نساء في مرمى العنف

%7 فقط من النساء اللواتي تعرّضن للعنف قمن بالتبليغ عنه، بينما امتنعت الغالبية العظمى منهن عن ذلك. ما الذي تقوله لنا سائر الأرقام؟

"أم وبناتها الثلاثة قتلن عمدًا في مغارة!"...

"تحذير: محتوى حساس: اغتصاب.. كنت أعمل كمديرة لمساحة ومكتبة "برزخ" في منطقة الحمراء ضمن بيروت، بين ديسمبر/كانون الأول 2019 ومارس/آذار 2020. ليلة رأس السنة، نظّمنا الحفلة الافتتاحية لـ"برزخ" بالتعاون مع فريق "معازف" و Ballroom Blitz بعنوان "تسقط الـanxiety"، قام بإحيائها 12 موسيقي/ة من المشهد العربي، من بينهم المدعو ب. س. (فلسطيني-أردني) والمدعوة آ. م. (مصرية)، اللذَان قاما بالاعتداء عليّ عبر تخديري رغمًا عني واغتصابي، وذلك بتاريخ 31/12/ 2019"....

" تحذير محتوى حساس: تحرش... فكّرت بهيداك الوقت إني أحكي، بس كثير إشيا منعتني، منها مثلًا إني ما كان رح يكون عندي نفس الدعم من أهلي بوقتها، كان سقفها بيي قلّي "ممنوع بيروت بقى، بدك تتسجلي بصيدا" ومنعني إحكي بحكم المجتمع وشو بدهن يقولوا عنك"...

في كلّ مرّة أقرأ فيها شهادة لناجية من عنف أو تحرّش أو اغتصاب، يحاصرني القلق على مصيري ومصير النساء الأخريات في محيطي. يتملّكني دومًا شعور بأننا لا نملك ضماناتٍ تسمح لنا، كنساء، بالنجاة في المرّة المقبلة. غير أنّ الأمر بات يتجاوز حدود القلق العادي. إذ يكاد اليوم صوتُ أنفاسٍ مخطوفةٍ يرافقُني عند كلّ خروج ليليّ لي من المنزل، ومعه دقاتُ قلب تخفق بقوّة.

دفعني هذا القلق إلى البحث عن أرقام وبيانات حول نسب العنف القائم على النوع الاجتماعي في لبنان، وعن الحلول المطروحة من قبل مؤسسات الدولة وجمعيات المجتمع المدني. لكنّ الأرقام لم تكن مطمئنة بدورها، إذ إن آليات الحماية الاجتماعية بدت متأثرة بالوضع الاقتصادي-الاجتماعي المتدهور في لبنان.

تؤكّد منظمة "أبعاد" أنّ الاتصالات التي تلقتها عبر الخط الساخن أو خطوط المساعدة من نساء تعرّضنَ لعنف، ارتفعت بنسبة %200 في العام 2021 بالمقارنة مع العام 2019، حيث بلغ العدد 3600 اتّصال. يتشابه هذا الرقم مع إحصاءات العام 2020 أيضًا. ومعظم هذه الاتصالات - 86% منها بالتحديد - ورد من السيدات اللواتي تعرّضن للعنف أنفسهنّ. 

يبدو، والحال هذه، أنّ الارتفاع الكبير في عدد الاتصالات وثيق الصلة بما ولّدته الضائقة المعيشيّة الشديدة التي يعاني منها سكان لبنان، لجهة تراكم الضغوط النفسية والسعي الدائم وراء متطلبات الحياة الأساسية باهظة الثمن قياسًا على الأجور التي فقدت %95 من قيمتها.   

أكثر ما يقلق في الأمر هو أنّ %7 فقط من النساء اللواتي تعرّضن للعنف قمن بالتبليغ عنه، بينما امتنعت الغالبية العظمى منهن عن ذلك، وذلك وفق دراسة نفذتها شركة Statics Lebanon Itd في العام 2021 بتكليف من منظمة "أبعاد" تحت عنوان "أولويات النساء والفتيات في لبنان ومدى شعورهنّ بالحاجة إلى الحماية". وقد شملت الدراسة 1800 امرأة وفتاة من الجنسيات اللبنانية والفلسطينية والسورية في مختلف الأراضي اللبنانية، تتراوح أعمارهنّ بين 18 و55 عامًا. 

وتُظهر الأرقام أنّ نصف النساء يلجأن إلى الأهل في حال أردنَ التبليغ عن عنف تعرّضنَ له. أمّا الأصدقاء والمنظمات الدولية، فيحتلّون المرتبة الثانية من حيث نسب التبليغ.

بحثت الدراسة نفسها في الأسباب التي تمنع النساء من التبليغ. وتبيّن أنّ السبب الأكبر يتمثل بغياب الثقة بإمكانية الوصول إلى نتيجة، يليه الخوف من نبذ المجتمع. إذًا، يمكن الاستنتاج - وفق ما تظهر الأرقام - أنّ الدولة والمجتمع يتحملان قدرًا من المسؤولية الناجمة عن استخفافهما في التعاطي مع قضايا المرأة. فمن جهة، يبرز غياب الإجراءات القانونية الفعّالة الهادفة إلى الحدّ من العنف ضد النساء، ومن جهة ثانية، تؤدي الثقافة المجتمعية القائمة على لوم الضحية والتبرير للرجل المُعنّف دورًا في تعزيز هذه الظاهرة.

(في الرسمين البيانيين السابقين، يمكن أن يتخطّى المجموع %100، على اعتبار أن السيدة كان بإمكانها اختيار أكثر من جهة للتبليغ، وأكثر من سبب لعدم التبليغ عن العنف)

ثغرات قانونيّة وضعف في الموارد

تشير اللجنة الدولية للحقوقيين إلى وجود ثغرات بارزة في القوانين اللبنانية المعنيّة بحماية النساء. يشمل ذلك عدم وجود تعريفات واضحة ودقيقة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، وغياب الإجراءات القانونية المراعية للنوع الاجتماعي، والتعامل مع قضايا المرأة باعتبارها قضايا اجتماعية لا جُرمية. 

ومن بين الثغرات أيضًا أن القانون اللبناني لا يذكر ممارسات من قبيل إكراه الفتاة على الزواج أو منعها من الخروج من المنزل، ولا يجرّم الاغتصاب الزوجي إنّما يكتفي بتجريم التّهديد أو استخدام العنف ضد الزوجة. 

كما أن عدم وجود قانون موحّد للأحوال الشّخصية، ولا تعريفٍ واضحٍ وصريحٍ للتحرش الجنسي وكذلك لـ"الأفعال المنافية للحشمة"، فضلًا عن الإحجام عن ذكر التحرش المعنوي، هي من الثغرات القانونية التي تحول دون تقديم الحماية اللازمة للنساء في لبنان.

في العام 2017، كلّفت رئاسة الحكومةُ اللبنانية الهيئةَ الوطنيةَ لشؤون المرأة بمهمّة وضع خطة وطنية بهدف تطبيق القرار 1325 الصادر عن الأمم المتحدة حول المرأة والأمن والسلام. وتهدف هذه الخطة إلى تمكين النساء وتعزيز دورهنّ وسبل حمايتهنّ من العنف بالشراكة مع قوى الأمن الداخلي. أما أبرز أهدافها فتتمثل بوضع تعريفات موحّدة لأنواع العنف ضد المرأة لدى قوى الأمن الداخلي والمحاكم والمستشفيات ومراكز الخدمات، وإنشاء وحدة للنساء داخل قوى الأمن وتدريب العاملين على تلقي الشكاوى عبر الخط الساخن 1745، وتطوير مناهج تدريبية وطنية بشأن التعامل مع العنف المبني على النوع الاجتماعي، وزيادة التوعية في القطاع القضائي.

وتؤكّد منسقة استراتيجيات قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي في منظمة "أبعاد" جيهان أسعيد التماسَ الجمعيات تقدمًا بسيطًا في النتائج المذكورة أعلاه، غير أن التقدم هذا محكوم بالوضع العام للبلد. فعلى سبيل المثال، لم يبدأ العمل على إقامة نظام إحالة وتنسيق بين قوى الأمن والجمعيات، ولم تُنشَأ وحداتٌ داخل قوى الأمن متخصصة بالتدريب على التعاطي مع قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وتشير جيهان إلى أنّ الاستجابة الفورية مقيّدة بظروف المؤسسات الأمنية، كعدم وجود مركبات للسير، أو النقص في عديد العناصر في بعض الأحيان، بالإضافة إلى إضراب الجهاز القضائي الذي يُصدر الأمر بالتحرك جرّاء تلقي الشكاوى.

المجتمع المدني بديلًا عن الدولة؟

في منتصف العام 2021، نشرت الهيئة الوطنية لشؤون المرأة، المرتبطة برئاسة مجلس الوزراء، دراسة حول "المعايير الدنيا لإنشاء وإدارة مراكز إيواء خاصة بالناجيات من العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي". 

وقد تمّ إعداد الدراسة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة العامة، ووزارة العدل والتعليم العالي، والمديرية العامّة لقوى الأمن، وجمعيات "أبعاد" و"كفى" و"عدل بلا حدود" و"حماية" و"مرتا ومريم" و"دار الأمل" و"كاريتاس" و"دار الصداقة" و"الراعي الصالح" و"التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني"، بالإضافة إلى "صندوق الأمم المتحدة للسكان" و"هيئة الأمم المتحدة للمرأة" و"الإسكوا" و"اليونيسف" و"اليونيفيل" و"مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين".

أجرت الدراسة مسحًا لجميع مراكز الإيواء العاملة في لبنان وعددها 16، وتديرها 11 جمعية أهلية ومنظمة نسائية. وتتوزّع خدمات المراكز بين الإقامة المؤقتة والإقامة الدائمة غير المحدّدة بمدة، وتشمل مجالات اجتماعية ونفسية وقانونية، بالإضافة إلى خدمات التأهيل والتمكين بغرض إعادة دمجهنّ في المجتمع.

وقد تبيّن أنّ 9 مراكز تقع قرب مناطق سكنية، وهو ما يجعل الحفاظ على خصوصية الناجيات أمرًا صعبًا. لكن الدراسة تشير إلى أن إقامة مراكز نائية جغرافيًّا ليس بالأمر السهل في بلد صغير كلبنان.

وبرغم أنّ غالبية هذه المراكز تستقبل مختلف فئات النساء (لبنانيات أو غير لبنانيات، مقيمات أو لاجئات، متأهلات أو غير متزوجات، حوامل، ضحيات إتجار بالبشر، إلخ)، إلّا أنّ مركزين فقط يستقبلان كافة المختلفات جندريًا أو المدمنات على المخدرات، وهو ما يجعل النساء تحت هذه الخانة يواجهن صعوبة في إيجاد مراكز تحميهنّ من العنف. كذلك، فإن هذه المراكز تكتفي باستقبال النساء اللواتي يعانين من اضطرابات نفسية بسيطة غير خطيرة. 

وتقول منسقة استراتيجيات قضايا العنف في "أبعاد" جيهان أسعيد إن عدم وجود مركز متخصص بالاضطرابات النفسية الخطيرة مردّه الحاجة إلى فريق نفسي اجتماعي وطبي مؤهل للتعامل مع هكذا الحالات. وتضيف أنّ منظمة "أبعاد" تسعى إلى إنشاء مركز بهذه المواصفات بالشراكة مع وزارتي الشؤون الاجتماعية والصحة، إلا أن السير بالمشروع كان بطيئًا بسبب الوضع العام في البلد.

أمّا في ما يتعلّق بالمراكز المختصة بالمدمنات على المخدرات، فتؤكّد أسعيد أنّ الجمعيات المسيّرة لها تعمل على تطوير آليات عملها لتشمل العنف والإدمان معًا. كذلك، فقد تبيّن أنّ غالبية المراكز تستقبل مثليات الجنس من دون أن تفتح أبوابها أمام العابرات اللواتي قمن بعمليات تصحيح.

وتغطّي هذه المراكز في الغالب جميع حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الاقتصادي، والمعنوي، والجنسي، والجسدي، والإتجار بالبشر.

وتلخّص أسعيد العوائق أمام عمل الجمعيات بانقطاع خطوط الإرسال، وارتفاع كلفة الاتصالات على السيدات في ظل غياب الخطوط الرباعية المجانية، وارتفاع كلفة المواصلات إلى مركز الإيواء أو غيابها كليًّا، بالإضافة إلى الصعوبة التي تواجهها الجمعيات في تسيير عمل المراكز نتيجة ارتفاع كلفة الحاجات الأساسية.

أمام هذه المعوقات المتشعّبة، هل بتنا اليوم بحاجة إلى تعامل مختلفٍ مع قضيّة العنف القائم على النوع الاجتماعي، يضع في الاعتبار الحاجة إلى اتخاذ إجراءات أكثر جذريّة على صعيد العمل التشريعي والمبادرات العمليّة الهادفة إلى حماية النساء، في ظلّ شحّ الإمكانيات وسط الخراب المالي والاقتصادي؟ وما هو السبيل لتفعيل البرامج المُراد منها لجم تزايد حالات العنف ضد النساء، بما يجعلها أكثر قدرة على التعامل مع مسببات هذا العنف بدلًا من الاكتفاء بمعالجة تبعاته؟ الأسئلة هذه برسم الأجهزة الرسميّة المعنيّة على وجه التحديد. 

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من “صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان” Journalists for Human Rights.

                                                                    

الأمان في ميزان المهاجرين إلى لبنان

بحسب تقرير المنظمة الدولية للهجرة، "يعيش نحو 50% من الأجانب في لبنان في ظروف غير آمنة"، إذ فاقمت الأزمة..

فاطمة نعيم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة