في موازنة 2023 السوريّة: نظام ضريبي للأثرياء

أدى دعم دخل رأس المال والاعتماد على ضرائب الاستهلاك غير المباشرة إلى خلق نظام ضريبي تنازلي بشكل متزايد في سوريا، مع وقوع أعباء أكبر على عاتق محدودي الدخل.

الفقر، والبطالة، والخدمات العامة، والدعم، والتضخم، وغيرها من المؤشرات التي يلجأ إليها الاقتصاديون لتحليل اقتصاد أي دولة، باتت في سوريا كلمات يتذمر منها يوميًا معظم السوريين، خصوصًا أولئك الذين بالكاد يمكّنهم دخلهم من البقاء على قيد الحياة، في الوقت الذي تظهر فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل أكثر حدّة. لا حاجة هنا إلى أرقام أو إحصائيات لإثبات أن الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون عوزًا في سوريا.

أمام هذا الواقع، أين هي العدالة الاجتماعية التي تكررت الإشارة إليها خمس مرات في دستور 2012؟

بالإضافة إلى الإشارة إلى العدالة الاجتماعية في المقدمة، فقد نصّ عليها القَسَم الدستوري الذي يؤديه أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، وكانت ضمن المبادئ الاقتصادية باعتبارها وسيلة لتلبية حاجات المجتمع الأساسية، حيث جاء في المادة 13 من الدستور أن السياسة الاقتصادية للدولة تهدف إلى "تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية...". وجاءت هدفًا للنظام الضريبي بموجب المادة 18 التي نصت على أن "تكون الضرائب تصاعدية بما يحقق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية".

هل صُمّمت موازنة 2023 تحقيقًا للعدالة الاجتماعية التي نص الدستور عليها؟

في كتابه، ثروة الأمم (1776)، اعتبر آدم سميث أن أي نظام ضريبي جيد يجب أن يقوم على أربعة مبادئ، أولها العدالة، أي أن تتناسب الضرائب مع الدخل أو القدرة على الدفع، وتأخذ بالتالي بالاعتبار ظروف دافعي الضرائب وحاجاتهم الشخصية والعائلية، وهو ما لحظه الدستور السوري عندما نص على أن "يقوم النظام الضريبي على أسس عادلة، وتكون الضرائب تصاعدية بما يحقق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية".

لكن هل يتفق التطبيق العملي للنظام الضريبي مع الدستور السوري؟

إن ذكر "العدالة الاجتماعية" خمس مرّات في دستور 2012، يؤكد على أهمية العدالة الاجتماعية باعتبارها وسيلة وهدف، ينبغي أن تتوافق معها الخطط والسياسات والقرارات كافة.

يفترض، والحال هذه، أن تهدف الموازنة السنوية إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من "العدالة الاجتماعية" التي نص عليها الدستور، على اعتبار أن الموازنة تمثل "الخطة المالية الأساسية السنوية".

النظام الضريبي السوري يقوم على "الضريبة التنازلية" بالنسبة للفئات الأعلى دخلًا، ويثقل كاهل الفئات الأكثر فقرًا

ضرائب تنازلية

وفقًا للبيان المالي للحكومة السورية لعام 2023، بلغ إجمالي الاعتمادات نحو 16.550 تريليون ل. س.، مستهدفة معدل نمو اقتصادي حقيقي بـ 2.4% ومعدل تضخم سنوي 104.7%. فما هي مصادر تمويل الموازنة، ومن سيمولها؟

تعتمد الدول في العادة على الضرائب كمكون رئيسي لتمويل إنفاقها العام. وفي الموازنة، تقسم الضرائب إلى نوعين. أولها ضرائب مباشرة تُفرض على الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها الأفراد والشركات وأصحاب المهن والمشروعات، وتعرف بـ "ضريبة دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية"، كما تُفرض على الأفراد "الموظفين" ضريبة الرواتب والأجور، وعلى الثروة "ضريبة على رؤوس الأموال المتداولة وضريبة ريع العقارات".

أما النوع الثاني، أي الضرائب غير المباشرة، فتُفرض عند الإنفاق (أهمها رسم الإنفاق الاستهلاكي والرسوم الجمركية)، حيث يدفع كل فرد الضريبة نفسها بغض النظر عن مستوى دخله. وبما أن الفئات الأكثر دخلًا هي الأعلى إنفاقًا، فإن هذا يعني أن العبء الضريبي على الفئات الأقل دخلًا أعلى مما هو على النخب المالية وأصحاب الثروات. لذلك، توصف هذه الضريبة بالضريبة التنازلية، ولا تخدم فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ إنها لا تميز بين غني وفقير.

انتكاسات دستورية

يكشف تحليل بنود الإيرادات الضريبية في الموازنة العامة للدولة السورية عن العديد من الانتكاسات الدستورية، أهمها:

الانتكاسة الأولى: الضرائب تنازلية. فعلى خلاف ما نص الدستور لجهة أن الضرائب تصاعدية، شكلّت الضرائب والرسوم غير المباشرة نحو 51.43% من الإيرادات الضريبية. ونظرًا إلى أن هذه الضرائب تُفرض على الاستهلاك، فإن ذلك يعني أن النظام الضريبي السوري يقوم على "الضريبة التنازلية" بالنسبة للفئات الأعلى دخلًا، ويثقل كاهل الفئات الأكثر فقرًا. بالتالي، فإن المبدأ الأول من مبادئ النظام الضريبي الجيد وفقًا لسميث، أي العدالة، لم يتحقق.

الانتكاسة الثانية تتمثل في سعي الحكومة إلى زيادة إيراداتها من جيوب الموظفين، من دون إيلاء أهمية تذكر للإيرادات الضريبية الناتجة من الثروة (ضرائب رؤوس الأموال وريع العقارات)، حيث شكلت ضرائب الرواتب والأجور ما يقارب 12% (11.96%) من الضرائب المباشرة، في حين أن ضريبة الأرباح الرأسمالية لم تتجاوز 3% (2.62%)، 

هكذا، يدفع الموظفون والموظفات الذين لا يملكون سوى قوة عملهم خمسة أضعاف ما يدفعه أصحاب رؤوس الأموال والممتلكات الذين تقيّم ثرواتهم بتريليونات الليرات السورية. وهذا لا يتوافق أيضًا مع تحقق شرط العدالة لجهة ضرورة تناسب الضريبة مع القدرة على الدفع. علمًا بأن الأولى ازدادت بنسبة 110% عن العام 2022، فيما انخفضت الثانية بما يقارب 20% (19.30%).

تكشف الصورة الكلية للإيرادات الضريبية في موازنة 2023 عن توجُّه الفلسفة المالية للحكومة، ومفاد الأخير أن النظام الضريبي في سوريا هو نظام للأثرياء، يستهدف إعادة توزيع الدخول وتراكم الثروة لصالح الطبقة الأعلى دخلًا، في ظل قطاع خاص يترّبح من أنشطة طفيلية وتجاوزات ضريبية وفساد وتهرب ضريبي. فالمشكلة لا تكمن فقط في غياب المعايير، بل في عدم إعمالها بشكل فعال. وبرغم قلة عدد فاحشي الثراء الذين يستحوذون على الجزء الأكبر من الدخل القومي ويمثلون بالتالي حصة كبيرة من الإيرادات الضريبية المباشرة المحتملة، إلا أن أعدادهم وأي إحصائيات حول ثرواتهم ما زالت مغيبة.

ما يعنيه كل ذلك، هو أن موازنة 2023 أخفقت في تحقيق العدالة الاجتماعية المُستهدفة من خلال النظام الضريبي الحالي الذي يُفترض "نظريًا" أنه نظام قائم على الضرائب التصاعدية. وقد أدى دعم دخل رأس المال والاعتماد على ضرائب الاستهلاك غير المباشرة إلى خلق نظام ضريبي تنازلي بشكل متزايد في سوريا، مع وقوع أعباء أكبر على عاتق  محدودي الدخل. فوجود نظام مبني على فرض الضرائب غير المباشرة يخلق ظلمًا اقتصاديًا كبيرًا، وعبئًا غير متناسب على الفقراء.

عودة اللاجئين السوريين من تركيا: قضايا مقلقة

قضيتان على درجة عالية من الخطورة أثارهما مجلس الأمن القومي التركي في اجتماعه الأخير: شروط العودة..

رشا سيروب
تكرُّر النزاع في سوريا: السياسات الحكومية مسؤولة

لا يعني استمرار الحكومة السورية بسياساتها الحالية سوى التسبّب بتهديد التماسك المجتمعي، أي، باختصار،..

رشا سيروب
المحرّك الخفي لكبح جماح التضخم في سوريا

غالبًا ما يتفاعل التضخّم المرتفع مع الحروب والصراعات. لكنّ هذا لا يعني أن السياسات الاقتصادية منه براء...

رشا سيروب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة