ماركس يأخذ بيدي

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأزور ألمانيا، لكن مصادفةً قادتني إلى برلين، وأردت أن أزور تمثالي ماركس وأنجلز. مشيت كما لو كنت ذاهبة إلى موعد غرامي. مشاعر كثيرة مرتبكة تمور في داخلي، لا أعرف كيف أصفها. خشوع أم ارتباك؟ مشاعر أشبه بمشاعر المتدينين وهم يزورون أماكنهم المقدسة.

كنتُ في العاشرة حين سمعت أول مرة بكلمة "شيوعي". قيل أمامي إنَّ زوج قريبتي حُبِسَ لأنّه حزبيّ شيوعي. لم تكن لي معرفة بالأحزاب، ما خلا الحزب الواحد الذي يتردد اسمه في كل مكان: "حزب البعث العربي الاشتراكي".

في الثانية عشرة من عمري، وفي الاستراحة بين حصتين، تجمهر عدد من الطلاب حول زميلة كانت تبكي بلا توقف. ولدى سؤالها عن سبب بكاها، أجابت بمرارة: "اعتقلوا أخي".

 كانت كلمة "اعتقال"، أيضًا، جديدة على معجمي. وكان أخو الزميلة قد اعتُقل، أيضًا، لأنه شيوعي. إنّهم يعتقلون الشيوعيين، إذًا.

في سنة لاحقة، اعتُقل كُثر من قريتي بتهمة الانتماء إلى "حزب العمل الشيوعي". في تلك السنة درسنا في مادة التربية القومية أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" في سوريا. وسوف أنتبه أنّ أحد مكونات تلك الجبهة هو "الحزب الشيوعي السوري"، ولن أفهم الفارق بين "الحزب الشيوعي السوري" و"حزب العمل الشيوعي"، وسوف يبقى الأمر طويلًا غائمًا في رأسي الصغير. 

كانت مكتبة القرية تعجُّ بروايات "دار التقدم" الروسية رخيصة الثمن. وكان صاحب المكتبة قد اعتُقل وحلّ محلّه أخوه ذو الميول اليسارية أيضًا. ورحتُ أوفّر من مصروفي الضئيل كي أشتري كتبًا تتحدث عن الثورة الروسية والحزب الشيوعي السوفييتي وانتصاراته والاشتراكية. ووقعتُ في ارتباك جديد: كيف يُسمح لهذه الكتب في مكتباتنا في حين يعتقلون من ينتمي إلى حزب شيوعي؟

سافر أخي، في تلك السنة نفسها، إلى الاتحاد السوفييتي. وحين عاد أخذ يحدثنا عن الكولخوزات (المزارع الجماعية) والاشتراكية ولينين وماركس. وترددت مفردات مثل "البروليتاريا" و"كومونة باريس" لأول مرة في بيتنا الفقير. مفردات كثيرة بدأت تدير رأسي وتحول دون انتمائي إلى الحزب القائد.

لم تكن لدينا مكتبة في البيت، لكن أخوتي لم يبخلوا علي بالمجلات في طفولتي، وبالكتب والروايات في مراهقتي، حتى إنني قرأت روايات عبد الرحمن منيف وحنا مينة وحيدر حيدر وصنع الله ابراهيم وغوركي وإيتماتوف وريجيس دوبريه وغوغول وماركيز وروايات لهنري جيمس ولويس سينكلر، من إصدارات وزارة الثقافة آنذاك، ولم أكن بلغتُ الخامسة عشر.

في السادسة عشر قام مدرس شيوعي، أخٌ لمعتقل سياسي، بتدريسنا مادة اللغة العربية. وفي مرّة كلّفنا بكتابة موضوع عن الفقر. وحين لفت موضوعي انتباهه، سألني: "هل سمعتِ بماركس؟"

هكذا، كان عليَّ أن أبحث عن ماركس. لكن ذلك لم يكن يسيرًا في تلك الفترة. اعتقدتُ أنَّ بيوت المعتقلين لا بدّ أن تكون فيها مكتبات ضخمة أجد فيها ضالتي. لكني وجدت بيوتا بائسة تئن تحت وطأة اعتقال آبائها وأبنائها، فلا تكاد تتدبر أمر العيش.

في السنة التالية، قام مدرس شيوعي آخر بتدريسنا اللغة العربية. كان هو الآخر مدرسًا كفوءًا. ولعلَّ جزءًا كبيرًا من ولعي باللغة العربية يعود إلى ذينك المدرّسين اللذين أطلقا خيالنا، وتحدّثا عن كتّاب وشعراء وروائيين من خارج المنهاج المدرسي، ودفعانا، من دون أن يتقصدا ذلك، إلى مزيد من البحث والاطلاع حتى نفوز بعلامات جيدة في مواضيع التعبير. كان شائعًا أنَّ المدرسين الشيوعيين من أكثر المعلمين أخلاقًا وكفاءة.

أنهيت الثانوية. خيّبتُ أمل أمي، ولم أحصل على ما يكفي لدراسة الطب البشري. ولم يوافق أخوتي آنذاك على أن أدرس الأدب الإنجليزي كما كنت أحلم. كنّا فقراء، والدولة غير ملزمة بتوظيف خريجي كليات الآداب. وأهلي يريدون أن أكون موظفة. وهكذا درست الهندسة الزراعية التي لا أحب.

حين اندلعت انتفاضات "الربيع العربي"، رأيت شبحًا كالذي تحدث عنه ماركس يحوم فوق البلدان العربية، لكنّ ما تلا كان مخيبًا للآمال

إنّها الجامعة! إنّه معرض الكتاب! ما كان عقلي ليحتمل رؤية هذه الكتب الكثيرة. كنتُ أقرأ ما يقع بين يدي. الآن، بات بإمكاني أن أختار ما أحب.

كنا ثلة من الشباب الذين يكتبون الشعر وتوقفنا عند جناح في معرض الكتاب. في هذا الجناح تعرّفت إلى ثائر ديب (الكاتب والمترجم الخارج من المعتقل ويعتاش من إقامة معارض الكتب). قدّم لنا مشورته في قراءة الكتب، فنصح بعض أصدقائي بقراءة أنسي الحاج ووديع سعادة وأدونيس. أمّا أنا، فالتفت إليَّ وأعطاني كتاب "كلّ ما هو صلب يتحول الى أثير"  لمارشال بيرمان. لم أفهم الكثير. لم أكن قد تجاوزت التاسعة عشر من عمري. وشتمت ثائر ديب في سري: لمَ نصح أصدقائي بمجموعات شعرية ونصحني بهذا الكتاب اللعين؟ ولسوف ينصحني لاحقًا بقراءة كثير من الكتب الفكرية، الماركسية وسواها، من دون الشعر والأدب! سوف أقرأ "البيان الشيوعي"، وتعلق جملته الأولى في مخيلتي إلى الأبد، "شبح يتهدد أوروبا"، وأرى فيه كثيرًا من الشعر. وسوف أقرأ "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، وأجد فيه تحفة أدبية وفنية خالصة. وسوف أقع في غرام ماركس.

ثمّ جاء عام 2005، واستعان بي ثائر ديب في تنضيد ترجمته لكتاب فرانسيس وين "رأس المال: سيرة كتاب". لم أكن قد تجاوزت تنضيد الصفحات العشر حين وصلت إلى الفقرة التي تتحدث عن فقر ماركس المدقع وبيته ذي الغرفتين، واحدة يعيش فيها مع زوجته وأولاده ومدبرة منزله، والأخرى يكتب فيها. انفجرت في البكاء وخرجت إلى الشرفة أدخن. تذكرت طفولتي: ستة أطفال وأمي وأبي نقطن غرفة واحدة ننام فيها ونستحم ونطبخ. كانت أمي تسخّن الماء على الحطب لنستحم واحدًا إثر آخر. كنّا ننتظر في الخارج, لا شرفة تقينا البرد في الشتاء ولا الحر في الصيف. وحين نلت جائزة الماغوط للأدباء الشباب، قلتُ لأمي: "سوف أعيد ترميم البيت المتهالك، معقول شاعرة تعيش بهيك بيت!"، ردّت أمي: "بيقولوا هيك بيت جاب هيك شاعرة". كانت تلك من أشد الجمل وقعًا في حياتي.

لم يكن لدى ماركس المال كي يعيش. كان صديقه أنجلز يعينه من أموال أبيه الصناعي. أنفجرُ في البكاء ثانية. أتذكر حين كنت أطلب من أمي في نهاية الشهر نقود الحافلة كي أذهب إلى الجامعة، فتقول: "خذي من أبي حسن صاحب المتجر مئة ليرة وحين أقبض أعيدها له". عشنا طويلًا بعد وفاة أبي نستدين من أبي حسن.

حين أنهيتُ تنضيد كتاب فرانسيس وين، لم أعد لقراءته مرة أخرى. كانت جرعات الألم تفوق قدرتي على التحمل. لكنّ ماركس بات دليلي، يحدد سلوكي اليومي، وانحيازي لطبقتي، حتى بات إعجابي بكاتب أو ممثل أو رسام أو فيلم رهن اقترابه من الفكر الماركسي. ولطالما باتت خياراتي في الصداقة مبنية على هذا الأساس. كنتُ رومانسية حالمة وأحببتُ ماركس الحالم أيضًا كما تصورته، لا سيما أنه كتب الأدب شعرًا ومسرحًا و وآية.

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأزور ألمانيا، لكن مصادفةً قادتني إلى برلين، وأردت أن أزور تمثالي ماركس وأنجلز

كنا فقراء. كثيرًا ما كنا نتبادل الثياب، أو نلبس ثياب أخوتنا التي ضاقت عليهم. وحين شببتُ بدأت أنتقي ثيابي بنفسي. لكنني، كغالبية السوريين، كنت أنتقيها من "البالة"، متاجر الثياب الأوروبية المستعملة. وهناك تعرّفت على الماركات: زارا، دويتشي أند غابانا، سبيريت، تماريس، أديداس، بينيتون وغيرها. كنت أتباهى بثيابي الأوروبية الجميلة، وكثيرًا ما وبختني صديقتي الأغلى على اعترافي بأنَّ ثيابي من "البالة". كنت قد عرفت معنى "فائض القيمة"، وعرفت أن كثيرًا من الماركات العالمية تستغل العمالة الرخيصة في بلدان فقيرة مثل بنغلاديش وتايوان وفيتنام، حيث تتقاضى العاملات هناك أجورًا بخسة لقاء صنع الملابس، بينما يقوم أصحاب تلك الماركات ببيعها بأسعار باهظة في أوروبا. هكذا عزفت عن شراء ماركات زارا وغيرها، حتى من متاجر الثياب المستعملة. ماركس ... ماركس، ماذا فعلتَ بي؟

حين اندلعت انتفاضات ما دُعي "الربيع العربي"، رأيت شبحًا كالذي تحدث عنه ماركس يحوم فوق البلدان العربية، يتهدد أنظمتها الحاكمة جميعًا، وقلت في سري: "قام ماركس، حقاً قام". لكنّ ما تلا كان مخيبًا للآمال، ولم تفض تلك الثورات إلا إلى مزيد من الديكتاتورية والخراب والفقر، وتغيَّر كثيرٌ من الماركسيين الذين كنت أحبّهم وأعجب بهم، ولم تعد الثورة تشبه ما كنت أحلم به وأنتظره.

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأزور ألمانيا، لكن مصادفةً قادتني إلى هنا، إلى برلين، وأردت أن أزور تمثالي ماركس وأنجلز. واعدتُ صديقة هناك، قالت لي: "نشرب القهوة ثم نذهب لزيارتهما". قلت: "لا، أزورهما أولًا". مشيت، من شوقي سبقني قلبي، كما لو كنت ذاهبة إلى موعد غرامي. قلبي يخفق بشدة. مشاعر كثيرة مرتبكة تمور في داخلي، لا أعرف كيف أصفها. خشوع أم ارتباك؟ مشاعر أشبه بمشاعر المتدينين وهم يزورون أماكنهم المقدسة.

اقتربت ووضعت يدي على يد ماركس، كما لو كنت أمسك بيد حبيب بعد غياب، كما القبلة الأولى، النشوة الأولى، حتى إنني شعرت بحرارة يده. يا له من تمثال! ضخم وأنا صغيرة. غيمة ماركسية تظللني الآن. ها أنا أجد ماركس أخيرًا. طلبت إلى صديقتي التقاط صور عديدة لي بين ماركس وإنجلز. تارة أمسك بيديهما وتارة أقف بينهما، إلى أن قالت في النهاية: "هنادي، ثمة أشخاص ينتظرون أن تنزلي. يريدون أن يأخذوا صورًا هم أيضًا مع التمثالين". لم أكن في وعيي وقتئذ. كنت أشعر مثل عاشق أناني أنَّ ماركس لي وحدي، لا أسمح لأحد بالاقتراب منه. من هؤلاء؟ ماذا يعرفون عن ماركس؟

ولأنَّ كلّ شوق يُسكّن باللقاء لا يُعوّل عليه، لم أكتف بتلك الزيارة. بل ذهبت مرة ثانية، وحدي هذه المرة. ذهبت مثل فتاة مراهقة تفضحها علائم الحب، وتخشى أن تسرقه منها صديقتها. وقفت أمام ماركس وجهًا لوجه. أعدتُ لمس أصابعه، أصابعه التي خطت تلك الكتب التي أحببتُ، وكانت ملهمة لكثير من الأدباء والفنانين والثورات والشعوب. أردتُ تقبيل رأسه، ولم أستطع. شكرت أنجلز كما لو كنا أصدقاء لعنايته بماركس.

نزلت، وأدرت لماركس ظهري، لكنَّ قلبي ظلّ معلقًا بأصابعه، وروحي ظلّت معلقة بعينيه اللتين تنظران إلى المستقبل. نزلت وأنا ما زلت أحلم بديكتاتورية البروليتاريا، وبثورة الجياع التي ستهب لتقتلع الأنظمة الجائرة.

شكرًا ماركس، بسببك وصلتُ إلى ما أنا عليه، بسببك ما زلت أحلم، وما زال الحلم يقودني لأكتب الشعر، الشعر الذي خلق لي جناحين كي أطير صوبك.

ليس مجددًا... ليس مجددًا

زرت المتحف اليهودي في برلين. أردتُ أن أعرف كيف يستثمر الإسرائيليون دور الضحية ويعيدون إنتاجه كل مرة، وكيف...

هنادي زرقة
رماد في قارورة

أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة