العقوبات الاقتصادية والتدخّل الخارجي: القانون، النظرية، الواقع

من أراد وضع حدّ للطغاة الذين يذبحون شعوبهم كأنّها خراف يملكونها، عليه أن يثبت أنَّ هذا لن يكون باتجاه إحلال طغاة محليين جدد محلّ القدماء على خلفيةٍ من تدهور الدولة الوطنية باتجاه بنى ما قبل الدولة.

مشهد 1:

في التاسع من هذا الشهر، شباط 2023، غرّد صحفي إماراتي يُدعى محـمد تقي على "تويتر" في شأن المساعدات لسوريا بعد الزلزال، فأثار أيّما إثارة إعجاب كثير من الموالين السوريين الذين كثيرًا ما تميّزوا بضعف دفاعاتهم وحججهم وسلبيتها، أي اقتصارها على تصيّد مثالب الأطراف الأخرى من دون قدرة على المنافحة عن الذات. قال محـمد تقي:

"بعض الدول تعلّل تخاذلها في مساعدة سوريا عكس ما تقدمه لتركيا بحجة عدم الوثوق بالنظام السوري من تسليم تلك المساعدات للمناطق المنكوبة خارج سيطرة دمشق. الرد بسيط: نضع حكومة بشار الأسد جانبًا ويمكنكم إيصال المساعدات بالطريقة نفسها التي أوصلتم بها السلاح والإرهابيين طوال 12 عامًا".

تشير القراءة السابقة لهذه التغريدة إلى منطق كارثي لم يتزحزح قيد أنملة منذ 2011 على الأقلّ، مفاده أنَّ أخطاء خصمي أو جرائمه تُسَجَّل إيجابياتٍ وخيرًا في حسابي، وتجعلني نقيضه بالضرورة.

مشهد 2:

أمام واحد من المباني التي انهارت بسبب الزلزال في مدينة جبلة، وهو المبنى الذي كان مؤلّفًا من سبع طبقات، سكن في خامستها صديقا عمري د. فايز عطاف وزوجته د. هالة سعيد، وهما من أبرز أطباء سوريا علمًا وإنسانية، واصل عدد من السوريين، معهم بلدوزران ضخمان وأياديهم العارية وضميرهم الحيّ، إزاحة الأنقاض تحت المطر والريح والبرد الشديد، إنّما بتلك الخبرة الغائبة والبطء الشديد الذي ما كان ليُفلح في الكشف عن أيّ ناجين أو جثامينهم قبل أسبوع على الأقلّ. وفي اليوم الثاني، نحو الثانية ظهرًا، وصل فريق من خبراء الزلازل الروس بمعدّات محمولة بالأيدي وكلبين وانتشروا فوق ركام المبنى، وراحوا يعملون عملهم ويوجّهون عمل البلدوزرين، ولم تمض ساعات قليلة حتى استخرجوا الجثامين.

يشير هذا المشهد، علاوةً على النقص الفادح في استعدادات البلد للكوارث واستعداده الرهيب بالمقابل لاستجلاب آخر صرعات الموبايل وافتتاح أغلى المطاعم، إلى منطق كارثي لدى المعارضة السورية السائدة، لا سيما تلك الهاربة لا من مناطق النظام وحدها، بل مما دعته هي نفسها "مناطق محررة"، مفاده أنَّ العقوبات الأميركية والأوروبية لا أثر لها إلا على النظام.

العقوبات في القانون الدولي:

يمكن لمجلس الأمن أن يدعو إلى فرض عقوبات اقتصادية جماعية بمقتضى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، إذا كان قد قرر أولًا، بمقتضى المادة 39، أن هناك تهديدًا للسلام، أو خرقًا له أو عملًا من أعمال العدوان، وإذا كان الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلام والأمن الدوليين أو إعادتهما. وخلال تسعينيات القرن العشرين، فرض مجلس الأمن عقوبات من أنواع مختلفة ولمدد مختلفة على جنوب أفريقيا والعراق وأجزاء من يوغوسلافيا السابقة والصومال وليبيا وليبيريا وهايتي وأنغولا ورواندا والسودان. وكذلك، فقد درجت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على استخدام هذه العقوبات من دون موافقة مجلس الأمن ضد أنظمة مثل كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا.

عادةً ما تقتصر الانتقادات القانونية الموجّهة لفرض العقوبات الاقتصادية على ضرورة مراعاتها أحكام الميثاق الخاصة بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المواد 1 و55 و56)، انطلاقًا من وعيها أنَّ لهذه العقوبات، في جميع الأحوال تقريبًا، أثرًا محسوسًا على الحقوق التي يعترف بها الميثاق، من الاضطراب الذي تسببه في توزيع الأغذية والأدوية والإمدادات الصحية، مرورًا بتهديد نوعية الطعام وتوافر مياه الشرب النظيفة، وصولًا إلى عرقلة عمل الأنظمة الصحية والتعليمية الأساسية وتقويض الحق في العمل. بل إنّ عواقبها قد تشمل تعزيز سلطة الفئات المستبّدة، وظهور سوق سوداء بصورة تكاد تكون حتمية، وتوليد أرباح مفاجئة ضخمة للجماعات المتميزة التي تتصرف فيها، وتعزيز رقابة الفئات الحاكمة على السكان بشكل عام، وتقييد فرص التماس اللجوء أو التعبير عن المعارضة السياسية.

الاستثناءات الإنسانيّة للعقوبات ليس لها تأثير يُذكر، وأنَّ نطاقها محدود جدًا

يقتصر المنطق القانوني في ردّه على كلّ هذا على توفير "استثناءات إنسانية" تهدف إلى إتاحة تدفق السلع والخدمات الأساسية الموجهة لأغراض إنسانية. ومن المفترض بصفة عامة أن هذه الاستثناءات تضمن الاحترام الأساسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلد المستهدف.

غير أن عددًا من الدراسات التي أجرتها الأمم المتحدة حديثًا وغيرها من الدراسات الأخرى التي حللت أثر العقوبات، انتهت إلى أن هذه الاستثناءات ليس لها ذلك التأثير، وأنَّ نطاقها محدود جدًا. بل إنَّ دراسة رئيسية أعدتها للجمعية العامة للأمم غراسا ماشيل حول أثر النزاع المسلح على الأطفال، بيّنت أن "الاستثناءات الإنسانية تميل إلى الغموض وتفسَّر بشكل اعتباطي وغير متجانس [...]. كما أن حالات التأخير والفوضى، ورفض طلبات استيراد السلع الإنسانية الضرورية تسبب نقص الموارد [...] ولا بد أن تكون [تأثيراتها] أشدّ وطأة على الفقراء".

الهدف الوحيد الذي يتوخّاه مثل هذا الرد القانوني هو استرعاء الانتباه إلى ضرورة ألّا يفقد سكان بلد معين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب أي قناعة بأن قادتهم قد انتهكوا أعرافًا تتصل بالسلام والأمن الدوليين. فالهدف ليس تقديم الدعم أو التشجيع لمثل أولئك القادة، ولا تقويض أو إضعاف المصالح المشروعة للمجتمع الدولي في فرض الاحترام لأحكام ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ العامة للقانون الدولي. بل هو الإصرار على أن الخروج على القانون من جانب ينبغي ألاّ يقابله خروج على القانون من نوع آخر لا يهتم بالحقوق الأساسية التي تكمن وراء أي عمل جماعي من هذا القبيل، ويضفي عليه الشرعية.

العقوبات والتدخّل الخارجي في النظرية وفي الواقع:

كانت حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر قد أَعْلَت من شأن فكرة "الكونية" والقيم الإنسانية الجامعة وأقامتها على أساس متين هو الطبيعة الإنسانية المشتركة؛ فرأت أنَّ اشتراك البشر في الطبيعة الإنسانية السامية يقتضي أن تكون لهم مطالب سياسية وأخلاقية بعضهم تجاه بعض كي ينعموا بما يجدر أن ينعموا به من حرية وسعادة وعدل، لأن مثل هذه المسائل أهم وأخطر من أن تُتْرَك لرحمة ما هو محلّي ولنزوات الأسياد والطغاة وأهوائهم. وإذا ما كان صحيحًا أنَّ هذه الفكرة ارتبطت بالطبقة الوسطى البرجوازية الغربية البيضاء والذكورية التي انتهكتها أيّما انتهاك في الداخل والخارج ولم تمنح الاحترام المتساوي للجميع (العمال، النساء، غير الأوروبيين، الفلاحين الفقراء...)، إلا أنّ حرية الجميع صارت مهمة في النظرية على الأقلّ. وكان هذا تقدمًا ضخمًا، وصار بمقدور أولئك الذين قمعهم مجتمع الطبقة الوسطى أن يواجهوه شاهرين في وجهه منطقه هو نفسه، وقد أمسكوا به في حالة من التناقض بين ما يقول وما يفعل. وهذا شكل من النقد أمضى على الدوام بالمقارنة مع ذلك الشكل الذي يعمل على تقويم النظام الاجتماعي ونقده قبالة قيم لا يُعتَرَف بصحتها.

بعبارة أخرى، يبقى هذا المذهب الكوني الذي يرتّب مطالب للبشر كلّهم تجاه بعضهم بعضًا، سلاحًا فكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا ماضيًا في مواجهة لا الطغاة المحليين فحسب بل في مواجهة الاستغلال الأوروبي والأميركي للعالم أيضًا، إذ يمسك بهذا الأخير وهو ينتهك في الممارسة ما يدّعيه في النظرية. ولذلك، ليس من الحصافة، ولا من السهولة النظرية ولا الأخلاقية أن يُرفَض كلّ تدخّل للبشر في شؤون غيرهم من البشر رفضًا مطلقًا ودائمًا. ومن الضروري الدفاع عن "الكونية" في وجه ممارسات الطغم المحلية المتوحشة التي تحتمي بـ"الخصوصية" وبأشكال بائسة من "الوطنية" تكاد تقتصر على الفتك بشعوبها ومعارضاتها، كما هو من الضروري الدفاع عن "الكونية" ذاتها في وجه ضواري العالم الكبار الذين اقتصر تدخّلهم الأناني المُغرِض في أرجاء هذا الكون على دفع مناطقه الفقيرة مزيدًا من الدفع في مهاوي الدمار والخراب البنيوي والخروج من التاريخ على الأصعدة كافة، على نحو ما نجد في العراق والصومال وليبيا وسوريا وسواها الكثير.

تكاد التدخلات المعاصرة كلها أن تكون جزءًا من مشروع للهيمنة خلّع بُنى ما دُعي بـ"العالم الثالث"

ما يعنيه هذا هو أنَّ العالم، إذا ما أراد أن يضع حدًّا للطغاة الذين يذبحون شعوبهم كأنّها خراف يملكونها، عليه أن يثبت أنَّ هذا لن يكون بأيدي طغاة عالميين يذبحون هذه الشعوب ذاتها ويمتصون دماءها، وأنّه لن يكون باتجاه إحلال طغاة محليين جدد محلّ القدماء على خلفيةٍ من تدهور الدولة الوطنية باتجاه بنى ما قبل الدولة لا باتجاه القيم العالمية الأوسع. وإلى أن تغدو "الكونية" ومعها التدخّل مشروع العالم ككل، العالم الذي أصلح منظماته الدولية وأقامها على أسس العدل والمساواة لا على هيمنة الأقوياء وتفرّدهم، فإنَّه محل شكّ، كما تثبت تجارب التاريخ وكما يثبت التحليل النظري، أن يفضي التدخّل إلا إلى مزيد من الغوص في حمأة التخلف والظلم والاستبداد.

تكاد التدخلات المعاصرة كلها أن تكون جزءًا من مشروع للهيمنة خلّع بُنى ما دُعي بـ"العالم الثالث"، ويكاد يطيح في أشكاله الأميركية الحالية المنفلتة من كل عقال بكلّ ما أنجزته الاستقلالات وحركات التحرر الوطني. كانت التدخلات الأميركية السابقة والحالية، على اختلاف أشكالها، جزءًا من مشروع وقفت على رأسه الطبقة القائدة في الولايات المتحدة ونخبها "الجمهورية" و"الديمقراطية" خدمةً للشركات الأميركية عابرة القوميات أساسًا، وهو مشروع إمبريالي بمعناه الفظّ الذي يرمي إلى النهب وحده وإلقاء البلد المنهوب على قارعة الخراب والفوضى المتعاظمة التي تستدعي مزيدًا من الفظاظة والعنف.

ترتكز التدخلات الأميركية الحالية على فرط القوة العسكرية التي لا تكفّ عن انتهاك المبادئ الليبرالية المدّعاة أكثر مما ترتكز على مزايا النظام الاقتصادي الأميركي. فهذا الأخير ربما لا يستطيع كسب الرهان على منافسيه في سوق مفتوحة فعلًا، كما يتخيّلها الاقتصاديون الليبراليون، ولذلك نرى السياسات الحمائية الأميركية الشديدة ودعم الدولة لقطاع السلاح المتفوق شبه الوحيد بين بقية القطاعات الاقتصادية والذي كثيرًا ما يتفلّت من قواعد السوق. هكذا تبدو أفضلية الولايات المتحدة، على حدّ تعبير سمير أمين، أشبه بأفضلية قنّاص يغطي عجزه الآخرون، طوعًا أو قسرًا. وهذا ما يجعله في حالة "حرب دائمة" ربما يحتاج فهمها، علاوةً على فهم بنية عالمنا الحالي، إحاطةً بالتشكل التاريخي للرأسمالية الأميركية الشمالية وخصوصياتها: الثورة الأميركية التي كانت حربًا محدودة من أجل الاستقلال ووقف تقاسم المغانم مع الطبقة المسيطرة في الوطن الأم من دون أبعاد اجتماعية كالتي عرفتها الثورة الفرنسية مثلًا؛ إبادة السكان الأصليين واستمرار العبودية؛ البروتستانتية المتطرفة الناجمة عن تكييف التأويل الديني لا عن تحوّل جذري في هذا التأويل؛ تشكّل الأمة من مجموعات من المهاجرين الذين ينشدون النجاح الفردي والانضواء في آفاق لا تتعدى جماعاتهم وطوائفهم بدل الانضواء في أحزاب معارضة؛ ديمقراطية تكاد تقتصر على جانبها الانتخابي وإدارة الاقتصاد من دون إدارة الحياة السياسية .. إلخ.

أخيرًا، إنَّ عدم الرضا الذي وجدناه لدى زمر في "المعارضة" السورية المطالبة بالتدخل الخارجي عن سياسة أوباما وترامب وخيبة أملهم إزاء إحجامهما عن ضرب سوريا عسكريًا، ومطالبتهم بمواصلة العقوبات التي لم يتضرر منها سوى الشعب السوري، إنما تضعهم في موضع أقرب سياسيًا وعقليًا وأخلاقيًا إلى تلك الزمرة من مجرمي الحرب اليمينية المتطرفة التي ارتبطت بريغان وآل بوش والمحافظين الجدد، تلك الزمرة التي جاءت ببوش الصغير بعد انتخابات مثيرة للشكوك ليسرّع تنفيذ سياسة مرسومة مسبقًا، مستغلًا الحادي عشر من أيلول 2001، على نحوٍ يشبه كثيرًا استغلال النازية حريق الرايخستاغ كي تصفي المعارضة وتحضّر للحرب.


قاتلُ زولينغن وديّانوه

استنكرت جريمة زولينغن في ألمانيا وأدانتها بيانات كثيرة أصدرتها حكومات ومنظمات وأفراد. غير أنّ بيانًا..

ثائر ديب
شغّيلٌ من أرضِ عاملةٍ: في خطر غياب أمثال حبيب صادق

لعلّه لم يعد هناك كثيرون مثل حبيب صادق، لا بدَّ أن نعترف. بل إنّ أمثاله سوف يتلاشون إذا ما واصلت..

ثائر ديب
ميلان كونديرا: عن عنصريٍّ مبتذَل وفرائِسِهِ الفَرِحَة

غادر كونديرا الستالينية بعد إنهاء القوات السوفييتية في عام 1968 "ربيع براغ"، تلك الحركة من داخل الشيوعية..

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة