الزلزال والسياسة

طرح واجب التدخّل الإنقاذي السريع قضايا سياسيّة، أكثر منها لوجستيّة، كانت معظم الدول عالقة بها في حروبها بالوكالة على أرض سوريا. أمام هذا الحرج، فضّلت غالبية الدول الكبرى ألاّ تتدخّل للإنقاذ.

سمير العيطة
زيدون الزعبي


لم يكن حجم الكارثة البشريّة التي أدّى إليها زلزال 6 شباط/فبراير في تركيا وسوريا ليَخفى على قادة الدول الكبرى بعد لحظات من وقوعه. وكما في حال مثله من الكوارث الضخمة، تحرّكت فورًا أجهزة هذه الدول لتقديم مساعدات عاجلة بغرض إنقاذ أرواح البشر العالقين تحت الأنقاض. لكن الأمر لم يقتصر على الفرق والآليّات المتخصّصة في البحث والإسعاف، بل تجاوزها لحساب ما يمكن أن يقدّمه الزلزال لسياسات هذه الدول! إذ إن الزلزال فتح باب أسئلة السياسة الكبرى، حرجًا وفرصًا وانتهازًا!

كان واضحًا أنّ حجم تداعيات الزلزال أكبر من قدرات الدولة التركيّة ومنظّماتها الإغاثيّة على التدخّل السريع، رغم أهميّة هذه القدرات. وكان واضحًا أيضًا أنّ الدولة السوريّة والمنظّمات العاملة على أراضيها، التي أنهكتها سنوات الصراع الاثنتي عشرة وفساد سلطاتها وعقوبات الغرب عليها، تفتقر إلى القدرة على مواجهة الكارثة.

تداعت دولٌ كثيرة لمساعدة تركيا في مناطق يشكّل الكرد واللاجئون السوريّون جزءًا ملحوظًا من سكّانها. لكنّ الوصول إلى لواء الاسكندرون (هاطاي) وعاصمته أنطاكية، الرمزيّة للمسيحيّة الأولى وللعرب العلويين، تأخّر كثيرًا. الطرق مدمّرة ومرفأ اسكندرونة يحترق. في حين كان قليلًا عدد الدول العربيّة والأجنبيّة التي أرسلت فرق إنقاذ إلى سوريا المقسّمة إلى مناطق نفوذ. إذ طرح واجب التدخّل الإنقاذي السريع قضايا سياسيّة، أكثر منها لوجستيّة، كانت معظم الدول عالقة بها في حروبها بالوكالة على أرض سوريا.

كيف يمكن إرسال المساعدات إلى سوريا مرورًا بتركيا المنكوبة؟ وكيف يمكن الموازنة بين مناطق السيطرة المختلفة، سواء وصلنا إلى إدلب من دمشق، أو إلى اللاذقية من إدلب، أو بلغنا "ريف حلب المعارضة" من "ريف حلب النظام"؟ كيف يُمكِن إرسال فرق وآليّات إلى مناطق إدلب، الخاضعة لـ"هيئة تحرير الشام" المصنّفة عالميًّا إرهابيّة؟ وكيف يُمكن إرسالها إلى عفرين وجنديرس المنكوبتين وهما في منطقة كانت ذات غالبية كرديّة وتمّ "تحريرها" من قبل فصائل مسلحّة "معارضة" و"توطين" نازحين من مناطق أخرى فيها؟ وكيف يُمكِن إرسالها إلى مدينة حلب التي تمّ التخلّي عن "المعارضة" فيها، أو إلى الساحل السوري "المتّهم بمناصرة الأسد"، وهو بين الأكثر تضرّرًا، في حين أن العلاقات مقطوعة مع الحكومة السوريّة الرسميّة؟

أمام هذا الحرج، فضّلت غالبية الدول الكبرى ألاّ تتدخّل للإنقاذ في سوريا، وأن تظهر الدول الداعمة للمعارضة بمظهر من تخلّى عنها بعدما كانت تمدّها بالمساعدات عبر معبر باب الهوى بين تركيا وسوريا. ولم تكُن الأمم المتحدة على قدر المسؤوليّة، علمًا بأنّها الأكثر قدرة على التحرّك في ظلّ هذا الحرج.

كان يُمكِن لفرق الإنقاذ ومعدّاتها أن تأتي عبر لبنان أو العراق أو الأردن، لتعذّر الوصول عبر تركيا، وأن يتمّ إرسالها إلى مناطق السيطرة الثلاث: إدلب وشمال حلب والحكوميّة. فهل كانت السلطات السوريّة لتجرؤ على منع قافلة إنقاذ من عبور حدود هذه الدول نحو البلدات المنكوبة؟

كان يُمكِن لكارثة الزلزال أن تشكِّل منطلقًا لكسر شرذمة سوريا من قبل كلّ تلك الدول التي تصرّح دوريًّا أنّها مع "وحدة الأراضي السوريّة"، ودون الحاجة في الحقيقية إلى مصافحة رأس السلطة. وكان يُمكِن لقوافل الإنقاذ أن تكون تحت علم الأمم المتحدة أو أيٍّ من الدول التي ما زالت لها علاقات دبلوماسيّة مع سوريا.

كيف سيُعاد إعمار ما تهدّم؟ ومن سيقرّر من سيسكُن، وأين، بعد الزلزال؟

لقد تجلّى حرج الدول من خيار سياسة اللامساعدة الإنقاذيّة في سوريا عبر تخبّط التصريحات. "نحن لا نريد أن يسرِق النظام المساعدات"، "هناك مصاعب لوجستية"، "الطرق مدمّرة"، "ندرس كيفية تقديم المساعدات دون التطبيع مع النظام". في حين أن الأمر هو حول فرق إنقاذ ومعدّات رفع أنقاض ووقود، قبل الطعام والدواء الذين يُخشى عليهما من السرقة! وثمة من قال "نحن لا نتعامل إلاّ مع شركائنا"، في حين أنه معلومٌ أنّ "هيئة تحرير الشام" هي على الجانب الآخر من معبر باب الهوى، وأنّ التعامل عبر "قوّات سوريا الديموقراطيّة"، المصنّفة تركيًا إرهابيّة، سيضيّع الأثر الإيجابي للمساعدات الإنقاذيّة إلى تركيا. هكذا، أمام الحرج، اضطرّت الولايات المتحدة إلى تعليق الإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) من جانبها لمدّة ستّة أشهر، بينما بقي الاتحاد الأوروبي صامتًا.

تجلّى الحرج أيضًا في القنوات الفضائيّة، المسيّسة بطبيعة الحال. أي دمار تغطّي وأي من جهود الإنقاذ؟ وكيف تطرح الأسئلة على "الخبراء" المعتمدين؟ 

لقد مات من مات تحت الأنقاض. إلاّ أنّ التحديات الإنسانيّة والسياسيّة ما زالت قائمة، وما زال قائمًا الحرج الذي يرافقها. فهناك اليوم مئات الآلاف دون مأوى وعلاج وسبل معيشة، في تركيا وسوريا. 

هنا، أيضًا، لا تستطيع تركيا وحدها تأمين كافة مستلزمات "الإغاثة" الآنية للمتضرّرين لديها. فما بالنا بسوريا!

لقد استمرّت الإغاثة أصلًا في مناطق إدلب وشمال حلب لسنين بشكلٍ عينيّ رغم توفّر جميع المواد في الأسواق عبر التجارة مع تركيا، ولم تُستبدل بمساعدات ماليّة. حصل هذا رغم كلّ الانتقادات حول إحباط الإنتاج المحليّ، وكذلك رغم اتهام منظّمات الإغاثة المحليّة والدوليّة بالفساد، وانتقاد أجور عامليها العالية بالمقارنة مع ما يتمّ توزيعه، وحاجة هذه المنظّمات إلى التعامل مع الفصائل المسلّحة (التي بالمناسبة لم نشاهدها ترفع الأنقاض وتنقذ العالقين تحتها). اليوم، لم يعُد المعنيّون بالإغاثة هم وحدهم النازحون (الذين يشكّلون نصف السكّان)، بل بات السكّان المقيمون الذين تهدّمت منازلهم نازحين أيضًا. كذلك، هل سيُترَك الذين يقطنون المناطق الخاضعة للسلطة السوريّة دون إغاثة؟ لقد افتقد هؤلاء الوقود والكهرباء ورزحت غالبيتهم تحت الفقر حتّى قبل الزلزال. كيف ستُنظَم هذه الإغاثة حتى لا تُسرق المواد التي تقدمها، علمًا بأنّ فوضى الحرب جعلت السلاح هو الحاكم في كلّ مكان، رغم الصور "التجميليّة" حول التضامن والإدارة الرشيدة على ضفاف الحرب كافة؟

أبعد من ذلك؛ كيف سيُعاد إعمار ما تهدّم؟ ومن سيقرّر من سيسكُن، وأين، بعد الزلزال؟ كل هذا في ظلّ حساسيّة دوليّة من تعبير "إعادة الإعمار" في سوريا، وحساسيّة داخليّة وإقليميّة من "إعادة الهندسة الديموغرافيّة" في البلاد. فهل سيخلق الزلزال فرصة إضافيّة للسلطة السوريّة للاستيلاء على عقارات بغية المضاربة وجني الريع؟ وهل سيُعاد إعمار "قصور سرمدا وأعزاز" التي شيّدت بمواصفات تقنيّة سيّئة، وانهارت بعد أن كانت مجالًا لتبييض ريوع نُهِبَت من المساعدات الدوليّة؟

لقد أعاد الزلزال خلط أوراق سوريا سياسيًا، وشكّل فرصة لأن تُعيد الأطراف السوريّة النظر في خطابها، وألا تُمعِن في خطابها التقسيميّ اللعين. الزلزال كارثة السوريين الثانية بعد كارثة حربهم. لا معنى الآن لمهاجمة هذا الطرف أو ذاك، ولا وقت الآن لمعاقبة هذا الطرف أو ذاك. الزلزال هو الكارثة ــ الفرصة، ولا شيء يُمكِن أن يقوم دون عودة التواصل بين مختلف مناطق الشرذمة السوريّة، أو من دون دولة متخلّصة من أمراء الحرب. 

هكذا، تخلق تحديات ما بعد الزلزال إحراجات لا نهاية لها، وتفترِض، في الوقت عينه، إعادة تقييم سياسات الدول الكبرى تجاه سوريا، خصوصًا في ظل انشغال العواصم الغربيّة بالحرب في أوكرانيا ومع المبالغ المالية الضخمة التي يوظّفها الغرب في هذه الحرب، وغياب التفاهم مع روسيا والصين حول حلٍّ سياسيّ في سوريا.

لكنّ السياسة هي فنّ الممكن. والكوارث الطبيعيّة تشكّل فرصةً كي تخرج الأطراف المعنية كافة من المآزق التي وضعت نفسها فيها على حساب الموت البطيء للسوريين. والزلزال يعيد سوريا إلى أولويّات الساحة.

بالطبع تتحمّل الدول العربيّة، خصوصًا السعودية والإمارات ومصر، مسؤوليّة كبرى في محاولة إنقاذ الشعب السوري من محنته ومن الصراع بالوكالة على أرضه وبشره.

في المقابل، من اللافت اليوم أنّ المحنة خلقت تضامنًا سوريًّا ـ سوريًّا، وسوريًّا ـ تركيًّا، وريفيًّا ـ مدينيًّا على المستوى الشعبي، يتخطّى الانتماءات العربيّة والتركمانيّة والكرديّة والتجاذبات المذهبيّة. فأين الدول الأخرى التي تصارعت في سوريا وعليها من مسؤوليّاتها، الإنسانيّة والسياسيّة؟