"ضيقةٌ أنتِ يا سوريا
ضيّقةٌ،
حتّى إنّني أرتطمُ بنفْسي مراتٍ كثيرةً في النهارِ الواحدِ،
ولا أجدُ مكانًا أركنُ فيه ظلّي"[ii].
الحياة هادئة في الفيترين ــــ 2016 ــــ هنادي زرقة
لم تكن صورة الحياة وردية، حتى حين كانت بلادًا رحبة. وكان زيف الصورة الطفولية يزداد وضوحًا كلما تراكمت الأسئلة التي تُترك بلا إجابات فوق بعضها منذ سنواتنا الأولى. فكثيرًا ما أخفض الناس أصواتهم كي ينفجروا في الضحك بعدها أو تعلو تدريجًا حتى تغدو صراخًا. وغالبًا ما تمحورت نكاتهم وأحاديثهم السرية حول السلطة والطوائف، فلم أضحك على الأولى ولم أفهم الثانية تمامًا، بيد أنها رسخت في ذاكرتي.
لا أستسيغ أيّ سحر يُسبغ على الماضي ليحوّل كل ما فيه إلى نوستالجيا. وفي الحكاية السورية قد يتدفق هذا السحر إلى ماضينا بنيّة حسنة، لأن هذا الحاضر يحتاج أفيونًا من نوع خاص كي يُحتمل، أو بنية خبيثة تبني قلاعًا من ورق فوق آلام الحاضر ذاته لتصدّر لنا الماضي بوصفه يوطوبيًا.
ليس ما بدأ في العام 2011 سوى استمرار لسيرورة عقود الكتمان والصوت الخفيض، استمرار لـ"صه" التي تكررت على مدار حيواتنا لا يخرقها إلا "حالمون"، وافتتاحية لسوريا أكثر ألمًا وإيلامًا، رأى كثيرون أنه يصعب التشبث بما بقيّ منها. فتلك الصورة التي تغنّى كثيرون بورديتها، كانت جاهزة لتتفتت في أول هبوب، ولم تكفِ الأصباغ الرديئة لتلأم الشروخ العميقة في إطارها. وبأسرع مما كنّا نتوقع، بدأت البلاد تضيق.
"الحياة في مكان آخر"
"لساتك هون؟ ما بدك تسافر!"، كثيرًا ما يكون هذا السؤال بصيغة استهجان أو استنكار. فمنطقيًا، ما الذي قد يدفع أحدًا إلى أن يختار البقاء طواعيةً؟ ربما يبدو وقوفنا راسخين في طابور ممتد لا ينتهي من الراحلين عامًا إثر الآخر، ممن يجدون متسعًا ليحشروا نتف ذكرياتنا وأحلامنا في حقائبهم ويرحلون، ربما يبدو ذلك الوقوف عجزًا أو خيارًا خاطئًا على نحوٍ قطعيّ لكثير منهم.
لا ينطوي وقوفنا على أيّ نوع من ثبات، بل مقاومة لا نعرف لها نهاية. نتشبث بأطراف سفينة تتلاطمها أمواج القلق والخوف من دون أن نرى أي شطآن في الأفق، كأن هذا المحيط يصرخ في وجوهنا أيضًا: "الحياة في مكان آخر". لا سيما ونحن نعي أن الازدحام والضجيج الذي يغمر الشوارع والمقاهي في أجزاء من الليل لم يكن لولا ذاك "المكان الآخر".
سوريا، بالنسبة إلى كثير من الناس، لم تبقَ بلادًا، بل مزيجًا من عالقين ومنتظرين ونهّابيهم
أتحدث إلى أخي بحياد عامل في شركة سفريات، وهو يتحدث إليّ ببرود طبيب سوريّ يبحث عن سبيل سريع إلى السفر لينضم إلى معظم زملائه في ألمانيا، نتحدث كأنها طبيعة الأشياء. أحاول تجنّب هذا الحديث بقدر ما أنخرط فيه، ندرك أننا بعد نحو ثلاثة عقود لن نلتقي سويةً، لأشهر وربما لسنوات، سوى من خلال شاشات تحكمها فترات انقطاع الكهرباء وإنترنت يتوقف عن العمل من غير سابق إنذار، لكننا نؤجل آلام الفراق ودموعه إلى وقتٍ آخر.
فسوريا، بالنسبة إلى كثير من الناس، لم تبقَ بلادًا، بل مزيجًا من عالقين ومنتظرين ونهّابيهم، ومحطة أبديّة لزوار لا يلبثون أن يفتحوا حقائبهم حتى يحزموها مرة أخرى. ومجرد قولنا إننا هنا لأنها بلادنا، ربما يبدو رومانسية مفرطة ووهمًا لمن يرى الحياة كلها بعيدًا.
تحوّلات
"أنتعلُ خفيّ انتظار
وأجلسُ على العتبة
أراقبُ سفرَ الحقائب.
كأنني حقيبة رثّة
نسيها عابرٌ
في محطةٍ
يركلُها المسافرون
ولا يلتفت إليها قطار"[iii].
ألزهايمر ــــ 2014 ــــ هنادي زرقه
أجلس وصديقي الذي ظلت آخر صورة له في ذهني تغشيها دموع لم يعرف عنها شيئًا منذ ما يزيد عن ثلاثة أعوام، أتحدث إليه وكأننا لم نفترق يومًا، وأسأله أكثر ما يمكن أن تؤلمني إجابته بنبرة مبتهجة، وحدي من يدرك مدى تصنعها: "خلصت أمورك؟ إيمت رح ترجع على ألمانيا؟"، ويزداد مزاحي خشونةً مع إجابته على كل سؤال.
هذا كان الحلم، أما الواقع فإننا لا نتحدث كثيرًا منذ رحيله، لكننا نحرص في كل حديث أن ندفع مزاحنا إلى أقصاه وأقساه، لعلنا لا ننتبه إلى أننا لم نتحدث منذ وقت طويل. نكاد نهمس لبعضنا بعض: "لا تزال صديقي، لم يتغير أيّ شيء"، بيد أن العبارة تضيع ولا نقولها.
كثيرًا ما أتعامل مع ذاكرتي باستخفاف، فعلى الرغم من أنّي أميل إلى النسيان، أتقصده في أحيان كثيرة. وغالبًا لا فائدة تُرجى، بالنسبة إلينا هنا، من أن نشحذ ذاكرتنا، إلا إذا أردنا أن نغرق في بكائيات مجانية أو أن نحوّل هذه الذاكرة إلى حقائب سفر كبيرة، لنكدّس فيها أجساد الراحلين وذكرياتنا معهم جنبًا إلى جنب مع أحلامنا ومشاريعنا الصغيرة التي لم تكتمل.
أفكّر في ما سيكون عليه حالي بعد عشرين عامًا أو أكثر. هل سأندم لأنني بقيتُ، لأنني لم أبذل أيّ جهد للفرار بعيدًا؟
تتحوّل جميع المفاهيم التي يخلقها البشر وتكرسها قصص أطفالهم، أملًا في نجاة من حياة أقسى، إلى أعباء لا تقوى أيّ أكتاف على تحمّلها. هنا لدينا صداقة ممددة بالماء، حب مكسور بالثلج، ورفقة لا تنطوي على أيّ أسئلة حول قادم الأيام، دع عنك السنوات. كلنا هنا نتحوّل أحيانًا إلى محطات للزائرين من أنحاء العالم، كثيرًا ما ندركهم مما يلبسون أو من إيماءات مسترخية تبدو غريبة عنّا تمامًا. صداقاتنا لا تحتمل أسئلة عن مستقبل ممكن هنا. هنا نحمي أنفسنا بنسخٍ مخففة من كل شيء، وكثيرًا ما ننجو بضربٍ من ضروب النسيان.
غدًا في الصباح
أنفث دخاني آخر الليل، حين يهدأ ضجيج العالم حولي ويتصاعد في رأسي كل ما توارى خلف هذا الضجيج. أفكر في ما سيكون عليه حالي بعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا أو أكثر. هل سأندم لأنني بقيتُ، لأنني لم أبذل أيّ جهد للفرار بعيدًا؟ أو هل ستضيق سوريا أكثر وألجأ إلى الفرار معهم؟ أسكّن نفسي أحيانًا بترداد أننا في عالم مضطرب إلى أقصى الحدود، ومع أنني اعتدت هذا القلق المستمر، أكاد أقول لنفسي قبل النوم: "أعرف هذا القلق، ولستُ مستعدًا لأنواع جديدة منه".
غدًا في الصباح، أستيقظ كما لو أنني في أيّ بقعة أكثر "عادية" من هذا العالم الواسع. أتجاهل ما استطعت من يوميات بلاد تضيق بنا، علّني أجد سبيلًا لأهوّن على نفسي، وأقول: "سوف نجد حلًا ما".
أوضب أغراضي في تنظيم نفتقده في كل ما نعيه من حولنا، أتفقدها مرة أخرى قبل أن أخرج إلى المقهى كي أعمل، وأمضي لأحاول أن أرتب طوب أحلامي فوق بعضه، وأتصوّر أن هذا الترتيب بالصعوبة نفسها أينما كنتُ. أذكّر نفسي بمقولة غرامشي التي استعارها من الروائي الفرنسي رومان رولان: "تشاؤم الفكر، تفاؤل الإرادة".
غدًا في الصباح، أبتسم وأرى ابتسامات عالقة مترددة. ربما لم نعد نرى في المكان نفسه بلادًا تشبه البلاد، لكن الابتسامات ترتسم وتهوّن علينا هذا الوجود، ويبذل أصحابها ما في وسعهم لتكون بلادًا.
"أبدًا سنقودُكِ إلى الينابيع
أبدًا سنجفّف دمَكِ بأصابعنا الخضراء
ودموعَكِ بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقُّ أمامَك الدروب
ولن نتركَكِ تضيعين يا سورية
كأغنيةٍ في صحراء"[iv].
سوريا ــــ الرياض الصالح الحسين
[i] العنوان من قصيدة للشاعر العراقي سعدي يوسف بعنوان "حفيد امريءِ القيسِ".
[ii] هنادي زرقه، الحياة هادئة في الفيترين، (بيروت: دار النهضة العربية، 2016)، ص28.
[iii] هنادي زرقه، ألزهايمر، (بيروت: دار نلسن، 2014)، ص17-18.
[iv] رياض الصالح الحسين، بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس، (دمشق: دار الجرمق، 1982)، ص21-22.