"جاء طوفانُ نوحْ!/ المدينةُ تغْرقُ شيئًا.. فشيئًا/ ... ها همُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ/ ... ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ/ ... صاحَ بي سيدُ الفُلكِ قبل حُلولِ السَّكينهْ:/ "انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"/ قلتُ:/ طوبى لمن طعِموا خُبزه/ في الزمانِ الحسنْ/ وأداروا له الظَّهرَ/ يوم المِحَن!/ ولنا المجدُ نحنُ الذينَ وقَفْنا/ (وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)/ نتحدى الدَّمارَ/ ونأوي الى جبلٍ لا يموت/ (يسمونَه الشَّعب!)/ نأبى الفرارَ/ ونأبى النُزوحْ!/ كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ/ كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ/ يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينه/ وردةً من عَطنْ/ هادئًا/ بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ/ وأحَبَّ الوطن!"
ــــ أمل دنقل، "مقابلة خاصة مع ابن نوح"، أوراق الغرفة 8.
ارتبطت بالاستعمار وعواقبه ظاهرة هجرة جسيمة (أو شتات أو منفى أو لجوء، إلى غير ذلك من التسميات التي تبدو مترادفةً للوهلة الأولى)، وعادت لتتصاعد، في منطقتنا، بانهيار تجارب التحرر الوطني وانقلاب أنظمتها عليها وما ارتبط بذلك من قمعٍ وفسادٍ وتمرداتٍ وحروبٍ داخليةٍ وأزماتٍ اقتصاديةٍ عميقةٍ ومقيمة. وربما كانت الهجرة السورية، في العقد ونصف العقد الأخير، هي الأشدّ مأساوية والأضخم عددًا والأسرع تواترًا.
شكّل "الابتعاد عن الوطن الأصلي"، بهذا المعنى، جزءًا بنيويًا من العالم الحديث، ما جعل تناوله في النظرية والعلوم الإنسانية والأدب أمرًا مؤكّدًا، حدّ صيرورته جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته، "أدب المهجر"، وحقلًا دراسيًا في الدراسات الثقافية يتنامى ويستقلّ باطراد. ومن هنا هذه الجولة السريعة المقتضبة، إنّما الضرورية والنقدية، على أبرز من تناولوا هذه الظاهرة.
يُعرّف إدوارد سعيد المنفى، في الجملة الأولى من مقالته الأشهر عن هذا الموضوع "تأملات في المنفى"، بأنّه "الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي". وبذلك نكون مباشرةً، وبصرف النظر عن النوايا، أمام انعدام للتمييز بين أشكال مختلفة كثيرة من الابتعاد عن الوطن، نفيًا أو لجوءًا أو هجرة أو اغترابًا أو حتى مجرد سفر؛ وأمام شحن عاطفي وانفعالي رهيب، نَظرًا إلى ما يولّده النفي من "شَجَن أساسي" لا سبيل إلى التغلّب عليه يجعل مجرد التفكير في المنفى "تجربة فظيعة"، كما يقول سعيد. وبالطبع، فإنّ مثل هذا الشَّحْن العاطفي والانفعالي محقّ غالبًا، لكنّه يحول دون النظر الهادئ والمدقِّق في ضروب مغادرة الوطن وأشكالها.
ثمّة منفيّ ينظر أبعد من حقيقة المنفى المميتة ويندفع باتجاه المستقبل، ومنفيّ لا يهمّه سوى الحاضر وحده
ما يحرص سعيد على إبرازه، علاوةً على هذا الشجن، هو ما ارتبط بالمنفى والمنفيين من "مآثر"، وتحوّله إلى "حافز قوي، بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة". ليصل، مع جورج شتاينر، إلى اعتبار المنفى شرطًا لا بدّ منه للإبداع. وهو ما سيعبّر عنه سعيد بصيغ شتّى، كإبرازه مزايا العيش "بين عالمين" أو التفكير والكتابة "طباقيًا" كعربي وأميركي، وسواها.
ويبدو الأمر كما لو أنَّ سعيد يضفي على الوجود في المنفى ضرْبًا من الأهمية البارادايميّة في رؤيته إلى العالم والعصر، فيغدو ذلك الوجود إطارًا مفهوميًا حاكمًا (بارادايمًا)، ولا يعود ثمّة شيء في الشرط الإنساني إلا وهو استعارة من استعارات هذه التجربة. وهذا يعلي، صراحةً وعلى نحو واضح، من شأن المثقف المنفي والمهاجر واللاجئ على حساب الثقافة الوطنية والمثقفين الوطنيين الذين يعيشون ويبدعون ويقاومون في بلدانهم.
يتوغّل راناجيت غُهَا، مؤسس الدراسات ما بعد الكولونيالية ومجلة "دراسات التابع"، أكثر وأعمق في موضوع المنفى، فيفرّق، في مقالته "بكاء التتري" التي تتناول المنفى عند سعيد وتحلل قصة تشيخوف "في المنفى"، بين منفيّ ومنفيّ، ويجد صدامًا بين موقفين أو بين "نظرتين متنافستين إلى الحياة في شروط المنفى". فثمّة منفيّ ينظر أبعد من حقيقة المنفى المميتة ويأمل بالتئام الشمل وتقرن ذاكرته الماضي إلى بهجة التجربة المعيشة بوصفها القوة التي يحتاجها كي ينهض ويندفع باتجاه المستقبل؛ ومنفيّ لا علاقة له بالماضي ولا بالمستقبل، لا يهمّه سوى الحاضر وحده إلى درجة الإقصاء التام لوجهي الزمن الآخرين، بالتزام مطلق كما لو كان ذلك حقيقة عقيديّة، الأمر الذي يجعل منه بحسب قصة تشيخوف وغُهَا أيضًا "حقيرًا تمامًا"، "خاويًا من الرغبة في أيّ شيء"، "مجرد مادة بهيمية ميتة مثل حجر أو طين".
يستعمل غُهَا، في مقالته "زمن المهاجر"، مفردتي "migrant" و"immigrant" ليميّز بين "المهاجر" و"المهاجر الدائم" على التوالي. ذلك أنّ الأولى تشير إلى شخص يرتحل عن بلده أو مكانه إلى بلد آخر أو مكان آخر، للعمل مثلًا؛ في حين تشير الثانية إلى شخص يهاجر إلى بلد آخر ليعيش هناك على الدوام. بعبارة أخرى، تركّز المفردة الأولى على "الهجرة من"، في حين تركّز الثانية على "الهجرة إلى"، والتداخل كبير ومعقّد، بالطبع، بين الاثنتين.
يشير إعجاز أحمد إلى أنَّ الكُتّاب المنفيين الحقيقيين غالبًا ما يكتبون بالدرجة الأولى لقرّاء ليسوا حاضرين إلا في البلد الذي نُفي منه الكاتب قسرًا
هكذا يُشرع غُهَا بالتفريق بين النظر إلى المهاجر من زاوية البلد الذي مضى إليه والنظر إليه من زاوية البلد الذي مضى منه. فالأول بعيد عن الجماعة ــــ الشعب أو الأمّة أو البلد أو كائنًا ما كان اسم الجماعة ــــ إلى حيث يجد نفسه ضيفًا غير مُرحَّب به في الغالب. ومنذ اللحظة التي يقرع فيها باب مضيفه، يكون ذاك الذي أتى من الخارج. أمّا الثاني فهو، على العكس، ذلك الذي ابتعد عمّا كان مرّة وطنًا؛ عن الأرض الأم أو أرض الآباء. وفي هذه الحالة قد يكون المهاجر، بما في ذلك المضطر الذي تدفعه بعيدًا ظروفٌ أقوى منه، قد نقض العهد وبات عرضةً لأحكامٍ عادةً ما تُدَّخَرُ للمارقين: "لم تعد من هنا؛ لم تَعُدْ واحدًا منا"، وهو ما قد تشير إليه على نحو من الأنحاء خاتمة قصيدة أمل دنقل التي صدّرتُ بها هذه المقالة. كما يفرّق غُهَا، أخيرًا، بين أجيال المهاجرين في البلد المضيف، وإن كان لا يتناول ذلك بالفعل.
أمّا هومي بابا، وهو أيضًا من أعلام دراسات التابع والدراسات ما بعد الكولونيالية، فيَستحضر، في سياق كلامه على رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية"، التعارض الشهير، في شأن الهجرة، بين الأديبين والمفكّرين الرومانيين العظيمين لوكريتيوس وأوفيد، إذ يرى أولهما أنَّ عبور الحدود الثقافية يغيّر جوهر الذات، في حين يرى الثاني أنّ الهجرة لا تغيّر سوى سطح النَّفس وتحافظ على الهوية كما هي تحت أشكالها المتقلّبة.
وبالطبع، فإنّ هومي بابا، داعية الهجنة والبينيّة، يرى أنَّ ذات الاختلاف الثقافي تحيا في الفرجات والسطوح البينيّة بين لوكريتيوس وأوفيد، واقعةً بين سلفيّةٍ "محلية" أو حتى وطنية وقومية، من جهة، وبين تمثّل أو احتواء كوسموبوليتي، من جهة أخرى. وعليها، إذْ تفعل هذا، أن تبتعد عن حلم داعية التمثّل، أو كابوس داعية العنصرية، وعن السلفية أو الوطنية، في "سيرورة متجاذبة من الانشطار والهجنة تَسِمُ التماهي مع اختلاف الثقافة".
غير أنّ إعلاء سعيد وبابا من شأن الهجنة والطباقية والوجود بين العوالم لا يبلغ بهما ما بلغته جوليا كريستيفا، المنظّرة الأدبية البلغارية ــــ الفرنسية، من استهتار بألم المنفى وكلام متسّرع على لذّته واعتبارها الغربة شرطًا حتى للحدّ الأدنى من المعرفة: "كيف يمكن للمرء أن يتفادى الغرق في مستنقع الفهم الشائع، إن لم يكن بأن يغدو غريبًا عن بلاده ولغته وجنسه وهويته". وفي حين يدرك سعيد وبابا كم تُلْقِي الأمّة والوطن بكامل ظلّهما على حالة المنفى، فإنّ كريستيفا لا يبدو أنها تدرك ذلك، الأمر الذي يفسّر جزئيًا تماهياتها المتقلّبة اللاحقة مع صور أمم أخرى، مثل الصين والولايات المتحدة.
يُدين أمين معلوف، على لسان شخصية تمثّله في روايته "التائهون"، بلدًا بأكمله: "ماذا تفعل حين يُخَيّبُ البلدُ أملك؟ لا يعود بلدك!! ... أنا لم أرحل إلى أي مكان، بل لقد رحل البلد"
تحضر "الهجرة" كفكرة أساسية في تمثيل سلمان رشدي لذاته، سواء في رواياته أم في كتاباته الأخرى. وهي تأتي لديه في صيغتين. في الأولى، تُقَدَّم "الهجرة" على أنّها شرط كيانيّ (أنطولوجيّ) للبشرية جمعاء، يطفو فيه المهاجر "مبتعدًا عن التاريخ". وفي الثانية، تحلّ محلّ أسطورة عدم الانتماء الأنطولوجي هذه أسطورة أخرى أكبر، هي أسطورة فَرْط الانتماءات: لا بمعنى عدم الانتماء إلى أيّ مكان، بل بمعنى الانتماء إلى أمكنة كثيرة جدًا. فالأمر لا يقتصر على أنَّ لدى الكاتب جميع الثقافات متاحة له كموارد، للاستهلاك، بل يتعدّاه إلى كونه ينتمي فعليًا إليها كلّها، بفضل عدم انتمائه إلى أيّ منها.
ويعبّر رشدي عن ذلك بإيجاز تام: "القدرة على الرؤية من الداخل والخارج في آن هي شيء عظيم، مسألة طالع حسن لا يمكن للكاتب المحليّ أن يتمتع به". ها هنا أيضًا يتركّز الكلام على خصوبة انفصال المرء عن مجتمعه الأصلي وليس على ألم هذا الانفصال. بل إنَّ رشدي نفسه يخبرنا أنّه رجع فعلًا ليعيش في الباكستان، لكنه غادر لا بسبب المصاعب السياسية أو الضغوط الاقتصادية بل لأنه وجد البلد "خانقًا" ويُحْدِثُ "رهاب الأماكن المغلقة".
لا يخفي رشدي أنَّ منفاه كان اختياريًّا، بخلاف أمين معلوف الذي تبلغ به القحّة، على لسان شخصية تمثّله في روايته "التائهون"، حدّ إدانة بلد بأكمله ونفيه عنه: "حين يُخَيّبُ صديقٌ أملك؟ لا يعود صديقك. ماذا تفعل حين يُخَيّبُ البلدُ أملك؟ لا يعود بلدك!! ... أنا لم أرحل إلى أي مكان، بل لقد رحل البلد". وإذا ما كان ثمة في كلام معلوف شبهة لوعة تبدو في الظاهر صادقة، فإنّها تختلط مع أطنان من المغالطة والأنانية والتشاوف تسمح لمُؤَسْلِب الروايات التاريخية ومُطْلِق المواعظ الكوسموبوليتية السطحية، بما يُعرف عنه من طموح وانصياع للمؤسستين الأدبية والسياسية السائدتين حيث هو، بأن يضع نفسه مقابل بلد بأكمله.
ومع ذلك، يبقى معلوف من أقدر من يحسنون استخدام اللغة لمقاصدهم. ولا يجوز ظلمه بمقارنته قط، وعلى سبيل المثال لا الحصر، برفيق شامي، الحكواتي المسلّي للألمان، ولا بعتيق رحيمي الكاره لشعبه والكاذب في تصوير هذا الشعب للأجانب، فما بالك بكثير من الكتبة المهاجرين واللاجئين الذين يتضوّرون توقًا لأيّ خرقة يلقيها عليهم السيّد من دون أن تؤهلهم مواهبهم ومواردهم الفكرية والأدبية لأن يطمحوا بالانضواء في صفوف ما سبق لتيموثي برينان أن دعاهم، في كتاب له عن رشدي، بـ"الكوسموبوليتانيين العالمثالثيين" الذين يضمّون "أولئك الكتّاب الذين يبدو أنَّ المراجعين الغربيين يختارونهم بوصفهم مفسّري العالم الثالث وأصواته العامّة الموثوقة".
ليس المنفى امتيازًا بل استحالة، ليس مصلحةً بل ألم، بخلاف الهجرة المخطط لها
بخلاف من سبقوا جميعًا، بما فيهم سعيد وغُهَا، يميّز المفكّر والناقد الثقافي الماركسي الهندي إعجاز أحمد، بخصوص المنفى، بين أولئك الذين يعيشون في المتروبولات لأسباب مهنية تخصصية لكنهم يستخدمون كلمات مثل "المنفى" أو "الشتات" كي يشيروا إلى ما هو، في النهاية، مصلحتهم الشخصية ليس غير، وبين أولئك الذين حرمتهم سلطة النظام السياسي أو خوف البطش بهم شخصيًا من العيش في مسقط رأسهم بعكس إرادتهم ورغبتهم.
ليس المنفى، بعبارة أخرى، امتيازًا بل استحالة، ليس مصلحةً بل ألم، بخلاف الهجرة المخطط لها. الهجرة أن تمضي وعينك وقلبك وعقلك على البلد الوجهة، المنفى أن تترك كلّ ذلك في الوطن لا يبرحه. ومن غير الأخلاقي أن نستخدم كيفما اتُّفق كلمة كهذه نُقِشَت فيها قرون من الاستحالة والألم والتشرد.
ينظر أحمد إلى الابتعاد عن الوطن على أنه "ظاهرة واسعة ومعقدة تنطوي على كثير من السير الذاتية الفردية": كثيرون ساقتهم الحاجة، آخرون نخسهم الطموح، سواهم دفعهم الاضطهاد؛ بعضهم لم يعد ثمة وطن يعودون إليه؛ وفي كثير من الحالات ارتبطت الحاجة بالطموح ذلك الارتباط الغامض الذي لا فكاك له. فما من تعميم ثابت، وما من خيار سياسي موحَّد ومحايث بالضرورة لفعل الهجرة بحدّ ذاته. وهو يرفض، حتى في حالة المنفيين السياسيين، تلك "البلاغة المنتفخة التي لا تُصدَّق" في استخدام كلمة "المنفى"، كاستعارة أولًا ثم كلصاقة مخصصة برمّتها لوصف الشرط الوجودي للمهاجر، أيّ مهاجر، ما يجعل "المنفى" شرطًا روحيًا، لا علاقة له بوقائع الحياة المادية، ويجعل المنفى والهجرة والتفضيل المهنيّ التخصصي مترادفات لا يمكن التمييز بينها.
يشير إعجاز أحمد، بصدد كتابة المغتربين عن بلدانهم، إلى أنَّ الكتّاب المنفيين الحقيقيين غالبًا ما يكتبون بالدرجة الأولى لقرّاء غائبين ماديًا عن الشروط المباشرة لإنتاجهم، وليسوا حاضرين إلا في البلد الذي نُفي منه الكاتب قسرًا، ومن هنا كلّ ذلك الحضور الحيّ والمبرّح الذي يحضرونه في خيال الكاتب لأنَّ حقيقتهم الفعلية متشابكة مع معاناة المنفيّ الوجودية ومع فعل الكتابة ذاته.
أمّا "المنفيون" الاختياريون فلا يربطهم مثل هذا الرباط المبرم؛ لأنّهم أحرار في اختيار درجة مرونة ذلك الارتباط، ولأنّ العواقب المادية لهجرتهم تدفعهم بالضرورة إلى علاقة محسوبة أكثر بكثير مع القرّاء الحاضرين ماديًا ضمن بيئة عملهم المُنتَج، الأمر الذي ينعكس في كتابتهم، لا سيما الغياب المتصاعد لحيواتٍ تُعاش في ظلّ الاضطهاد والتقييد ــــ يوميات المقاومة واللياقة والبطولات العاديّة والاستثنائية التي لا حصر لها ــــ وتمكّن أعدادًا هائلة من البشر من أن يضعوا أعينهم في أعين بعضهم بعضًا بمودة وتضامن وظَرْف، من دون شعور بالذنب. ولا يعود يحضر في أدبهم عن بلدانهم سوى وحش السلطة و/ أو وحش الأصولية المتخلفة وما يحف به من لوازم الحجاب والختان والحريم، إلى آخر هذه الصور النمطية التي تحتل كامل المشهد وتحلو للقارئ الغربي فتشجّع على الترجمة.
هكذا يتبدّى ما يُدعى "المنفى" كظاهرة معقّدة تقتضي التدقيق والتمييز الذي ينبغي ألّا يحول دونهما لا "حق السفر والتنقّل" الذي يجب أن يتمتع به البشر جميعًا، ولا شرطٌ رهيب يعيشه البلد الأم. فثمة من لم يهاجروا رغم كل شيء، ومن حقّ هؤلاء تمييزهم، وثمة بين المهاجرين ألوان وأشكال. ليس الوجود خارج الوطن، رغم قسوته، تلك التجربة الواحدة الموحّدة الجديرة بالتعاطف والمديح على طول الخط. ولعلّها تجربة من الضروري، ونحن نتعاطف معها عمومًا، ألّا نخرجها بعيدًا عن مبضع التدقيق والنقد.
لقد سبق لماركس وإنجلز، المنفيان العظيمان هما نفساهما، أن وضعا مؤلّفًا بعنوان "عظماء المنفى" (The Great Men of the Exile)، أو "أبطال المنفى" (The Heroes of the Exile)، هو عبارة عن أهجية مطنبة لأبرز أوجه الشتات الاشتراكي الألماني والأوروبي.