عن قيد “الخوف”‎

سجن خوفنا السوري، ليس مرتبطًا بمنظومة حكمٍ فحسب، بل بجوٍ اجتماعيّ يربي الخوف فيك من نفسك، من أفكارك، ومشاعرك، وحتى شطحاتك السخيفة، مهما كانت بسيطةً وغير مؤذية.

في غرفة الجلوس في منزلي، أجلس على مقعدي، وأحضّر كومبيوتري وسماعاتي قبل اجتماع العمل المقبل. أشعر أنّي أتهاوى عوض أن أجلس. أستطيعُ أن أتخيّل التعب يجري في عروقي. أكاد أراه يدحل أعصابي ويفتّتها. أعرف الإشارات كلها. هذا ما يدعى “الاحتراق” أو الـ burn-out، أي عندما تبدأ ضغوط الحياة والعمل في النيل من تفكيرك، ونومك، ونظام طعامك، وقدرتك على الاستمرار. أجرّ نفسي قبل اجتماعي المقبل مع مديري لأضع ابتسامةً على وجهي بينما أحضّر نفسي لسماع ما سيقوله لي خلال تقييم أدائي السنوي.

أعدّ نفسي من القلّة المحظوظة بمديرٍ متفهّمٍ ولطيفٍ وداعم على الصعد كافة. مديرٌ أستطيع أن أدعوه صديقًا. لست قلقةً مما سيقوله لي. أعرف أدائي وأثق بكلّ ما قدمته في عملي خلال السنة الماضية. “خلّاقة، تأخذين مبادراتٍ وتعملين على تنفيذها خارج مساحتك المريحة…” كلّه مديحٌ يتكرر خلال هذه الجلسات. لكنّي أستطيعُ أن أحزر ما ستكون توصيته المقبلة في مجال “النمو”، أي ما عليّ أن أفعله لأصبح أفضل في عملي. “كفّي عن القلق والخوف من العواقب،” قال لي. “لا أخاف من أيّ عملٍ تقومين به لأنّ لدي تمام الثقة بقدرتك على إنجاز ما يتجاوز المطلوب، وبإمكانك العمل في ثلاثة ميادين بالتوازي، لكن في أيّ لحظة تشعرين بها أنك أخطأت أو أغفلت شيئًا ما، أستطيع أن أرى علامات الاكتئاب على وجهك. وكأن الخطأ كارثة، برغم أنه قد يكون بسيطًا جدًا.”

صمتُّ. أدرك تمامًا كيف يضيف هذا الخوف إلى أسباب احتراقي. لم أتفاجأ. ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذا التعليق. “أنت تضعين لنفسك معايير مستحيلة – you hold yourself to impossible standards.” قالت لي مديرتي السابقة. “?What’s the worst that could happen – ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل؟” هي النصيحة التي حصلت عليها دائمًا لمساعدتي على تجاوز هذه الخصلة مذ وصلت إلى كندا.

هكذا، يعشّش الخوف في جذر تكويننا، ويكبر معنا إلى أن يصبح قيدًا يكبّلنا

“ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل؟” ضحكةٌ مريرةٌ وساخرة تعبر في رأسي. أكره محاولة تقديم شرح لمن لم يعش التجربة السورية. ماذا يعني أن تكبر في سجنٍ من الخوف، ربينا فيه صغارًا، وفاقمته الحرب؟ لا أحبّ أن أكون ذلك الشخص الذي يحاول إيجاد مبرراتٍ تجعله يبدو كضحية. سجن خوفنا السوري، ليس مرتبطًا بمنظومة حكمٍ فحسب، بل بجوٍ اجتماعيّ يربّي الخوف فيك من نفسك، ومن أفكارك ومشاعرك، بل حتى شطحاتك السخيفة، مهما كانت بسيطةً وغير مؤذية. هو سلسلة، يعمل الأقوى دائمًا فيها على إخافة الأضعف. الحكم يخيف الناس، الناس تخيف بعضها، العائلة تخيف أبناءها لتحميهم من خوفها من الناس، ومن الحكم. وهكذا، يعشّش الخوف في جذر تكويننا. يكبر معنا إلى أن يصبح قيدًا يكبّلنا. قيدٌ عابرٌ للمكان والزمان، يحتاج الفكاك منه إلى طاقةٍ محرقة.

“ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل؟” كم لديك من الوقت كي أسرد لك ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل؟ كيف أخبرك أنه من السهل جدًا أن تفقد أمانك كله في لحظةٍ واحدة فيما هو أشبه بتجربة القرب من الموت near-death experience؟ كيف أخبرك أننا نكبر ونحن نتعلّم أن “الحيطان لها آذان”، ولذلك علينا ألا نعبّر عن أيّ شيء يجول في خاطرنا؟ كيف أخبرك عن ذاك المتجبّر الذي اتصل ببيتنا وأخبرني أنه “سييتّمنا” إن لم يستجب أبي لمطالبه؟ عن أولئك الذين يختصرون قيمة حياة الإنسان بأن “حقّه رصاصة”؟ ما أسوأ ما يمكن أن يحصل؟ أن تكبر في مجتمعٍ يعتبر نفسه وصيًا على خياراتك كلّها، ويحقّ له، لا محاسبتك أنت فحسب، بل محاسبة من تحبّهم، ويبرّر أيّ رد فعلٍ ضدّهم. أن تكبر في مجتمعٍ يكبّلك بالشعور بالذنب تجاه أولئك الذين سيدفعون أثمان هذه الخيارات. “ذهبت أمي إلى عزاء فطردوها أمام الجميع”، أخبرتني صديقتي المتزوجة من شخصٍ من دينٍ مختلف، برضا أهلها ومباركتهم، والتي تعيش في إحدى الدول الأوروبية.

“ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل؟” كيف أخبرك عن الأسوأ العابر للقارات؟ عن إحساس الذنب الذي يتعاظم كلّما ابتعدت؟ عن أبواب الجحيم التي يمكن أن تفتح على من تحبهم، وأنت تتنعم بـ”الأمان” و”راحة البال” بسبب كلمةٍ قلتها، أو تصرفٍ بسيط خارجٍ عمّا يتوقعه الآخرون منك؟ عن إحساسك بالعجز عن إنقاذهم أو مساعدتهم للخروج من ذلك المستنقع؟

لا أريد أن أشرح كلّ ذلك. ليست مشكلتهم. لا أريد كسب التعاطف، ولا أن أتاجر بظروف نشأتنا لأبرّر ما يبدو كمشكلة. “سأعمل على ذلك”، أجبت وأنا أبتسم وأعدُ نفسي في سرّي أني سأحاول للمرة الألف أن أجد طريقةً لأخاف بدرجةٍ أقل. أن أقبل أني سأمضي وقتًا في محاربة هذا الشعور، من دون أي ضماناتٍ بالنجاح، لكن Hey, what’s the worst that could happen؟

غُربة

أبحث في قصص التاريخ، من بلفاست إلى سراييفو، فبيروت، وبغداد، لم أجد شعباً مر بحربٍ مشابهة واستطاع فعلاً..

مريم س.

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة