اللواء 62 الذي كان أبي قائده، ومساهمته في الوقوف بوجه الاجتياح الإسرائيلي وفي معارك البقاع وحرب الجبل. ليس عليه سوى العودة إلى شهادات المقاتلين والكتّاب الفلسطينيين وشهادات القادة العسكريين الإسرائيليين. ولعلّ حادثة أسر الطيار الأميركي غودمان في يوم الرابع من كانون الأول عام 1983 ودور والدي فيها أن تكون خير مثال على ذلك كلّه.

في ذلك اليوم، وبحسب رواية الطيّار الأميركي روبرت أوو غودمان، أقلع هذا الأخير بطائرته، مع زميله مارك لانغ، من على متن حاملة الطائرات الأميركية جون إف كينيدي المتمركزة قبالة السواحل اللبنانية، في مهمة تمثّلت بإسقاط ألف رطل من القنابل على دبابات وقواعد صواريخ مضادة للطائرات سورية، في وادي البقاع في لبنان. لكنَّ نيران أسلحة بسيطة وصاروخ أطلقته القوات السورية هناك أصابت طائرته التي بدأت تتهاوى بشدّة وتسارع مرعبَين، واستطاع هو وزميله أن يقفزا بمظلتيهما من الطائرة، لكنه أُسر واقتيد على متن شاحنة من دون أن يعلم وجهتها أو من هم آسروه، في حين توفي زميله متأثرًا بإصابته.

وفي ذلك اليوم، وبحسب رواية أبي، تمكّنت القوات التي يقودها، بعد أن كانت قد جهّزت أشراكاً مدفعية ورشاشات مضادة للطائرات، من إسقاط طائرة روبرت أوو غودمان وأسره. ثمّ قام أبي بنقله بنفسه وفي سيّارته إلى دمشق. وقد أخبرنا مرةً، حين سأله أخي عن ساعة يد قديمة غريبة الشكل في خزانته، أنّها ساعة الطيار الأسير التي أخذها ردّاً على أخذ ساعة يده حين أُسرَ في تل الفخّار.

لم تكن معارك أبي عسكرية فحسب، ولم تكن ساحات القتال ميادينه الوحيدة. كان العلم رهانه الأكبر، لطالما حثّ عليه نفسه وكلَّ من يعرفه. ولم يكن ليرضى أن يكون إنجازه العلمي أقلّ مستوىً من إنجازاته العسكرية، فتابع دراسته في كلية الحقوق في جامعة دمشق حتى تخرج فيها وحصل على الإجازة في بداية ثمانينيات القرن العشرين.  بيد أنّ شغفه بالعلم لم يتوقّف عند ذلك الحدّ، فحرص بعد الإجازة على متابعة دراساته العليا ليحصل على درجة الماجستير عن أطروحته الموسومة: الأطماع الصهيونية في المياه اللبنانية ثم تابع مسيرته فأعدّ أطروحةً لنيل درجة الدكتوراه في القانون الدولي حملت عنوان النظام العالمي الجديد وحرب الخليج، وما زلت أذكر الساعات الطوال التي كان يقضيها إلى طاولته، أمامه المراجع الكثيرة والأقلام الملوّنة، فاردًا الخرائط وغارقًا في متعة كانت تروق له أكثر من أي شيء آخر.

فضلاً عن وصفه بالدّماثة والتهذيب الشديدين، وصفه جلّاسه بالموسوعيّ، إذ كان يدلي بدلوه في الفلسفة والدين والأدب والقانون وتاريخ الفن وعلم الاجتماع. وتراه ينهض، كلما داهمته فكرة، مهرولًا بقامته القويمة إلى رفوف مكتبته التي حفظ مواقع الكتب فيها عن ظهر قلب ليتناولَ كتابًا يدلّل به على فكرته أو يستطرد. مكتبة بيتنا في دمشق كلّها من حسنِ اختياراتِه، ومكتبتي هي هديته الأروع لي.

مرّت بنا الأيام ولم نشعر يوماً أننا "أبناء ضابط كبير" في الجيش العربي السوري أو أنَّ لنا امتيازات تفوق ما لغيرنا. كان يلازمنا، على هذا الصعيد، شعور واحد دائم وقويّ، أننا أبناء سوريّ يحبّ أرضه كحبّه أولاده الذين يريد لهم أن يتشبثوا بجذرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

التقيتُ قبل أيام صديقَك وابن قريتك الذي يحبّك كثيرًا. قال لي إنّك، يا أبتي، "رجلٌ بحجم وطن". منذ ذلك الحين وأنا أغني لك فيروز التي عشقتَ أغانيها:

ع منديلك إمّي ع بواب البيوت

عم بكتب يا وطني

الوطن ما بيموت.

صباح فخري: الإغماضة الأخيرة!

الوصف الأقرب لصباح فخري هو باعتقادي "الآلة الجميلة"، ولهذه العبارة بعدان اثنان: البعد الأول هو البعد..

هلا علي
غصّة

لم أتمكن من تجاهل خشيتي من توقّفٍ آخر لمحرّك سيارتي. كان شعوراً شبيهاً بخشيتي من ضيقٍ في التنفس لدى طفلي..

هلا علي
لهاث

في خضم الأزمات والشح والطوابير والخوف، نحن عالقون بين بين في كلّ حيّ وكل مدينة من هذا الوطن المكلوم،..

هلا علي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة