من شوارع القدس إلى أعلى بركانٍ نشطٍ في العالم

حين وصلت سجى إلى القمة، ذرفت دموع فرحٍ عظيم وهي ترى دخان البركان يتصاعد من قلب الفوّهة. هذه النهايات لا تمرّ عبثًا على عقل سجى: "فالجبال حقًا لديها طريقة لجعل مشاكلنا تبدو غير مهمة. حين ترى الأرض من فوق، تصغر الدنيا بعينيك".

في طريقها الطويل، لن يبزُغ فجرٌ واحدٌ فحسب. كانت سجى تعي ذلك جيدًا، فنفَضَت عن قلبها "رهبة البدايات"، ثم لحقت بصوت الحلم في سماء الأمنيات الرحبة، إلى هناك... حيث رأس "النصر" البارز بين غيمات كليمنجارو.

نحو أعلى قمةٍ في أفريقيا كانت تمضي، وتنظر إلى حذائها فتطمئنّ إلى أنه لن يخونها عند مُفترق. كانت سجى طوال الوقت ترسل أمنياتها إلى الله "كي لا تُبعثِرَ خطةَ الصعود عاصفة". ولما وصلَت، أيقنتْ أنه "لولا الحلم، ما وُلدت حقيقة".

بدأت الحكاية عام 2018، عندما تعثّرت سجى أبو عيشة، الحاصلة على بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية في القدس، بِقدَرِها داخل مجموعةٍ افتراضية لهُواة تسلّق الجبال، فأرسلت إليها طلب انضمامٍ، وتحدّث نفسها ضاحكةً: "لم لا؟ لنعقد اتفاقيةً جديدة، ولو مع جبل".

داخل المجموعة فوجئت بحديثٍ جدّيٍ بين بعض الأعضاء حول نيتهم تسلق أعلى قمم أفريقيا، ناحية شمالي شرق تنزانيا، حيث يشمخ جبل كليمنجارو قرب الحدود الكينية. هنا ألقت خلف ظهرها كل الأسئلة واللاءات: "لعل للصعود نحو المجهول لذّة لا يعرفها من يمضي في خطٍ ثابت"، قالت لنفسها. 

قبل الرحلة، خضعت سجى للعديد من التدريبات الرياضية. وحين جاء اليوم الموعود، حملت في حقيبتها حذاء الرياضة والملابس المخصصة للتسلق، والخيمة المحمولة، والبوصلة، وحزام الأمان، وحبل التسلق والحلقات المعدنية الخاصة به، وأدوات الإسعاف الأولية، وبعض الفؤوس الصغيرة، وكشاف الإضاءة، وماءً وطعامًا، والكثير من العزم. ودّعت أهلها، واستقبلت وجهتها نحو تنزانيا، حيث ستتسلق قمم الجبل الثلاث: "جيلمان" التي تقع على ارتفاع 5685 مترًا، و"ستلا" الواقعة على ارتفاع 5756 مترًا، و"أهورو" على ارتفاع 5895 مترًا.

كانت الوجهة النهائية "أهورو". إلى هناك كانت تتجه أنظار الفريق، حتى وصل أعضاؤه إلى مخيم "كيبو" - الأخير قبل القمة - بعد محطات ومخيمات عدة، كلها على ارتفاعاتٍ شاهقة. تذكُرُ سجى ذلك التاريخ جيدًا، العاشر من نيسان/ أبريل 2018. كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل حين دخلت غرفة المبيت وتناولت طعامها بينما أوصالُها ترتعد بردًا. تعالت على أوجاع جسدها، وراحت تحسب ما مضى من وقت. "لم يتبقَّ الكثير"، قالت مشجعة نفسها على الوصول إلى ختام التجربة الوعرة في جو الذي لا يشبه جوّ القدس أبدًا.

أُطلق النداء لحظتها، وبدأ المسير. ستة أيام كاملة في الطريق نحو الأعلى، اعتلت بعدها القمة وداهمها شعور فريد: "لقد فعلتُها حقًا". تفتح سجى دفتر مذكراتها لتروي قصصًا عن الصعود: "كنا منهكين حين وصلنا القمة الأولى، هناك من اكتفى وقرّر العودة إلى الديار، وهناك من ردّ بأنه سيواصل حتى النهاية. أنا بقيت صامتة، لكن عقلي لم يأخذني أبدًا إلى فكرة العودة. كل ما كنتُ أسمعه كان يحثني على المواصلة".

رفاقُ الطريق إلى القمة لم يكونوا بالنسبة لسجى "معرفة وقتٍ" فحسب، بل بدوا أقرب إلى عائلة تدعم وتدفع. عاشت معهم ليالٍ تخللها فرحٌ وتعب. وكانوا "بقعة ضوئها" في الطريق الوعر.

الجبال حقًا لديها طريقة لجعل مشاكلنا تبدو غير مهمة.. حين ترى الأرض من فوق، تصغر الدنيا بعينيك

لم تنته الحكاية على قمة "كليمنجارو". كانت علامةُ النصر المرفوعة هناك بمثابة صافرة انطلاقٍ لطموح سجى في التفرّد. هكذا تكرّرت التجربة: الوجهة التالية هي جبل "كوتوباكسي"، الأكثر وعورةً وقسوة.

في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وصلت سجى إلى قمة الجبل في الإكوادور، حيث أعلى بركان نشط في العالم. "لقد تسلقتُ من المخيم الأخير للقمة مسافة 1000 متر عمودي. بدا الأمر شبه مستحيل نظرًا لانحدار الجبل الشديد واحتمالات التزحلق العالية"، تقول.

قبل بلوغ القمة كانت تعاني من قلة الأكسجين، لكن التراجع لم يكُن احتمالًا في حساباتها. كانت كلّ ثلاث خطوات بالتمام تقف لتأخذ نفسًا عميقًا، ثم تكمل المسير. ووسط هذا كله كانت تتوارد إلى مسامعها الأخبار بأن عددًا من أعضاء الفريق توقفوا عن الصعود. وكانت بصوتٍ حازمٍ تطلب من الجميع عدم تثبيط عزيمة الباقين.: "القمة هناك انظروا، سنلوّح معًا فوقها، ونرفع شارة النصر".

وصلت سجى إلى القمة، وذرفت دموع فرحٍ عظيم وهي ترى دخان البركان يتصاعد من قلب الفوّهة. هذه النهايات لا تمرّ عبثًا على عقل سجى: "فالجبال حقًا لديها طريقة لجعل مشاكلنا تبدو غير مهمة. حين ترى الأرض من فوق، تصغر الدنيا بعينيك".

كانت سجى بعد كل "نصرٍ" تعاهد نفسها بآخر، فوق قمةٍ أخرى. غير أن ما حدث في "آرارات"، أعلى قمة في تركيا (5136 مترًا فوق سطح البحر)، كان مختلفًا. فأثناء المسير، وقفت غيمة كثيفة في وجه المتسلقين الذين انتظموا في صفوفٍ متتالية، يغرسون أحذيتهم في الثلج، وتشاركهم عصيُّ التسلق، فيما حبات البرد تتساقط فوق رؤوسهم بعنف. سمعت سجى قائد الفريق الكردي يقول بالتركية: "خطر". وحين توقف الجميع، أخذت الهمهمات تتعالي من حولها، بين مؤيدٍ لفكرة النزول ومعارض لها. لكنها هذه المرّة صوتَت للنزول، فـ"الروح غالية، ولا داعي للمغامرة في ظل رؤيةٍ معدومة".

*     *     *     *

سجى تحبّ الركض. تجد نفسها فيه وتخوضه في عوالمها الداخلية. ركضت في شوارع القدس كثيرًا على وقع أغاني حمزة نمرة، ولمسافات تفوق 30 كيلومترًا في يومٍ واحد، تمرّ خلالها ببيت حنينا، وشعفاط، والتلة الفرنسية، والشيخ جراح، والمصرارة، وباب العامود، وباب جديد، ومأمن الله، ومحطة القطار الأولى، وبيت صفافا، والمالحة، قبل أن تعود إلى نقطة الانطلاق.

وهي متعدّدة المواهب؛ غطست تحت الماء ولعبت الكاراتيه. مارست اليوغا، وأخيرًا تسلّقت الجبال. كان والدها سيّد قلبها الأول، وكان يشجعها بكل ما أوتي من حب. رحل عن الدنيا لكنه ظل في فؤادها، تهديه كل انتصاراتها: "شفت بنتك يابا قديشها شجاعة".

بعد كلّ تسلقٍ تعود سجى إلى البيت فترتمي على سريرها، وتطلق تنهيدةً قوية كما لو كانت في ساحة حرب. تدخل إليها والدتها مبتسمة، وتسألها: "يلا احكي شو صار؟ شو عملتي؟"، فتبدأ بحديث لا ينتهي عن كل لحظةٍ عاشتها بين الصخور. تمتنُّ سجى لوالدتها التي لم تفارقها لحظة في الجبال. تغمض عينيها في كل غفوة تعبٍ لتجدها تمسح على رأسها وتخبرها: "حبيبتي يا إمي أنتِ قوية يلا".

في مسيرة سجى، لحظاتُ الفرح مع الجنون عديدة. كلُّ خطوةٍ لها كانت بمثابة درس. لقد منحها الجبل ما لم يعطها إياه شيء آخر. اليوم، باتت قيمةُ الصبر لديها مضاعفة، وما زالت هذه القيمةُ في ارتفاع... كلّما خاضت تجربةً جديدة.


* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج بتنظيم من الجامعة الأميركية في بيروت ودعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي" International Media Support
* تُنشر بالتزامن مع مؤسسة "فلسطينيات"