الأزمة تغيّر السلوك الاستهلاكي في لبنان‎

ثمة أسئلة تنتظرُ الإجابةُ عليها رصدَ الأثر الناجم عن مغادرة المغتربين لبنان، بعد موسم الاصطياف وزيارة العائلة والأقارب. من بينها، مثلًا: كم من المقيمين سيكون قادرًا على الدفع بالدولار؟

أدّت الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان إلى تغيير ملحوظ في السلوك الاستهلاكي للسكان، فتبدّلت الأولويات، وتآكلت القدرة الشرائية لمن يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية. وفي ظل المشكلات الناجمة عن الانهيار المالي والاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي كأحد أسوأ الانهيارات في التاريخ الحديث، تقلّصت إمكانية تأمين مستلزمات الحياة اليومية الضرورية، وارتفعت احتمالات العجز عن التعامل مع حالتي الجوع أو المرض. هكذا، ما عادت مقولة “ما حدا بيموت من الجوع” المتوارثة تصلح كما كانت في السابق. فالعديد من التقارير والدراسات يُنذر بوصول الأمن الغذائي في البلاد إلى حافة الخطر.

وكان البنك الدولي قد أصدر منتصف العام الجاري تقريرًا، أوضح فيه أنّ منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي من أكثر المناطق تأثرًا بالحرب الروسية-الأوكرانية لجهة تراجع الأمن الغذائي. ويأتي لبنان في مقدمة الدول المتأثرة بأزمة الغذاء، خصوصًا إذا ما قيس حاله على معدل تضخم أسعار الغذاء في الدول التي وصفها التقرير الأممي بـ”بؤر الجوع الساخنة”. ويعود تراجع الأمن الغذائي لأسباب عدّة، أبرزها أن الارتفاع في أسعار المواد الغذائية في لبنان جعل نحو 19% من السكان يواجهون شكلًا من أشكال من نقص الغذاء.

الغذاء أم الدواء؟ 

في أحد المتاجر الغذائية في بيروت، تجرّ سلوى عربة لا تغري محتوياتُها، بعد قضاء ساعة كاملة في تفحّص المنتجات بهدف التبضّع. وقد جمعت في العربة ما يحتاج إليه منزلها الصغير الذي يحوي عائلة تتألف من خمسة أفراد. وفيما راحت تنتظر بقلق دورها لتسديد كلفة مشترياتها، سلّمتها موظفة الصندوق لائحة بالأسعار، فاعتذرت سلوى منها ثم أخذت تتجول مجددًا بين الرفوف، وأعادت نصف ما كانت ترغب بشرائه لعدم قدرتها على تغطية تكاليفه.

تسكن سلوى في منطقة الطريق الجديدة في بيروت، وتتبضع مرة في الشهر بعد تقاضي زوجها راتبه الذي لا يتجاوز خمسة ملايين ليرة لبنانية. “كل يلي اشتريتهم إشيا ضرورية؛ زيت و معلبات ورز وعدس ودوا غسيل”، تقول. لكن حسابها بلغ مليونًا، فما كان منها إلا أن أعادت النظر بخياراتها الشرائية، واكتفت بما يسد حاجاتها لمدة عشرة أيام. “بعدين منشوف”، أردفت قائلة.

تخشى سلوى أن ينفذ الراتب قبل نهاية الشهر، فتحاول جاهدة التوفير كي تحافظ  عليه لأطول وقت ممكن. تخاف أن يمرض أحد أولادها، وألا تملك ما يكفي من المال لتسديد فاتورة المستشفى أو ما تيسّر منها. غادرت سلوى المتجر، ودخله مثلها كثر. ثم انتشر خبر ارتفاع سعر صرف الدولار متجاوزًا 38 ألفًا، فقرّر المتجر إغلاق الصندوق… إلى حين تغيير الأسعار.

إعادة تشكّل البنية الطبقيّة

في 12 أيلول/سبتمبر الماضي، حذّر تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) من سوء التغذية ومن مخاطر ارتفاع معدلات السمنة، مشيرًا إلى تأثير انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين بسبب التضخم المفرط وانخفاض قيمة العملة على أمنهم الغذائي. وبحسب التقرير، فإنّ غالبية الاسر اللبنانية اتجهت إلى مواد غذائية أرخص وذات فوائد صحية أقل، ما أدى إلى سوء في التغذية ونقص في التنوع وارتفاع في معدلات الإصابة بالسمنة في المناطق الريفية والحضرية، علمًا بأن الأخيرة تصيب الآن نحو 32 في المئة من البالغين.

وقد أعادت الأزمة تشكيل البنية الطبقية اللبنانية، فتقلّص حجم الطبقة الوسطى إلى حدود دنيا. ويشير الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين إلى أن رقعة الطبقة الفقيرة آيلة إلى مزيد من الاتساع، في ظل تآكل القدرة الشرائية وإقفال المؤسسات وارتفاع نسب البطالة، التي ذكر المسح الذي أجرته إدارة “الإحصاء المركزي” في لبنان و”منظمة العمل الدولية”، أن معدلها ارتفع من 11.4 في المئة عام 2018 إلى 29.6 في المئة في كانون الثاني/ يناير 2022، ما يعني أن ما يقرب من ثلث الفئات القادرة على الإنتاج كانت عاطلة عن العمل في كانون الثاني/ يناير 2022.

كم من المقيمين سيكون قادرًا على الدفع بالدولار، علمًا بأن نسبة من يتقاضى راتبه بالعملة الصعبة لا تتجاوز 8%؟

وتوضح الباحثة في الجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل إلى أن “نزوح” فئات من السكان من الطبقة المتوسطة إلى الطبقات الأكثر فقرًا، يعني أن الإقبال على الكماليات في تراجع بطبيعة الحال. من هنا، فإن الأولويات المتعلقة بقرارات الشراء تبدلت بشكل كبير، وانخفض معها الإنفاق على الكثير من السلع.

وعلى سيبل المثال، يلجأ عدد متزايد من المواطنين إلى شراء الملابس من محلات “البالية”، خصوصًا بعد إقفال محلات تبيع علامات تجارية شهيرة. وبحسب “الدولية للمعلومات”، فإن التغير في القيمة الإجمالية للسلع المستوردة بات ملحوظًا هذا العام . إذ كانت تصل قيمة الاستيراد سنويًا إلى  نحو 15 مليار دولار ، من دون احتساب قيمة استيراد المشتقات النفطية التي كانت تبلغ نحو 4 مليار دولار. أما العام الماضي، فقد انخفضت قيمة الاستيراد إلى 9 مليار دولار. ويُرجّح استمرار هذا الانخفاض خلال السنوات القادمة مع استمرار الأزمة.

ويعطي شمس الدين مثالًا حول الهواتف الذكية. إذ تراجعت قيمة استيرادها من نحو 160 مليون دولار إلى حوالي 60 مليون دولار العام الماضي (2021)، فيما انخفض عدد السيارات المستوردة من 20 ألفًا سنويًا إلى 6 آلاف فقط، والأمر ذاته – مع اختلاف في النسب – ينطبق على الألبسة كذلك.

من يرتاد المنتجعات؟

ثمة أسئلة تنتظرُ الإجابةُ عليها رصدَ الأثر الناجم عن مغادرة المغتربين لبنان، بعد موسم الاصطياف وزيارة العائلة والأقارب. من بينها، مثلًا: كم من المقيمين سيكون قادرًا على الدفع بالدولار؟ علمًا بأن نسبة من يتقاضى راتبه بالعملة الصعبة لا تتجاوز 8% بحسب مرسل.

طبعًا، نأخذ بالاعتبار هنا أن التحويلات من الخارج تعين الكثير من الأسر على مواجهة المصاعب الحياتية وتأمين حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، إذ إن نحو مليون فرد يتلقون تحويلات من الخارج، أي حوالي 250 ألف أسرة تقريبًا.

وتبدو نسبة إشغال الفنادق والمطاعم المرتفعة “طبيعية” إلى حدّ ما، أولًا لأن الفترة الماضية شهدت زيارة أعداد كبيرة نسبيًا من المغتربين، وثانيًا لأن عدد الفنادق والمطاعم تراجع جراء الأزمة أساسًا. إذ بحسب “الدولية للمعلومات”، فإن نسبة إشغال 60% من فنادق بيروت في الآونة الأخيرة مردّه أن نحو 13 من أهم الفنادق في العاصمة أقفل نتيجة الأزمة، فيما لاقت آلاف المطاعم في لبنان مصيرًا مماثلًا.

لبنان، إلى أين؟

تثير التقارير والتحذيرات الأمميّة مخاوف كبيرة لدى اللبنانيين، وهي تعيد إلى الذاكرة مراحل تاريخية شهد فيها لبنان مجاعات أنتجت مآسي كبرى. لا يبدو أن قعر الهاوية ظاهر حتى الآن، ولا طبيعة الحلول التي يمكن اجتراحها للخروج من هذا القعر متى بلغناه. في هذه الأثناء، يجد مواطنون أنفسهم أمام خيارات مجنونة، تُنتج كلّ بضعة أشهر قصة مركب يحمل معه هاربين أملًا بالنجاة، قبل أن يغرق غالبية هؤلاء، وتموت معهم تلك الآمال.

 

تم إنتاج هذا المحتوى بدعم من Wan-ifra، وهو يعكس آراء الصحافية وليس الجهة المانحة.

كلفة الصحة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان

كيف أثّرت الأزمة الاقتصاديّة في لبنان على الصحة الجنسيّة والإنجابيّة؟ نستعرض في هذا التحقيق قصصًا..

مروة صعب
عاملات منزليات في مواجهة الكفالة

معظم العاملات اللواتي يحضرن إلى لبنان ليست لديهنّ فكرة عن ظروف العمل، ويتم بيعهن كذبة من قبل وكلاء..

مروة صعب
كيف تتعرّض النساء في لبنان إلى عنف اقتصادي؟

تفيد بعض الإحصاءات بأن نحو 30% من اللبنانيين اليوم عاطلون عن العمل. ثمّة من يقول إنّ النسبة أقل إذا ما..

مروة صعب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة