هل نحتفي بالحياة بعد كل هذا الموت؟

لماذا كان على رئيفة سميع أن تموت قبل أن نقول لها إن اختلافنا في السياسة لا يفسد حبنا لك، وقبل أن نتذكر أنها تحركت وحدها وأصبحت صوتًا مهمًا في إدلب وفي أوساط المعارضة وتمكنت باقتدار من حمل رسالتها؟

قبل أيام من وقوع كارثة زلزال سوريا وتركيا، توفي الشاعر الكبير شوقي بغدادي. كان اسمه شبه غائب عن فضاءات الصراعات السياسية والاتهامات والتخوين. أول ما لفتني كان نعيه من قبل أشخاص على كامل الجغرافيا السورية وعبر انقساماتها السياسية والاجتماعية. نعاه المتهم بـ"دعم الاستبداد" وذاك المتهم بـ"العمالة للغرب". لم يوضح أي منهم - في كل ما قرأت - ما الذي جعله محط إجماع سوري! لماذا كان موقفه السياسي غير مستفز لداعمي هذا الطرف أو ذاك؟! لماذا كان موقفه السياسي محترمًا رغم إجماع جميع الأطراف على شتم الصامتين ونعتهم بالرمادية؟! ربما لسنّه؟ لتاريخه الأدبي؟ لمكانته بوصفه مثقفًا وصاحب موقف؟ صمته؟ ربما كل ذلك، أو لا شيء منه. لست أدري!

قبله بنحو عام، مات حسان عباس. عاش حسان في المكان المقابل. في بيروت، بعد أن فر من دمشق. وأيضًا نعاه أشخاص من مختلف الانتماءات وأصحاب المواقف المتضادة، رغم موقفه السياسي الواضح والمعارض للسلطة في دمشق. لماذا هو أيضًا يحظى بمثل هذا النعي؟ ولماذا نال حاتم علي مثله أيضًا؟ لم نتحدث كثيرًا عن مواقفهم السياسية لحظة وفاتهم، ولم نتحفظ على نعي من كان في المكان الآخر. تحدثنا بجرأة عن مآثرهم. لم يكن حديثًا عن "محاسن الموتى"، كان أبعد من ذلك بكثير. لماذا يجمعنا الموت ولا تجمعنا الحياة؟ لماذا؟

قبل أيام فُجعت، وفجع كثرٌ غيري بوفاة المناضلة رئيفة سميع. كان رحيلها قاسيًا على كل من عرفها. على من صادقها، ومن حالفها، ومن خالفها، بل ومن عاداها. بكاها كل من عرفها. في دمشق، وطرطوس، والسويداء، وإدلب، وحلب. في المغترب وفي الداخل.

لماذا كان على رئيفة أن تموت قبل أن نقول لها: إننا نحبك، وإن اختلافنا في السياسة لا يفسد حبنا لك؟ لماذا كان على رئيفة أن تموت قبل أن نتذكر أن هذه "الخياطة" تحركت وحدها وأصبحت صوتًا مهمًا في إدلب وفي أوساط المعارضة، وأننا كلنا إعجاب بقدرتها على حمل رسالة عظيمة، بل قل رسالات؟

متى سننسى رئيفة كما نسينا حسان وشوقي وحاتم؟ ومتى نعود إلى سابق عهدنا في التخوين والعداء؟

فقط بعد أن ماتت تذكرنا نضالها في مناهضة الاعتقال، والمطالبة بالإفراج عن كل من غُيب في السجون. فقط بعد أن ماتت تذكرنا نضالها للنهوض بواقع النساء في إدلب وسوريا. فقط بعد أن ماتت تذكرنا أن ثقافتها ثرّة، وأن علمها مسخر لحقوق النساء كما كانت هي تراها، لا كما نحن نريد. لماذا لم نقل لرئيفة: أنت عظيمة، قبل أن تموت؟ لماذا خشينا "إسلاميتها" عندما كانت حية، وهللنا لاختلافنا معها بعد موتها؟ ألم يكن هذا الاختلاف أولى بالاحتفاء قبل أن تموت رئيفة؟

لماذا كان على الزلزال أن يحدث قبل أن نتذكر أن سوريا واحدة؟ وأن الضحايا كلهم من سوريا؟ لماذا لم نسأل عن الدين والطائفة والموقف السياسي والعرق عندما جاء الزلزال؟

يا ترى كم سيموت منا قبل أن نعي أن عدونا الأول هو الموت الجماعي المحقق؟ وكم سنحتفي بمن نعادي اليوم، بعد موتهم؟

والآن، متى سننسى الزلزال وضحاياه؟ ومتى سننسى الحرب وضحاياها؟ ومتى سننسى رئيفة كما نسينا حسان وشوقي وحاتم؟ ومتى نعود إلى سابق عهدنا في التخوين والعداء؟ هل سينسينا الزلزال كراهيتنا؟ هل تهز رجَّاته ضمائرنا قبل أن ننعاها هي الأخرى ولا نجد من يحتفي بها؟

الزلزال هز الأرض، وابتلع أجساد من نحب دون أن يميز بين مناطق سيطرة وأخرى. لم يعرف مؤيدًا ولا معارضًا، لا كرديًا ولا عربيًا، لا علمانيًا ولا إسلاميًا، الزلزال قتل أحبتنا، فهل يقتل كراهيتنا؟

هل يصبح موت رئيفة والآلاف سواها فرصة نجاة سوريا؟ هل سنحتفي بالحياة بعد كل هذا الموت؟

المجد لسوريا ولرئيفة وللإنسان!

 

*رئيفة سميع: سيدة سورية من إدلب، كانت تعمل في الخياطة قبل العام 2011، كانت أول سيدة تحصل على عضوية المجلس المحلي لمدينة إدلب (مُعارض). عضوة المجلس الاستشاري النسائي الذي أسسه المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، وعضوة اللجنة الدستورية السورية. توفيت تحت أنقاض منزلها في أنطاكيا.

سويداء "الوطن للجميع" وحدودها الخمسة

هل ما قام به جزء من المشاركين في حراك السويداء تأكيد على هوية محليّة منسجمة مع هويّة وطنية جامعة؟ أم أنه..

زيدون الزعبي
ملعب العقوبات القذر(ة)

فجأة، ولأيام عدة، هي الأكثر مصيرية في حيوات من تحت الأنقاض، صار الجدال الأساسي هو: يجب إزالة العقوبات..

زيدون الزعبي
أمّة لا توسّط عندها!

تواجه عملية حماية "الوسط" في العالم العربي تحديات جمّة. أولها وأهمها هو الاستبداد السياسي الذي يسعى إلى..

زيدون الزعبي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة