- "أريد أن أموت هنا [في اللاذقية]! هنا أهلي، هنا ناسي"، يقول صديقي في مكالمة هاتفية، ويسألني: "ألا تخشين الموت في ألمانيا؟".
فاجأتني العبارة، إذ لم يخطر الموت لي في بال، أنا المقبلة في ألمانيا على تجربة جديدة في الكتابة والحياة. لطالما عشتُ وحيدة، ولطالما أقلقني أن أموت وحيدة. لذلك وزّعت مفاتيح البيت على إخوتي، وخبأتُ مخاوفي من العجز والهجر والوحدة والموت في صندوق أسود، ورميته ورائي أسوة بذكريات كثيرة وأوراق وصور أحرقتها قبل أن أمضي.
تشبه تجربة السفر الطويل تجربة الموت. أردتُ ألا أترك أثرًا يدل على ما عشته من تجارب وخيبات. ماذا لو متُّ وراحوا يقلّبون أوراقي وصوري؟ أيّ خيبة سيقعون عليها؟ لعلّ ما كنت قد أفلحت في إخفائه إلى الآن سوف يقفز في وجوههم كعفريت العلبة ويقضّ مضاجعهم. بل إنني تركت كثيرًا من ملابسي ومن مقتنياتي التي تعبت في تسديد أثمانها، وقلت لإخوتي: "اقتسموها". لحظة الوداع يغدو كل شيء تافهًا، ونكتشف أنَّ ما من شيء يعادل حضنًا وقبلة.
في الطريق إلى بيروت كي أسافر منها إلى ألمانيا، كثيرًا ما شردتُ. بكيتُ حين تذكرت جملة صديقتي الأعزّ مها: "سوريا قبر كبير يسعنا جميعًا". لكنّ مها رحلت، وتركت غصّة لا ترحل. والقبر بعدها اتسع كثيرًا ليبتلع الأحياء قبل الأموات. لكني تذكّرتُ بمرارة أيضًا موت كثير من السوريين في الخارج، وعدم تمكّن ذويهم من وداعهم، وتساءلتُ: من يملك الحق في مصادرة تطلّع البشر لأن يُدفنوا في تراب وطنهم؟
في اتصال من صديق منفيٍّ منذ عام 1970، قال وهو على عتبات التسعين من العمر، إنّه لا يزال يحلم بالعودة إلى سوريا وبناء بيت في أرضه واختيار قبر قرب ابنه وابنته اللذين توفيا من دون أن يتاح له حضور جنازتيهما. كم عسيرٌ موتنا! ما الذي يدفع المنفيين والمهاجرين إلى مثل هذا الحلم، وهم يعيشون في بلد آخر حصلوا على جنسيته وتمتعوا بحقوق مواطنيه كاملة؟ ما الذي يُبقي على هذا الحنين القاتل؟ أهو شعور خاصٌّ بنا نحن الشرقيين؟
لقد سبق أن خبرت أنَّ هذا الشعور ليس حكرًا على المهاجرين وحدهم، فكثير ممن ولدوا في دمشق وسواها من محافظات سوريا وعاشوا فيها، أوصوا بأن يُدفنوا في قراهم، مع أنّ بعضهم لم يعش يومًا واحدًا فيها. كان الأمر هيّنًا من قبل، لكنّ الحرب السورية جعلت أمور الموت أعسر بكثير: "فوق الموتة عصّة القبر"، كما يقال.
عرفتُ حالات غريبة في هذه الحرب. في عام 2014، توفي في اللاذقية مُهجَّر أرمني من حلب. وذهبت زوجته بجثته وحيدة في سيارة مكشوفة لتدفنها، كما أوصى، في مقبرة العائلة في حلب. استغرقت الرحلة، كما روت لنا، نحو ثلاث وعشرين ساعة، واجهت فيها حواجز متنوعة، من حواجز النظام إلى حواجز جبهة "النصرة" وما بينها، وإطلاق نار ودفع أتاوات، لا لشيء إلّا كي تمرّ جثة إلى مثواها الأخير. وختمت المرأة كلامها، قائلةً: "في النهاية، لقد نفذت وصيته. سوف يرتاح الآن بين أهله!" يا للكلام، كما لو أنَّ الميت يشعر بمن حوله أو يحتاج إلى جيران يسامرونه في القبر.
لأنّ المقابر غصّت بضحايا الحرب، كان إيجاد مترين يضمّان رفات أمي أشبه بالمستحيل
قبل أن تُصاب أمي بألزهايمر، أوصتني بأن أدفنها قرب أبيها وأمها، في مقبرة أهلها التي لا تبعد عن مقبرة عائلتنا سوى خمسمئة متر. قالت لي: "اقبريني قرب أهلي وقرابتي". قضت أمي ستين عامًا مع عائلة أبي، لكنها فضلت أن تُدفن قرب أهلها. ولأنَّ المقابر غصّت بضحايا الحرب، وما من متّسع لقبور جديدة، كان إيجاد مترين يضمّان رفات أمي أشبه بالمستحيل. وجاء الحلّ، في النهاية، من صديق قال لي: "اطمئني، وجدتُ لها مكانًا، لكنّه بعيد قليلًا عن قبر أبيها!"
ما الذي يدور في أذهاننا لدى اقتراب الموت؟ هل نفكر بحياة أخرى تليه؟ أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة المخيفة، بعيدًا عن مساقط رؤوسنا؟ وما الذي يجعل تأكيد الانتماء بعد الموت هذا الهاجس الرهيب لدى المغترب؟ لماذا يحلم المهاجر والمنفيّ بالعودة إلى الوطن ولو في تابوت!
حلم بذلك المخرج السوري حاتم علي وحُمل نعشه من مصر إلى دمشق، وشيّعته قلوب أكثرية السوريين مع أنّه لم يكن مُرحَّبًا به لدى السلطات. وأوصى الدكتور ابراهيم أبو لغد بأن يُدفن في يافا قرب أخيه وأبيه وأجداده، هو الذي يحمل الجنسية الأميركية. وكما هو معلوم، فقد حرَّمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن يُدفن فلسطينيو الشتات في فلسطين، واعتبرت ذلك تأكيدًا على حقّ العودة. لكنّ ابنته ليلى احتالت على المنع، وألبسته بزّة رسمية وأجلسته في السيارة مدعية أنه سائح أميركي متعب تريد أن تنقله إلى المشفى. وفي المشفى في يافا، أصدرت شهادة وفاته ودفنته في مقبرة العائلة في جنازة مهيبة، كانت، منذ عام 1948، أوّل جنازة يُدفن فيها فلسطيني من الشتات في وطنه. وقرأتُ رواية طشاري لإنعام كججي فور صدورها 2013، ولم تكن المقبرة السورية قد اتسعت بعد. في تلك الرواية، تتشظى عائلة عراقية مسيحية في أرجاء المعمورة. ويقوم حفيد من العائلة بتصميم مقبرة افتراضية على شبكة الانترنت، كلما مات فرد في العائلة ضمّه إلى هذه المقبرة. لم يخطر لي أنَّ الأمر سيحدث مع السوريين، وأنَّ قبورنا سوف تتبعثر على هذا النحو وبهذا القدر في بقاع الأرض كلها، بحرًا ويابسةً.
أجل، أجل، أخاف الموت هنا. هذه أطول مدة أقضيها بعيدًا عن البيت. أشرد في لحظات كثيرة وأبكي. تقلقني أخبار الوفيات في الغربة، لا سيما أولئك الذين يعيشون وحدهم. أتفهّم حالات الاكتئاب لدى الغرباء. أنا في الخمسين، ولم يبق لي أكثر مما عشت. أستيقظ كلّ يوم على رسائل أخوتي. أسرع في الردّ عليها كي لا يقلقوا. يا لتلك الأسرة التي أدمنت القلق والخوف والبكاء! "أنا بخير"، أكتبُ وأخشى سماع أصواتهم أو رؤيتهم وعبراتي تفضحني.
ثمة مقبرة بجانب البيت الذي أسكنه. لا يمر أسبوع من دون أن أرى جنازة. لكن الموت هنا بارد شأنه شأن طقس هذي البلاد. قلّة من الناس تحضر مراسم الدفن، ثم تمضي مسرعة إلى شؤونها.
لا يموت الغرباء بالسرطان أو احتشاء القلب، بل يقتلهم الحنين وتفتك بهم الذكريات. يحمل الغرباء ذكرياتهم وشوارعهم ومقاهيهم معهم. كل ذكرى جديدة هي طارئة بالنسبة إليهم. يحاولون أن يجترحوا ذواكر جديدة ويخفقون. ثقل اللحظات التي عاشوها يبقى الخلفية التي يتحركون إزاءها. تخبرني صديقتي إنها حين فقدت أمل العودة إلى سوريا، قررت أن تنجب طفلة كي لا تنتحر! لم تتصور أنها ستعيش ممنوعة من العودة إلى سوريا بقية حياتها.
قاسية أنت يا سوريا قاسية!
قرأتُ مرة عن حياة النسور التي تستوطن قمم الجبال، وحين تهرم أو تُصاب بالعجز تنتحر، تقذف نفسها من شاهق الجبال صوب الأرض. الأنهار، أيضًا، تنبثق في أعالي الجبال وتنهي حياتها في مكان آخر. لماذا نفكر نحن البشر، في لحظة العجز والموت، في العودة إلى مسقط الرأس؟
حين مات إدوارد سعيد في الولايات المتحدة، أوصى بأن يُنثَر رماده فوق أرض عربية. هكذا نثروا رماده فوق برمانا في لبنان. يا له من أمر شاعري، سوف ينتشر الرماد ويطلع في نسغ الأشجار والأعشاب والزهور. ربما كان هذا أقصى ما يمكن لمنفي أن يحلم به. لكن ما من نص يعمق إحساسي بالانتماء مثل نص محمد سيدة:
عندما أموت
وتمتلئ عيناي بالتراب
ويحرق الصقيع
كل الغابات التي نمت على جسدي،
سأصبح موجة بحر زرقاء
تمسح برفق
قدمي مدينتي "اللاذقية"
إلى الأبد.
أجل، هي مدينتي التي سوف أموت فيها، ويختلط دمي ولحمي وعظامي بترابها.
منه جبلتُ،
إليه أعود.