"معالجة" تلوّث الهواء عبر الفلتر

كثيرة هي التشريعات التي وُضعت من أجل الحدّ من التلوّث في لبنان، لكنّ التشريع شيء، والتطبيق شيء آخر. ما الذي تقوله لنا الأرقام عن تلوّث الهواء في لبنان؟

في شمال لبنان، تحديدًا في بلدتيّ فيع وكفرحزير، نسبةُ تلوّث في الهواء تتجاوز المتوسطَ اليومَي الذي حدّدته المبادئ التوجيهية لـ"منظمة الصحة العالمية" على مدار معظم العام. فخلال السنة الماضية، 2022، كشفت دراسة نشرتها منظمة "غرينبيس" هذا التجاوز الحاصل "مرارًا وتكرارًا" ـــ وفق تعبير التقرير ـــ وذلك بعد عامين على نشرها تقريرًا آخر خلُص إلى أن لبنان يشهد واحدًا من أعلى "معدّلات الوفيّات والتكلفة الاقتصادية الناجمَين عن تلوّث الهواء، في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا".

"نحن ندفن أحبتنا بصمت. خسرنا هذا العام عمّو جودات الخوري الذي توفي بالميزوثيليوم (سرطان غلاف الرئة). أمي أصيبت أيضًا بالسرطان. وفي محيطي، لا يمكن أن أفكر بمنزل واحد ليس فيه إصابة واحدة على الأقل بالسرطان"، تقول سمر نجار، وهي واحدة من المتضررين من التلوث البيئي الحاصل في جوار المنطقة الصناعية في شكا، من قرى الطوق -  فيع (قضاء الكورة) في محافظة شمال لبنان.

يعود سبب الضرر إلى الموقع الجغرافي للمنطقة، المقابل لدواخين شركة ترابة "السبع" التي تأسّست في خمسينيات القرن الماضي، وشركة "هولسيم" التي تأسّست عام 1929، والتي تُعنى بأنشطة إنتاج وتسويق الإسمنت الأبيض والرمادي، فضلًا عن الخرسانة الجاهزة. ويعاني أهالي المنطقة من أمراض سرطانية تكثُر الأدلة على ارتباطها بالانبعاثات الناتجة من المعملين. فوفق دراسة "غرينبيس" المنشورة عام 2022، تبيّن إثر رصد استمر لمدة ثلاثة أيام أنّ المتوسّط اليومي لتركيزات الجسيمات من نوع  pm2.5 ظلّ أعلى من المستوى الذي حدّدته "منظمة الصحة العالمية"، ما يشير إلى أرجحية تجاوز المتوسط السنوي للتركيزات هذا المستوى أيضًا. 

"تُسامح الدولة من سرق خزينتها وحفرَ بشكل غير شرعي في أراضٍ غير مصنّفة للمقالع، وتكتفي بوضع فلاتر لدواخين الشركات بدل أن تعاقب من لا يلتزم بالمعايير. كما تبني معلوماتها على أساس مؤشرات التلوث التي تحصل عليها من الشركات، بدلًا من تخصيص أجهزة تراقب من خلالها. طالما أن هناك وزراء وأحزابًا ينتفعون من ملايين الدولارات التي تجنيها هذه الشركات، فعلى خزينة الدولة وصحتنا السلام، ولولا اهتمام "غرينبيس"، فإن التلوث لا دليل عليه". تقول لنا سمر هذا الكلام، بعد الاستفاضة بالحديث عن مشاركتها لسنوات في اعتصامات وحملات إلى جانب أهالي قريتها الذي ينشطون ضد المَعمَلَين، من دون أن يتلقوا أي اهتمام يُذكر من الدولة. تضيف سمر قائلة إن الأمر لم يتوقّف على الإهمال والتجاهل، بل وصل إلى حدّ إزالة ما يُثبت خطر التلوث الناجم عن هذه المعامل، مُمثلًا بالآلات المخصصة لفحص نسب الغبار والغازات السامة.

وتُعرّف "منظمة الصحة العالمية" تلوّثَ الهواء بأنه ذاك الذي يصيب البيئة بأي عامل كيميائي أو فيزيائي أو بيولوجي يغيّر الخصائص الطبيعية للغلاف الجوي. وتُظهر بيانات المنظمة أن الغالبية العظمى من سكان العالم ـــ 99 في المئة تقريبًا ـــ يتنفسون هواءً يتجاوز حدود المبادئ التوجيهية ويحتوي على مستويات مضرّة من الملوّثات. وتعاني البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من أعلى معدلات التعرض لتلوث الهواء.

وقد كشفت الدراسة التي نشرتها "غرينبيس" عام 2020، المذكورة في المقدمة، أن متوسّط العدد التقديري للوفيات المبكرة الناجمة عن تلوّث الهواء بسبب الوقود الأحفوري في لبنان، بلغ 2,700 حالة في العام 2018، أي بمعدّل 4 وفيات لكل 10,000 شخص. وتُعتبر هذه النسبة من أعلى المعدلات في المنطقة إلى جانب تلك الموجودة في مصر.

وبالاضافة الى الفاتورة الصحيّة، يُقدّر التقرير الكلفة الاقتصادية السنوية في لبنان لتلوّث الهواء بـ 1.4 مليار دولار أميركي، أي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، وهو أيضًا من الأعلى في المنطقة إلى جانب ذاك الخاص بمصر.

 ويختلف تأثير تلوّث الهواء على صحة الإنسان وفقًا لثلاثة عوامل: نسبة التعرّض (الكمّية والنوعيّة)، ومدّة التعرّض، والخصائص الوراثية. وقد صنّفت الوكالة العالمية لأبحاث السرطان (IARC) تلوّث الهواء المحيط (ambient air) كمُسرطن فئة أولى (Group 1). ويرتفع لدى المتعرّضين لنسب تلوث مرتفعة، ولمدة طويلة، احتمالُ الموت المبكّر بسبب أمراض مختلفة قد تنتج من هذا التعرض، وهي تشمل السرطان (الرئوي أو أنواع أخرى منه)، وأمراض القلب والشرايين، وتجلط الدم، ونوبات الربو، إلخ. ووفق دراسة عن الجامعة الأميركية في بيروت، شارك فيها الدكتور شربل عفيف، رئيس قسم الكيمياء في كلية العلوم في جامعة القديس يوسف، فلتلوّث الهواء تأثير على الأجنّة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل على وجه التحديد، حيث يرتبط تعرّض الحوامل لتلوث الهواء بارتفاع مخاطر العيوب الخلقية (BD)، وباحتمالات إصابة الأجنة بأمراض في الجهازين العصبي والبولي.

ويؤكّد الدكتور أديب كفوري، الباحث في تلوّث الهواء ورئيس قسم العلوم البيئية في جامعة البلمند، في حديث معنا، أنّ للتلوّث تأثيرًا مباشرًا على النباتات أيضًا، وذلك من خلال الملوّثات الغازية من جهة، والغبار من جهة أخرى. في الحالتين، يسبب التعرض للتلوث ضعفًا في نمو معظم النباتات (البريّة والزراعيّة)، بالإضافة إلى ظهور أمراض مختلفة ناجمة عن هذا الضعف. فالغبار، مثلًا، حين يستقر على أوراق الأشجار، يحدُ من فعالية البناء الضوئي (photosynthesis)، ما يؤثر على غذاء الأشجار وبالتالي نموها. ولتلوث الهواء أيضًا أثر كبير على البيئة ناجم عن الاحتباس الحراري المؤدي إلى تغير المناخ. ولهذا آثار كثيرة وبعيدة المدى على البيئة والتنوّع البيولوجي فيها. 

يُضاف إلى العوامل المذكورة ما يتّصل بزيادة استخدام المولّدات الكهربائية بسبب قصور معامل الكهرباء التابعة للدولة، خصوصًا منذ بدء الأزمة الاقتصادية. وتكمن الخطورة ـــ بحسب الدكتور عفيف ـــ في وجود المولدات داخل الأحياء وانخفاض علو الدواخين، ما يسمح للانبعاثات بالانتشار بين السكان بشكل أسرع، مع ما تحويه من ثاني أوكسيد النتروجين والديوكسين وغيرها من الملوّثات التي  تشكل خطرًا كبيرًا على صحة الإنسان.

"لا يمكن الاكتفاء بوضع  كاتم صوت للمولد أو وضع الفلاتر التي تمنع انبعاث الجزيئات الكبيرة فقط، إذ إن الجزيئات الصغيرة هي الأكثر فتكًا بصحة الإنسان"، يضيف عفيف. 

وكانت وزارة البيئة  قد أصدرت مرسومًا عام 2020 ينطوي على "استراتيجية وطنية لحماية نوعية الهواء". وفي هذا الصدد، يشير عفيف إلى الحاجة إلى مراقبة استخدام المولدات وملاحقة المخالفين، سواء من أصحاب المولدات في الأحياء أو أصحاب المصانع الكبيرة.

تشريعات تفتقد التطبيق

هناك الكثير من التشريعات التي وُضعت من أجل الحد من التلوث بالإجمال، بعضها يخص تلوث الهواء على وجه التحديد. وتضم هذه التشريعات سلسلة من القوانين والمراسيم والقرارات وتعاميم وزارة البيئة لإدارة مشكلة تلوث الهواء في لبنان، بدءًا بالقوانين البيئية كقانون رقم 253 لعام 1993 الذي يجيز للحكومة الانضمام إلى معاهدتي فيينا وبروتوكول مونتريال حول المواد المستنفذة لطبقة الأوزون، مرورًا بالقانون رقم 738 لعام 2006 الذي يجيز للحكومة الانضمام إلى بروتوكول كيوتو بشأن تغير المناخ، وقانون 341 لعام 2001 حول تخفيف تلوث الهواء الناتج من قطاع النقل، والقانون رقم 80 عن الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة لعام 2018 والذي منع في المادة السابعة منه الحرق العشوائي للنفايات الصلبة، وصولًا إلى القانون رقم 78 لعام 2018 حول حماية نوعية الهواء.

أما قرارات وزارة البيئة التي تخص ملوّثات الهواء بشكلٍ مباشر، فمنها القرار رقم 1/52 لسنة 1996 الذي يحدد نسب الملوّثات المسموح بها، والقرار رقم 1/8 سنة 2001 الذي عدّل بعض أرقام الانبعاثات المعممة في القرار 1/52.  أما أحدثها فالقرار رقم 1/16 لعام 2022، الذي يحدد القيم الحدية للانبعاثات المتعلقة بالملوثات الهوائية.

ويعلّق الدكتور كفوري قائلًا إن الوضع القائم إنما يدل على أن القوانين والمراسيم والقرارات لا تزال بعيدة عن التطبيق المحكم. ويضيف قائلًا إن المشكلة تتمثل أيضًا بـ"عدم تحديث بعض القوانين، علمًا بأن التحديث يأخذ وقتًا طويلًا قبل أن يصبح ساري المفعول".

 

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

كلفة الصحة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان

كيف أثّرت الأزمة الاقتصاديّة في لبنان على الصحة الجنسيّة والإنجابيّة؟ نستعرض في هذا التحقيق قصصًا..

مروة صعب
عاملات منزليات في مواجهة الكفالة

معظم العاملات اللواتي يحضرن إلى لبنان ليست لديهنّ فكرة عن ظروف العمل، ويتم بيعهن كذبة من قبل وكلاء..

مروة صعب
كيف تتعرّض النساء في لبنان إلى عنف اقتصادي؟

تفيد بعض الإحصاءات بأن نحو 30% من اللبنانيين اليوم عاطلون عن العمل. ثمّة من يقول إنّ النسبة أقل إذا ما..

مروة صعب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة