أثرُ العقوبات المديد

فاعليّة سلاح العقوبات الأميركي تعود بالدرجة الأولى لعاملَين. الأول يتمثل بمكانة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، والثاني بقدرة أميركا على تحديد نقاط الضعف في اقتصاد الخصم الذي تسعى إلى استهدافه.

في مقالة سابقة نُشرت على "أوان" في مايو/أيار 2019، ناقشتُ دوافع الولايات المتحدة، برئاسة دونالد ترامب، للتوسع في استخدام سلاح العقوبات. مقاربةُ تلك المقالة تقوم على فكرة أن واشنطن تكثر من استخدام سلاح العقوبات قبل أن تخسر فوائده بسبب المتغييرات التي يمر بها الاقتصاد العالمي.ولكن اليوم، بعد نحو أربعة أعوام، تبدو مقولة رئيس الوزراء الألماني أوتو فون بسمارك أن "هناك عناية إلهية خاصة ترعى الحمقى والسكارى والأطفال والولايات المتحدة" في مكانها. فسلاح العقوبات لا يزال فعالًا، والولايات المتحدة نجحت – بحسب ما تظهر تجربة الحرب الروسية - الأوكرانية – بحشد الكثير من حلفائها وشركائها إلى جانبها، بما يعزز من فاعلية هذا السلاح ضد خصومها، خصوصًا روسيا والصين.

فاعليّة سلاح العقوبات الأميركي تعود بالدرجة الأولى لعاملَين. الأول يتمثل بمكانة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي وفي شبكات التجارة والصناعة، بمعنى أن حرية المُعاقبين أميركيًا تعتمد بشكل حصري على قدرتهم على الحصول على منتجات لا تساهم الولايات المتحدة بأي شكل في تصنيعها، وكذلك على استخدام قنوات مالية لا نفوذ للولايات المتحدة عليها. أما العامل الثاني فيتمثل بقدرة أميركا على تحديد نقاط الضعف في اقتصاد الخصم الذي تسعى إلى استهدافه. ويمكن القول إن تجربة الحصار الشامل، المقر أمميًا، الذي فُرض على العراق بعد غزو الكويت، كانت استثناءً لا يمكن تكراره. ولم يبقَ لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة سوى الانكباب على دراسة خصومها لتوجيه العقوبات نحو نقاط الضعف في الاقتصاد.

تجربة إيران، تحديدًا، تظهر أن حزم العقوبات التي أعادت إدارة ترامب فرضها ألحقت أضرارًا بالاقتصاد الإيراني منذ 2018 أكثر بكثير مما فعلت خلال السنوات السابقة للاتفاق النووي (تحديدًا 2010-2015). يمكن الوصول إلى هذه الخلاصة عبر التدقيق في مؤشرات اقتصادية مختلفة، بينها انخفاض الناتج المحلي الإيراني مما يعادل 626 مليار دولار في 2011 إلى 408 مليارًا في 2015، ثم من 486 مليارًا في 2017 إلى 231 مليارًا في 2020. ويظهر هذا الأمر كذلك في حجم الاستنزاف الواسع لأصول الدولة الإيرانية التي خُصخصت خلال السنوات الأخيرة. فاعليّة العقوبات الأميركية على إيران تظهر أيضًا في التزام الصين بها على وجه الخصوص. فإدارة ترامب فرضت في سبتمبر/أيلول 2019 عقوبات على أكبر شركة شحن بحري في العالم، وهي COSCO الصينية، لنقلها النفط الإيراني المحظور. رُفعت العقوبات في يناير/كانون الثاني 2020 بعد أن تعهدت الشركة الصينية بعدم مخالفة العقوبات.

لا تتعلق فاعليّة العقوبات بالجهات التي عاقبتها الولايات المتحدة فعلًا، بل بالجهات التي "يمكن" أن تعاقبها

العزوف الصيني عن خرق العقوبات الأميركية دفع إيران إلى تولي هذه المهمة بنفسها عبر مضاعفة حجم أسطولها من ناقلات النفط. الأسطول الإيراني – الرسمي وغير الرسمي – كان يتراوح في 2019 بين 32 و50 ناقلة. وفي العام 2021 بات العدد بالتأكيد يزيد عن 200، بينما ترفع بعض التقديرات الرقم إلى 300 ناقلة نفط، تقوم غالبيتها بنقل النفط للصين ولمشترين آخرين، على أن يتم الحصول على عوائد النفط على شكل بضائع أو تحويلات مالية لشركات وهمية بين هونغ كونغ ودبي ومراكز مالية أخرى، قبل أن تصل إلى إيران، فيما تتابع الإدارة الأميركية إصدار قوائم عقوبات بحق الشركات التي يثبت تورطها. هي لعبة قط وفأر بين الولايات المتحدة وإيران. وهذه اللعبة هي ما يثني الكثير من الشركات عن التعامل مع إيران – أو حتى مع الشركات التي يشتبه بعلاقتها بإيران – وذلك خشية التعرض، ولو بعد سنوات، للعقوبات الأميركية، أو الاضطرار إلى دفع غرامة مخالفة العقوبات، كما حصل مع العملاق المالي الألماني Deutsche Bank في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 – بعد توقيع الاتفاق النووي – عندما قبل دفع غرامة تبلغ 200 مليون دولار بسبب تعاملات مالية أجراها مع إيران قبل قرابة عقد من الزمن. المختصر إذًا أن العقوبات الأميركية لا تزال فعالة.

تجددُ الحديثِ الآن عن فاعلية العقوبات الأميركية يتعلق بقراِر الإدارة الأميركية تعليقَ العقوبات المفروضة على سوريا لمدة ستة أشهر، لتسهيل التعاملات المالية المتعلقة بعمليات الإغاثة المرتبطة بالزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 فبراير/شباط. القرار بطبيعة الحال جاء كمناورة من الإدارة الأميركية للالتفاف على الضغوط الداخلية والخارجية، وكذلك لتحميل مسؤولية ملف المساعدات الإغاثية وتعقيداته لدمشق. الغموض المحيط بالقرار، وقيوده الزمنية، سيثني الكثير من الدول والشركات عن التفكير بتعاملات مالية وتجارية ذات مغزى مع سوريا. كما أن تأكيد قرار الخزانة الأميركية على أن الإعفاء لا يسمح بتعاملات مالية مباشرة بين سوريا والولايات المتحدة، يرجح أن يحول دون وصول منتجات وخدمات ضرورية لإصلاح البنية التحتية في أعقاب الزلزال.

النسخ الأحدث من هواتف iPhone الأميركية ستستمر بالظهور في أسواق دمشق في اليوم نفسه الذي تُطرح فيه لأول مرة في أسواق دبي. ولكن مثل هذه المنتجات هي محور اهتمام نخبة الـ0.1% في سوريا. فيما باتت مشكلة الغالبية العظمى من السوريين تتعلق بالبنى التحتية ومتطلباتها. ومن يعيش في سوريا، حتى قبل الزلزال، لابد أنه لاحظ، خصوصًا منذ إقرار عقوبات قانون "قيصر"، تسارع تدهور خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات، رغم توقف العمليات العسكرية التي ألحقت أضرارًا كبيرة بهذه البنى في السنوات السابقة. المشترك بين القطاعات الثلاث هو حاجتها للطاقة، كمادة وكمكونات بنى تحتية. المشترك بين منشآت الصناعة النفطية والبتروكيماوية ومنشآت المياه هو الحاجة للأنابيب والصمامات التي تشملها عقوبات قانون "قيصر". البنى التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية في سوريا باتت تعاني بدورها من نقص قطع الغيار ومتطلبات الصيانة الإلكترونية المشمولة بنفس القانون.

إذًا، كررت الولايات المتحدة – ولو على نطاق ضيق – ما فعلته مع العراق عندما حظرت عليه استيراد كل شيء تقريبًا بذريعة احتمالية ازدواجية الاستخدام – المدني والعسكري – لهذه المستوردات. بالمثل، فإن قانون "قيصر" لم يحرم سوريا من الحصول على طيف واسع من المكونات المادية الحيوية فحسب، بل حرمها أيضًا من الحصول على طيف واسع من الخدمات، بما فيها عمليات الإنشاءات. تلويح قانون "قيصر" بمعاقبة كل من يقدم "الدعم" للحكومة السورية أجبر العديد من الشركات على الخروج من سوريا لتجنب سوط العقوبات. حتى شركات صيانة أجهزة الصراف الآلي ATM - مثل شركة CSC اللبنانية – انسحبت سريعًا من السوق السورية في أعقاب فرض عقوبات "قيصر". مركز أبحاث RAND المقرب من البنتاغون لخص فاعليّة قانون "قيصر" في 8 يوليو/تموز 2021 بالقول إنها لا تتعلق بالجهات التي عاقبتها الولايات المتحدة فعلًا، بل بالجهات التي "يمكن" أن تعاقبها.

قرار الخزانة الأميركية منحَ إعفاء ضيّق النطاق لمدة ستة أشهر لسوريا يُظهر أهمية هذه الجزئية: أي احتمالية التعرض للعقوبات. فالقرار ترك غموضًا كبيرًا في وضع شديد التعقيد: فهل إزالة حطام المباني وإعادة تفعيل شبكات المياه والكهرباء وإعادتها فقط كما كانت قبل فجر 6 فبراير/شباط يدخل في نطاق العمليات الإغاثية أم في عمليات إعادة الإعمار التي لا تزال مشمولة بشكل صريح بالعقوبات؟

وبعيدًا عن شيطان التفاصيل الذي يمنح العقوبات قوتها، تجدر الإشارة إلى أن الغموض أو الخشية من العقوبات الأميركية ليست وحدها ما يثني الكثير من دول العالم عن تقديم المساعدة لسوريا. إذ لا توجد عقوبات تحول دون إجراء الاتصالات الرسمية وإصدار بيانات التعزية والمواساة. ومن المرجح أن حركة "طالبان" في أفغانستان قد تلقت اتصالات دولية ووعود بالمساعدة، في أعقاب زلزال يونيو/حزيران 2022، يفوق ما تلقته الحكومة السورية. هذه مقارنة مقلقة للمدى المتوسط والطويل – أي ما بعد الأشهر الستة من تعليق العقوبات الأميركية. فما تعيشه سوريا من عزلة خانقة بات مرتبطًا بملفات كبرى لا قدرة لسوريا على التدخل فيها – كالصراع الروسي - الأميركي والأجندة الإيرانية في المنطقة. هذه الملفات المعقدة لا تتأثر بحملات الدعاية والعلاقات العامة التي يمكن استئجار الشركات والوكالات الغربية لتحريكها في الغرب. وما يبقى بعد مناقشة هذه النقاط هو البحث في ما إذا كانت سوريا قادرة أو راغبة بالمناورة سياسيًا لتجنب تبعات العقوبات، أو ما إذا كانت مستعدة لتغيير معادلات الاقتصاد السياسي التي تعتمدها لاحتواء تأثير العقوبات. دراسة تجربة العقد الماضي – أو العقديين الماضيين – لا تدفع باتجاه توقع أي من هذين الاحتمالين، ما يعني أن العقوبات وتأثيراتها ستبقى لسنوات عديدة مقبلة.


الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات..

محمد صالح الفتيح
حسمٌ متعثر في طرابلس وتفضيل دولي للوضع الراهن

إن كان سوء الظن من حسن الفطن، فلا بد من التساؤل عما إذا كانت مصالح شركات النفط الفرنسية، توتال،..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة